واعلموا أن الدنيا دار بلاء، ومنزل ظعنة وعناء، قد نزعت عنها نفوس السعداء، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء، فأسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها أرغبهم فيها، هي الفاتنة لمن انتصحها، والمغرية لمن أطاعها، والخائبة لمن انقاد إليها، الفائز من أعرض عنها، والهالك من رغب فيهان طوبى لعبد اتقى فيها ربه، وناصح نفسه، وقدم توبته، وأخر شهوته ..
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله؛ قد أفلح من زيَّنه الله في قلبه، وأدخله الإسلام بعد كفره، وحبب إليه القرآن، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس.
إن أحسن الحديث وأبلغه كتاب الله، أحبوا من أحب الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسُ عنه قلوبكم، واعلموا أن الدنيا دار بلاء، ومنزل ظعنة وعناء، قد نزعت عنها نفوس السعداء، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء، فأسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم بها أرغبهم فيها، هي الفاتنة لمن انتصحها، والمغرية لمن أطاعها، والخائبة لمن انقاد إليها، الفائز من أعرض عنها، والهالك من رغب فيهان طوبى لعبد اتقى فيها ربه، وناصح نفسه، وقدم توبته، وأخر شهوته، من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة؛ فيصبح في بطن موحشة عفراء، مدلهمة ظلماء، لا يستطيع أن يزيد في حسنة، ولا ينقص من سيئة، ثم ينشر فيحشر، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو على نار لا ينفذ عذابها.
فما لنا فيها أيها الناس؟! كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، بيوتهم أجداثهم، ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل موعظة، وقد أَمِنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق من مال اكتسبه من حلال في غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن ذلت نفسه، وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السُّنة، ولم تستهوه البدعة.
أيها الناس: لا يتطاولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ولا يلهينكم الأمل؛ فكل ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، و"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال".
وشر الرؤيا رؤيا الكذب، لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا يعد الرجل ابنه وأخاه ثم لا ينجز له: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة" و"إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار" وإنه يقال للصادق: صدق وبر، ويقال للكاذب: كذب وفجر، فإن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
أيها الناس: إياكم والظلم؛ فإن "الظلم ظلمات يوم القيامة". وإياكم الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش والتفحش. وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي