من يشتغل عامة ليله بالقيام أو قراءة القرآن مع نهاره عسى أن يكون؟ لقد أصبح عليه الصباح في مدينة النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصبحت المدينة هديرًا يتحرك فيها الناس؛ هذا يعمل في متجره، وآخر في مزرعته، وهذا يطوف متوضأ ينتقل بين مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاجته، ولكن القوم لا غيبة ولا نميمة ولا ضوضاء ولا حديث في مجريات الأمور ولا فيما كان ويكون .. إنما هو الذكر والتسبيح والتهليل أو كلام فيما ينتفع به الناس.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله أشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله، اللهم صلّ وسلم وزد وأنعم عليه وعلى آله وصحابته وعترته.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد
والله ليست مهام الخطيب بالأمر السهل، فعن أيّ شيء أتحدث؟! عن صومال جائع يكاد أن يموت فيه ثلاثة ملايين نسمة، أم عن أنفس تتقطع كل يوم وليلة على دك المدافع وقتال الشبيحة في الشام؟!
عن أي شيء أتحدث؟! عن إخواننا في فلسطين .. القضايا كثيرة، لكنني مع ذلك أيها الإخوة لا أريد أن أغفل هذه المناسبة، وإني وإياكم لنجد ريح رمضان من وراء هذه الأيام:
الخيـر بادٍ فيك، والإحسـانُ *** والذكـر، والقـرآن يا رمضانُ
والصوم فيك عبادة، ورياضة *** تسمــو بهـا الأرواح والأبدانُ
والليل فيك نسائم هفهافة *** رقصت لطيب عبيرها الرهبان
ربما يحسن أحيانًا بي وبكم أن ننخلع من واقعنا ومن شعورنا، وأن ننتقل من واقع آخر وحياة أخرى وشعور آخر.
اخترت أيها الإخوة أن أصطحبكم وأن نذهب لزيارة لمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- نتلمس فيها أنوار الحُجَر، نتلمس فيها تعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وافيناه في ليلة من ليالي رمضان أردنا أن نستأذن عليه فلم يأذن لنا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- في خلوة مع جبريل عليه السلام.
أي شيء جاء يصنع مع جبريل؟! جاء يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن، والمدينة قد لفها السكون ولفها الظلام فلا تسمع إلا همهمات التالين هنا وهناك، ولا ترى إلا بصيص نور هنا أو هناك لتالٍ يتلو قرآنًا، أو لمتلمس موضع قد قام من هجوعه يتلمس إداوة يتوضأ منها أو مكان يركع فيه ويسجد.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تأدب في جلسته، وأخذ يستمع لجبريل وهو يتلو عليه القرآن عليه غضًّا كما سمعه من المولى -عز وجل- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض ما عنده من القرآن.
لكن ابنة النبي فاطمة تحدثنا أن المعارضة هذه السنة تختلف عن غيرها، في كل رمضان كان لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- موعد واحد مع جبريل يعارضه القرآن، لكن هذه السنة حدث أمرٌ لم يحدث من قبل، جبريل يعارض القرآن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين، ترى لماذا؟
لأنه لن يعرض عليه القرآن بعد هذه السنة؛ لأنه لن يكون في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان آخر وهذه المعارضة كانت في حنادس الظلم وسكون الكون، فلما سألنا ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ترجمان القرآن قال لنا: "إن المدارسة لا تكون إلا ليلاً؛ لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل: 6].
انحرفنا قليلاً من حجرات أمهات المؤمنين من مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك المدينة التي يلفها جريد النخل، ويلفها السكون فسمعنا همهمات أبي موسى الأشعري، وتمتمات عمر بن الخطاب وتلاوات ابن مسعود، وترنم طلحة .. كلهم يقرأ القرآن في حنادس الظلم، وحنينه بالليل أطيب مسمعًا من نغمة النايات والعيدان.
ما أحوجنا إلى جرعة من واقع السلف والرعيل الأول هي لعمري كنفضة الكهرباء التي ربما حرّكت مشلولاً أو أثرت في مرتخي أعصابنا.
الأسود بن يزيد كان حاله مع القرآن عجبًا يختم على مدار العام في كل ستة ليالٍ ختمة واحدة لا يمر عليه أسبوع حتى يعرض نفسه على القرآن، أما إذا جاء رمضان فإنه يختم في كل ليلتين، وكذلك كان سعيد بن جبير.
مالك بن أنس إمام دار الهجرة يضرب إليه الناس آباط الإبل وأكبادها، صاحب الموطأ، صاحب الحِلَق الذي أفتى ولما يبلغ السابعة عشرة من عمره، وقد شهد له أربعون من أهل العمائم، هذا الإمام الجهبذ الذي بشَّر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قديمًا كانت حاله في رمضان أنه يطوي الموطأ، ويفر من مجالس أهل العلم، ويشرع المصحف ولا شيء غير المصحف، يطلق رأسه على المصحف لا يرفع رأسه من المصحف.
هذا حال العباد، وهذا حال أهل العلم، لعلك تقول: إنني مشغول ومتاعب الحياة كثيرة وعليَّ تبعات، وعلى رقبتي التزامات ..!!
أقول لك: إن الوليد بن عبدالملك الذي كان يسوس الدنيا كان حاله مع القرآن أنه يختم في كل ثلاث ختمة، وفي رمضان يختم سبع عشرة ختمة.
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح في كل ثلاث ليالٍ بختمة.
من لم يقرأ القرآن في رمضان، من لم يوالِ الختمات في رمضان، متى عساه يقرأه؟! والقرآن ظرفه ومحله ومتنزله في رمضان.
إن بين رمضان وبين القرآن علاقة التوأم السيامي الذي لا يمكن أن يفصله الربيع ولا غيره.
أيها الإخوة: وإن كنا في حنادس الظُلَم نطوف ونتجول في المدينة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعجبه أحيانًا أن يأوي إلى دار أبي موسى الأشعري يقف ويجلس هنيهة ليستمع القرآن من فم أبي موسى الأشعري مزمارًا من مزامير آل داود، هذا كان يعجب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
دعونا نتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنرى حال القائمين والراكعين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، استمعوا إلى أمر الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام- فالتمسوه وامتثلوه (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 1- 4]، وقال سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، فقاموا ينفضون النوم والكرى، قاموا ينفضون الدافئ من الفراش، ويتركونه قيامًا.
روى الإمام مالك في الموطأ بسنده عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب أُبَي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر".
ليالي رمضان كانوا يقضونها بالصلاة لا ينصرفون إلا في فروع الفجر أي: إلا عند قدوم الفجر، ليس بين انتهاء الإمام من صلاة القيام وبين صلاة الفجر إلا مقدار ما يشرب الواحد منهم ماء أو يتناول خبزاً.
وعن عبد الرحمن بن هرمز قال: "كان القراء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها القراء في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفّف عنهم".
لم يكن الأمر يسيرًا، القوم ليسوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا مما يكبر في صدوركم .. لا، القوم كان عندهم من أعباء الكد والعمل في نهار رمضان ما يعييهم، صحيح أن المدينة كانت صغيرة، صحيح أن مطالب القوم كانت قليلة، صحيح أنهم لم تلههم ماديات الحياة ولم يكن في جيب أحدهم أيفون ولا أيباد، ولم يكن عنده سيارة، لكن أحدهم كان يحتاج حين يحتطب أن يقضي طيلة النهار سيرًا وبحثًا على الحطب، كان أحدهم يحتاج أن يقضي سحابة نهاره وهو يرعى غنمًا أو إبلاً حتى يحصل منها على غبوق يعود به إلى أهله.
إذاً كانت حياتهم فيها من الكد والتعب ما فيها؛ لذلك قال الحسن البصري: "لم أجد شيئًا من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل"، لكنه عذاب يُستعذب وألم يُستملح.
عذابي فيك عذب *** وبُعدي فيك قرب
وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني *** لما تحب أحب
أبو عثمان النهدي يصف لنا حال بيت من بيوتات المدينة، أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- يقول أبو عثمان النهدي: "تضيفت أبا هريرة -رضي الله عنه- سبع ليال فوجدته يقسم الليل ثلاثة أثلاث هو وزوجه والخادم، كلما نام أحدهم أيقظ الآخر ليقوم من حنادس الظلم".
قصدت باب الرضا والناس قد رقدوا *** وبت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا أملي في كل نائبة *** يا من عليه بكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها *** ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مفتقرًا *** إليك يا خير من مُدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة *** فبحر جودك يروي كل من يرد
من يشتغل عامة ليله بالقيام أو قراءة القرآن مع نهاره عسى أن يكون؟ لقد أصبح عليه الصباح في مدينة النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصبحت المدينة هديرًا يتحرك فيها الناس؛ هذا يعمل في متجره، وآخر في مزرعته، وهذا يطوف متوضأ ينتقل بين مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاجته، ولكن القوم لا غيبة ولا نميمة ولا ضوضاء ولا حديث في مجريات الأمور ولا فيما كان ويكون .. إنما هو الذكر والتسبيح والتهليل أو كلام فيما ينتفع به الناس.
لقد صانوا ألسنتهم؛ لأنهم أصبحوا صيامًا عن اللغو والرفث، صيامًا عن سفاسف الأمور؛ إذ حقيقة الصيام هو كبت الجوارح، وإمساك النفس عن أن ترتع في سفاسف الأمور، هو تحليق وسياحة وسباحة في معالي الأمور.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، قانون ما أجمله ودستور ما أروعه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إذا أصبح أحدكم في يوم صائم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرئ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم".
شعاره ودثاره "إني صائم" لا رفث، لا لغو، لا حديثًا مسترسلاً، لا غيبة، لا نميمة، إلى غير ذلك من الأمور، كانوا آية في صون اللسان، أبو هريرة نفسه يقول: "إذا كنت صائمًا فلا تجهل ولا تساب، وإن جهل عليك أحد فقل "إني صائم".
وجابر -رضي الله عنه- يزيدنا من الشعر بيتًا فيقول: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم"، يا ليت جابر يُبعث ليرى أذى الخادم، أذى المكفول، أذى السائق، أذى الخادمة "ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم فطرك ويوم صومك سواء".
أما أبو ذر فيقول "إذا صمت فلتحفظ ما استطعت"، وهذا علي بن أبي طالب يقول: "إن الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو ".
عادة القوم، كلامهم يُعَدّ، ليس عندهم تزيد في الكلام، ليس عندهم تزيد في العبارات ولا تنميق، لو أراد العادّ أن يعد كلامهم لعدّه.
مجاهد يقول: "خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب"، وأبو العالية تلميذ ابن عباس يقول: "الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدًا".
إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ *** وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صَمتُ
فحظي إذن من صومي الجوع والظما *** فإن قلتُ: إني صمت يومي فما صُمت
لا تسمعوا لهم همسًا، ولا تكاد تجد لهم ركزًا، تمتمات في الذكر، قراءة للقرآن، قضاء للوقت في العمل، وعامة ما يفعلون أن يحبسوا أنفسهم في المساجد يقولون بلسان الحال والمقال: نحفظ صومنا ونحفظ جوارحنا.
لكنهم مع ذلك لهم دبيب وحركة يتلمسون الفقراء، وأماكن المعوزين فيذهبون إليهم بما فضل من طعامهم وشرابهم، كيف والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان آية في الجود والندى في رمضان؟!
اسمع رعاك الله إلى ابن عباس يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن"، وقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود من الريح المرسلة"، قال زين العراق أثَّر في النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو فينا مؤثر من باب أولى "مجالسة الصالحين، وترداد القرآن، والزمن الفاضل" إذا اجتمعت هذه الثلاثة فلم تُوقَ شُحّ نفسك فابكِ على نفسك.
إذا اجتمع رمضان والصيام والقرآن فلم تجد نفسك باذلاً ولا سخيًا، فابك على نفسك، (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة، والله ما ادخر طعامًا لغد، والله ما سأله سائل فقال لا.
ما قال لا قط إلا في تشهده *** لولا التشهد كانت لاؤه نعم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي شهد له الأعرابي فقال: "يا قومي أسلموا؛ فقد جئتكم من عند من يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".
تعود بسط الكف حتى لو أنه *** أراد انقباضًا لم تطعه أنامله
هو البحر من أيّ الجهات أتيته *** فدُرته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه إلا روحه *** لجاد به، فليتق الله سائله
صلوات الله وتسليماته عليه..
كان حماد بن أبي سليمان يفطّر في شهر رمضان خمسمائة إنسان، وكان يطعمهم بعد العيد، أو يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم.
اشتهى بعض الصالحين طعامًا يفطر عليه فوضع الطعام الذي يشتهيه بعد طول صيام بين يديه، فسمع سائلاً ينادي من خلف الدور "من يقرض المليء الوفي الغني"، فأجابه "عبده المعدم من الحسنات"، ثم قام فأخذ الصحفة فدفعها إلى هذا الفقير وبات طاويًا.
الإمام أحمد سمع سائلاً يسأل وكان عند أحمد رغيفان يريد أن يفطر عليهما، فجاء السائل فدفع إليه أحمد الرغيفين لم يقتسم معه، وبات طاويًا جائعًا رحمه الله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8- 9]
ما أحوجنا لهذا الخطاب وإخواننا في الصومال يموتون جوعًا، أكثر من عشرة ملايين نسمة في شرق إفريقيا ضربهم جفاف قاتل، ثلاثة ملايين في الصومال من إخوانكم مهددون بالجوع.
حدثني أحد الغيورين اليوم يقول: لو دعوت الناس من الأغنياء أن يكفل أسرة في الصومال يعني ما مقداره ثلاثمائة ريال تقريبًا لو فعلنا ذلك لانتهى شبح المجاعة في الصومال، فقط لو كفل كل واحد منا أسرة واحدة، الآمال معلقة بعد الله –تعالى- بنداء خادم الحرمين، وإنني أناشده من هذا المكان أن يدعو لهبّة جماعية لإغاثة هذا الشعب المسلم الذي توالت عليه النكبات من كل مكان، وهي عادة هذه البلد الطيب وشعبه المعطاء أن يمدوا يد العون لإخوانهم من الجيران والأقارب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، طوبى للمستغفرين.
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم بارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
البعض يقول: إنك حين تذكر أحوال السلف -رضوان الله عليهم ورحمهم الله- إنما تصيبنا بمزيد من الإحباط، لأننا لا نستطيع أن نقدم عشر معشار ما قدم القوم!!
أقول: إذا كان البعض ينظر من هذه الزاوية؛ فإن البعض الآخر ينظر من زاوية أخرى، البعض الآخر يرى أنها دافع للعمل، وأن هذه الأحاديث مشمرة للعزائم، وهكذا أنا أرى وهو مذهبي أن سيرة القوم يحيي الله -عز وجل- بها العزائم، ويحيي الله -عز وجل- بها الهمم، والآخر يقول:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالْمُقْعَد
ألم يقل الله تعالى لنبيه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] إذاً نحن على الغرز، أسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا بما سمعنا.
قصص القوم وسِيَرهم أكثر من أن يحصيها خطيب في خطبة جمعة، ولكنني أهيب بنفسي وإخواني ترطيبًا لقلوبنا وتلييننا لأرواحنا أن نكبّ هذه الأيام على سير السلف -رضوان الله عليهم- من صحابة وقرابة وتابعين وتابعي التابعين الرعيل الأول الثلاثة القرون الذين زكاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه قل أن يقرأ في سِيَرهم أحد إلا انتفع وعاد ذلك بالرقة على قلبه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي