إنّ كثيرا من الناس يتأثر بقوة المخلوق، ولا يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله، وإن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والأرض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله...
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده -سبحانه- وأشكره وأتوب إليه واستغفره، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هو أخشى الناس لربه وأتقى، دلَّ على سبيل الهدى، وحذَّر من طريق الردى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، معالم الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد: فأوصي نفسي قبل إخوتي بتقوى الله العلي الكبير، كما أمر، فقد وعد بالزيادة لمن شكر، والدرجات العلا لمن صبر وغفر، فالتقوى هي الغاية المنشودة والدرة المفقودة.
عباد الله: إن الله -عز وجل- قد أودع كتابه الحكيم كنوز الخيرات، ورأس المهمات، وجعل هذا القرآن العظيم نورا وهداية وإرشادا للعالمين كافة، وذلك شريطة أن يتدبروا فيه ويتعرفوا على معانيه، فهو كتاب تدبر واعتبار، احتوى الكثير من الأسرار والأخبار، وقد أمرنا في هذا القرآن بالكثير من الأوامر التي من اعتصم بها نجا، ومن عمل بها اهتدى.
ومن الأمور العظيمة التي حض عليها الشارع الكريم في محكم التنزيل؛ أمره -عز وجل- في عدة آيات بالتدبر في الكون والخلق والنفس، وكيف أنشأ الله الخلق من عدم، وبديع صنعه وعظيم منته على خلقه فيما يسر لها من سبل العيش بتسخير ما في الكون كله لخدمة الإنسان، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [ البقرة 164]، وقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ العنكبوت 19، 20], وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) [الروم 8] ومعظم آيات سورة النحل وسورة الروم تدور حول التدبر والتفكر في خلق الله -عز وجل-.
إن هذا الكم الضخم من الآيات المحكمات في كتاب الله، جاءت للتأكيد على قدرة الله -عز وجل- الشاملة، التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، فإن آيات الله الدالة على قدرته، وعظمة خلقه، موجودة منذ بداية الخلق، وجميعها تنبئ بعظمة الخالق -جل جلاله-، وتجذب الإنسان للانقياد لربه، والتسليم له، والتسبيح بحمده, ثم يعطي الله -سبحانه- عطاءً متجدداً بعد ذلك لكل جيل غير الجيل الذي قبله، وذلك ليعلم الناس أن الله -سبحانه- قائم على ملكه، لا يتخلى عنه لحظة واحدة، وأنه كان قادرا ولازال ولم يزل قادر, وأن له عطاءً متجدداً كل يوم، بل كل ساعة، بل كل لحظة، حتى لا يحس البشر أن الله -سبحانه- خلق هذا الكون العظيم، ثم تركه بعد ذلك يعمل بالأسباب وحدها, بل لا بد مع السنن الكونية التي خلقها الله، وسير بها هذا الكون، وجعلها تعمل بأمره، لا بد مع ذلك من ظهور قدرة الله التي تكشف وتعطي وتمنح.
إخوة الإسلام والعقيدة: إن نظرة إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعجائب، ونظرة إلى هذه الأجرام والكواكب والنجوم التي لا تحصى وهي منتثرة في ذلك الفضاء الهائل الذي لا تعلم له حدود، وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها، محافظةً على مداراتها تسبح بحمد ربها، وتؤدي وظيفتها، وكلها لا تختل ولا تبطئ ولا تسرع، بل تسير حسب أمر ربها، جاريةً في الفضاء ما يمسكها إلا الله لهي كفيلة بإسلام الخلق جميعا, قال -عز وجل-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191].
ونظرة أخرى في عالم الجماد وأنواعه، وفي عالم الحيوان وأشكاله، وفي عالم الإنسان وعجائبه، وفي عالم النبات وأنواعه وثماره, إن نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية، والقوة الإلهية القاهرة القادرة على خلق هذه المخلوقات، وحفظها وإمساكها وحفظ توازنها: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر: 41].
عباد الله: إن القادر والمقتدر والقدير كلها من أسماء الله الحسنى, ومشتقة من صفته القدرة، وتعني في جملتها السيطرة والتمكن والهيمنة, كما تعني التقسيم والتنظيم والتخطيط، وقد وردت كلمة "القادر" (12) مرة، خمس منها بصيغة الجمع، وورد اسم الله "القدير" (45) مرة في سور متعددة من القرآن الكريم، وأما اسمه "المقتدر" فقد ورد (4) مرات، والقدير في اللغة من صيغ المبالغة، قال ابن منظور: "القادر والقَدِيرُ من صفات الله -عز وجل- يكونان من القُدْرَة ويكونان من التقدير، فالله -عز وجل- على كل شيء قدير، والله -سبحانه- مُقَدِّرُ كُلِّ شيء وقاضيه، والقدير -سبحانه- وتعالى هو الذي يتولى تنفيذ المقادير ويخلقها على ما جاء في سابق التقدير.
وتأمل معي -عبد الله- كيف كبّرَ الله بعض المخلوقات كالعرش والكرسي، والسموات والأرض, وصغّرَ بعضها كالذرة والبعوضة، والنملة والنطفة, وجعل لكل من الصغير والكبير حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة، وكثّرَ -سبحانه- بعض المخلوقات كالتراب والنبات والذرات، وقلّل بعضها كالذهب والفضة، والمعادن, وجعل -سبحانه- لكل من الكثير والقليل حكمة، وفي كل واحد منهما آية وعِبرة، وقوّى -سبحانه- بعض المخلوقات كجبريل الذي خلق الله له ستمائة جناح، جناح منها يسد الأفق، وأَضعف بعض المخلوقات كالإنسان والبعوض, وله -سبحانه- في خلق القوي والضعيف حكمة، وفي كل منهما آية وعبرة، وهو -سبحانه- القادر الذي رفع بعض المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والجبال والأشجار، ووضع بعضها كالأرض وما فيها وما عليها، والبحار والأنهار، وهو -سبحانه- القادر الذي جمع بعض المخلوقات كالجبال والبحار، وفرق بعضها كالنجوم والرمال، والثمار والأوراق.
فسبحان الخلاق العليم الذي فاوت بين مخلوقاته، فخلق الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والثقيل والخفيف، وأحيى بعضها وأمات بعضها، وخلق المخلوقات وفرقها في ملكوت في السماء والأرض, ففي البر خلائق لا تحصى، وفي الجو خلائق لا تعد، وفي البحر خلائق لا تحصى، وفي السماء خلائق لا تعد.
ومن كمال قدرته الشاملة وبديع صنعه في خلقه؛ أنه -سبحانه- وتعالى خلق الأضداد، وجعل التفاوت في الصفات، -سبحانه- العليم الخبير الذي هو على كل شيء قدير، ومشاهد قدرته على خلق الأضداد كثيرة منها: أحياء لا تعيش إلا في البحار ولو خرجت لماتت، وأحياء لا تعيش إلا في البر ولو أدخلت البحر لماتت، ومخلوقات تعيش في الحالتين, وملائكة يسبِّحون الليل وملائكة يسبِّحون النهار وجميعهم لا يفترون: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [لقمان: 11].
وهو -سبحانه- الخلاق العليم الذي خلق الرياح الشديدة، والصواعق المهلكة، والزلازل المدمرة، والبراكين المفزعة، والخسوف التي تطول الأشجار والبيوت والبشر، يصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، من مؤمن وكافر، ومحسن وظالم: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
وخلق -سبحانه- الجنة وما فيها من النعيم لأهل طاعته، وخلق النار وما فيها من العذاب لأهل معصيته، وخلد هؤلاء وهؤلاء, وهو القادر أن يخرج من النار إلى الجنة من يشاء فهو على كل شيء قدير، وقدرته مطلقة, أحياناً ما يوجد يكون نتيجة لفعل الأسباب كما جعل الله الماء سبباً للحياة، والوطء سبباً للإنجاب، وأحياناً يظهر قدرته -سبحانه- بضد الأسباب كما جعل -سبحانه- النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وكما خلق آدم من غير أب ولا أم وحواء كذلك خلق عيس من غير أب قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 59]، ووهب لإبراهيم و زكريا أولادا رغم وجود مانعين: الكبر, ووجود العقم. خلق الماء والنار، وجعل وظيفة الماء الإرواء والإحياء والإغراق، وجعل وظيفة النار الإنارة والإنضاج والإحراق.
ورغم هذا التفاوت وهذا التضاد بين المخلوقات، فإنه -سبحانه- وتعالى من كمال قدرته ونافذ مشيئته، يقلب الأضداد ويسلبها خصائصها ومؤثراتها، كرامة منه -عز وجل- لبعض عباده، وإذا اجتهد الإنسان على الإيمان، وقام بالأعمال الصالحة، وجاء عنده كمال الإيمان والتقوى، فالله يسخر له المخلوقات، ويغير أحوالها بقدرته، فيجعل النافع ضاراً بقدرته، كما جعل الماء الذي هو سبب الحياة سبباً لهلاك فرعون وقومه، وسبباً لنجاة موسى وقومه، في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد قال الله (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 65 - 67]، وكما جعل الماء سبباً لنجاة نوح ومن آمن معه، وموسى وكان صغيرا في التابوت, وفلق له البحر ومن معه فنجاه ومن معه, وجعله سبباً لهلاك قوم نوح في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد قال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) [الأعراف: 64].
وهو -سبحانه- قادر على جعل الضار نافعاً كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم -عليه السلام- قال -سبحانه-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 69، 70]، وكما تربى موسى -عليه السلام- في قصر عدوه فرعون.
ويعز -سبحانه- بأسباب الذلة كما أعز موسى -عليه السلام- وأذل فرعون، وكما أعز محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأذل قريشاً. ويذل -سبحانه- بأسباب العزة من يشاء كما أذل فرعون مع ملكه، وأذل قارون مع ماله وأذل الوليد بن المغيرة مع وجود ذريته وأذل أبا لهب مع حسبه, ويرحم -سبحانه- بأسباب العذاب من يشاء كما أنجى الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في النار.
ويعذب بأسباب الرحمة كما دمّر عاداً بالريح العقيم، وأغرق قوم نوح بالماء. وينجي -سبحانه- بأسباب الهلاك كما أنجى الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في النار، وأنجى يونس -صلى الله عليه وسلم- في بطن الحوت.
ويهلك -سبحانه- بأسباب النجاة كما أهلك فرعون وقومه في طريق البحر اليابس الآمن حين تبعوا موسى -صلى الله عليه وسلم-, ويحفظ -سبحانه- بأسباب الهلاك كما أنجى موسى من الغرق لما ألقي في البحر في التابوت، وتربى في بيت عدوه فرعون, وحفظ إبراهيم -عليه السلام- في النار, ويهلك -سبحانه- بأسباب الحفظ كما أهلك قوم ثمود في بيوتهم بالصيحة.
إخوة الإسلام: لقد قرن الله -عز وجل- في كتابه الكريم بين سننه في تصريف شئون كونه، وسننه في تصريف شئون خلقه؛ ليربي أهل الإيمان على طلاقة قدرته ومشيئته في كونه، وخلقه، وأن القادر على تدبير الكون بحكمته وعدله، هو القادر على تدبير أمور خلقه بحكمته وعدله، وهذا سر أسرار اسم الله القدير القادر المقتدر.
وهنا نموذج قرآني يبيّن طلاقة القدرة الإلهية, ونفوذها في الكون والخلق، قال تعالى: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ و تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران 28، 29] قال السعدي -رحمه الله-: "فيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومَن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، وقوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ و تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته، (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ). كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من بذره، وكالمؤمن من الكافر, (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ), كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر، وكالحب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئًا، فخلقه تعالى الأضداد، والضد من ضده بيان أنها مقهورة".
عباد الله: إن ظهور قدرة الله لا تتم إلا إذا استنفذ الإنسان الأسباب أولاً، فإذا فرغ الإنسان من فعل الأسباب المأمور بها ولم تعطه شيئاً، رفع يديه إلى السماء، ولهذا يقول الله -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) [النمل: 62]، والمضطر هنا هو الذي يستنفذ أسباب الدنيا، ولا يجد أمامه مخرجاً، وهذا هو الذي تنفتح لدعائه أبواب السماء, والله -عز وجل- يبتلي عباده، ليعلم من يتوجه إليه عند المصائب، وليعلم صدق العبد، وقوة إيمانه، وقوة صبره، وهذه الاختبارات الإيمانية هي الأساس، ليزيل الله الضيق، ويذهب الهم، ويفرج الكرب، ويظهر قدرته لعباده.
اللهم اغفر لنا أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين، وعجل بفك الكربة ورفع الغمة عن الأمة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر: 1] أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بصفات الجلال والكمال، وتنزه عن الأنداد والأمثال. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أعلم الناس بربهم، وأتقاهم له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن للقدرة الالهيّة أدلة كثيرة، وبراهين وفيرة، كاختلاف اللغات، وتعدد الأصوات، وتباين النغمات، وتفاوت الصفات، كلها تدل على رب الأرض والسموات، خذ مثالا حيا, ورقة التوت تأكلها الدودة فتخرج حريراً، والنحلة فتخرج عسلاً، والغزال فتخرج مسكاً، ألا يدل على علام الغيوب, ومن هو على كل شيء قدير, وعلى الحكيم الخبير، وتأمل البيضة حصن حصين، وبناء رصين، لا منفذ ولا مخرج ولا هواء ولا ماء, تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وهيئة جميلة، وصوت مليح، فاسأل من خلق، ومن برأ، ومن أنشأ، ومن صور، إنه الخلاق العليم, والزهرة ذات ألوان؛ أبيض فاتح، وأحمر غامق، وأسود فاحم، وأخضر ممتع، تهل بالندى، وتفوح بالشذى، وتميس مع الهوى، آية من آيات مَن على العرش استوى, وفي هذا يصدق قول الشاعر:
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيكُ
على كثب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريكُ
إن مبدع هذه المخلوقات العظيمة، وخالق هذه الكائنات العجيبة، هو الرب الملك القادر، الذي يستحق أن يُعبد وحده، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يتلقى منه وحده منهج الحياة كله، وأن لا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فذلك كله لله وحده لا شريك له, ولا نقدم بين يديه ورسوله قول كبير أو عزيز أو عالم أو ذوق أو كشف أو رغبة أو هوى.
عباد الله: إنّ كثيرا من الناس يتأثر بقوة المخلوق، ولا يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله، وإن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والأرض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله، وقوة الناس وقوة المخلوقات كلها بيد الله وفي قبضة الله، يعز بها من يشاء، ويذل بها من يشاء، ويهلك بها من يشاء، ويقارن الله بين ذلك (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر: 57]. ولفت -سبحانه- نظر الإنسان بمعرفة حقيقة نفسه وترك التكبر فقال: ( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ) [الإسراء: 37].
وبسبب ضعف الإيمان واليقين تأثرنا اليوم من قوة المخلوق، فأصبحنا نخافه ونرجوه، مع أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً, وأعرضنا عن الخالق القادر المالك لكل شيء، فلا نرجوه ولا نخافه، ولا نقف ببابه فأذلنا الله.
عباد الله: إن كان البشر لديهم قوة المصنوعات اليوم، فإن الله عنده قوة المخلوقات، وقوة المخلوقات التي خلقها الله أقوى وأشد من قوة المصنوعات التي صنعها البشر، وهذه وتلك لا تفعل شيئاً إلا بإذن الله. من هذه الأمثلة:
فهذا الهواء اللطيف الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، جعله الله بقدرته قوة مدمرة عاتية، وريحاً شديدةً عقيماً، أرسلها الله وسلطها على قوم عاد لما كفروا بالله، وكذبوا رسوله، فدمرت كل شيء بأمر ربها: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 41، 42]، لقد دمرت أعداء الله، وحفظت أولياءه، وذلك في آن واحد، بأمر واحد، في مكان واحد، إن هذه قوة مخلوق واحد، فكيف بقوة جميع المخلوقات التي يملكها الله العزيز الجبار؟، وكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولو اجتمعت لها الخلائق كلها؟ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66].
وكذلك الماء الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، حينما يأمره الله أن يغرق الأرض ومن فيها، من ذا يرده؟، ومن ذا ينجو منه؟ إن قوم نوح لما كفروا بالله -سبحانه- وكذبوا نوحاً، ماذا فعل الله بهم؟ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) [الأعراف: 64].
لقد وقف موسى وقومه أمام البحر والعدوّ من ورائه أمره الله بضرب البحر بعصاه ففتح الله لموسى ومن معه من المؤمنين، فدخلوا معه وخرجوا، ثم تبعهم فرعون ومن معه فأطبقه الله عليهم، فهلكوا جميعاً.
ثم لما جاوزا البحر، وساروا في طريقهم أصابهم العطش، فدعا موسى ربه، فأمره الله بضرب الحجر بعصاه ففجر القوي القدير المياه العذبة من تلك الحجارة القاسية, قال الله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة: 60] وهما آيتان خلاف العقل والمألوف:
الأولى: اضرب البحر يظهر الحجر اليابس. والثانية: اضرب الحجر يخرج الماء السائل، فسبحان القدير الذي يفعل ما يشاء.
وتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية من إناء، فجهش الناس من شدة العطش، فماذا فعل الله لإرواء رسوله والمؤمنين معه؟. اسمع إلى الخبر عن جابر -رضي الله عنه- قال: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقال: "مَا لَكُمْ"؟ قالوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ وَلا نَشْرَبُ إِلا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أصَابِعِهِ كَأمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: "لَوْ كُنَّا مِائَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً" متفق عليه. فمتى نستفيد من قدرة الله؟ ومتى نستفيد من خزائنه؟.
أيها المسلمون: إن المؤمن الحق لا يغتر بجاهه أو ماله أو قدرته، بل يتبرأ من حوله وقوته، ويسأل الله الإعانة في أموره؛ فقدرته تعالى نافذة، فإذا سمع المؤمن المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كأنه يقول: هذا الذي تدعوني إليه وهو الصلاة والفلاح أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته، إنه يطلب الإعانة من الله تعالى حتى في أمور دينه.
وإذا حار بين أمرين لا يدري ما الخير له فيهما استخار الله -عز وجل-، وسأله بقدرته وعلمه أن يختار له الأحسن فقال: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب" [البخاري: (3685)].
وإذا شكا وجعًا وألمًا علم أن الله -سبحانه- قادر على أن يذهب وجعه، وأن يسكن ألمه؛ فيضع يده على مكان الوجع ويقول: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" [مسلم (2202)].
إن من قوي إيمانه بالله تعالى قوي يقينه بقدرة الله وقوته؛ فلا يعظم ولا يخاف إلا الله تعالى. لا يعظم مخلوقًا كتعظيم الله تعالى مهما كان له من الإنجازات والعطاءات، ومهما شاهد من قدرته وقوته؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أقوى وأقدر.
ومن كان كذلك فإنه لا يظلم العباد؛ لأنه إن رأى قدرته فوق قدرتهم علم أن قدرة الله تعالى فوق قدرته، وهو كذلك لا يخاف الظلمة والمتسلطين؛ لأنه إن رأى أن قدرتهم فوق قدرته علم أن قدرة الله –تعالى- فوق قدرتهم.
والمؤمن مأمور دائمًا أن يتذكر قدرة الله -عز وجل- وقوته في كل أحواله وشؤونه, ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ, فيَقُولُ الله: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ" [أحمد(7966)], وله شاهد من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ قَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ, قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي, قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" [البخاري: (3883)].
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واطلبوا منه العون في الأمور كلها، وتبرؤوا من حولكم وقوتكم، ولوذوا بحمى من هو على كل شيء قدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي