في الذكرى بمضي الأيام وتصرم الأعمار

عبدالله بن صالح القصير
عناصر الخطبة
  1. سرعة مضي الأيام .
  2. الندم بعد الموت .
  3. أهمية محاسبة النفس .
  4. التزود من العمل الصالح . .

اقتباس

وها أنتم تودعون عاماً قد انقضى، وجزءاً من العمر قد مضى، قد تولت لحظاته، وبقيت أرباحه وتبعاته؛ فيا سعادة المتقي يوم لقاه، ويا خسارة من شقي يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ذهبت لذة المعصية وحلاوتها، وبقيت تبعتها ومرارتها، وذهب نصب العبادة، وبقي عند الله ثوابها من الحسنى وزيادة

 

 

 

 

الحمد لله الذي حكم بالفناء على أهل هذه الدار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، وأخبر أن الآخرة هي دار القرار، أحمده سبحانه حمداً يبلغ رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فلا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أبداً على هداه.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى تقوى من آمن به وأيقن أن مرجعه إليه وحسابه عليه، فعمل بطاعته وشكر نعمته، واتقاه وتوكل عليه (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2-3]. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5]. وقد كتب الله للمتقين النجاة من النار، وضمن لهم الجنة فنعم عقبى الدار (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].

أيها المسلمون: إن الله تعالى جعل الليالي والأيام مواقيت للأعمال، ومقادير للآجال، وهي تنقضي جميعاً، وتمضي سريعاً، والذي أوجدها وقدر ما فيها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول، وأما الخلق فمصيره في هذه الدار للذهاب، وكل ما على صعيد الأرض كائن للتراب (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].

وها أنتم تودعون عاماً قد انقضى، وجزءاً من العمر قد مضى، قد تولت لحظاته، وبقيت أرباحه وتبعاته؛ فيا سعادة المتقي يوم لقاه، ويا خسارة من شقي يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ذهبت لذة المعصية وحلاوتها، وبقيت تبعتها ومرارتها، وذهب نصب العبادة، وبقي عند الله ثوابها من الحسنى وزيادة.

عباد الله: كل شهر يستهله الإنسان ويستكمله يدنيه من أجله، ويقصيه عن أمله، ويبعده عن ضيعته، ويقربه من آخرته، وغداً توفى النفوس ما عملت، ويحصد الزارعون ما زرعوا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].

وما من ميت يموت إلا ندم؛ فإن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب؛ أي تاب وأصلح واعتذر.

رؤي بعض الموتى في المنام فقال: "ما عندنا أكثر من الندامة، ولا عندكم أكثر من الغفلة"، ورؤي آخر فقال: "ندمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون؛ والله التسبيحة أو التسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها".

أيها المسلمون: المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً، والفاجر لا يزيده عمره إلا شرًّا؛ فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله؛ فلئن صارع المرء في عنفوان شبابه الشهوات والصبوات، وكان له مع الشيطان مغامرات وجولات وكرات وفرات؛ فإن من فسح الله له في أجله، ومد له في عمره، قد خصه الله بمزيد من فضله وكرمه، فله في بقية عمره فرصة يأخذ فيها من نفسه لنفسه، ويتوب إلى الله من سيء عمله قبل يوم رمسه، فقد أعذر الله إليه إذ فسح له في الأجل، ومكنه من صالح العمل (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].

فخذوا -عباد الله- بالأهبة للرحيل؛ فإن العمر مهما طال فهو قليل، وعند الله غداً المقيل.

أيها المسلمون: روي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما من يوم ينشق فجره إلا نادى مناد من الله: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بصالح العمل، فإني لا أعود إلى يوم القيامة". وروي عنه أنه قال: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت"، فقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].

وفي ذلك ما يوجه الأنظار إلى اغتنام فرصة الزمان، والتزود منها بصالح الأعمال، للوقوف بين يدي الملك الديان، وإن في استدامة الطاعة وصدق الإقبال عليها حرزاً من الشيطان، يعصم الله به أهل التقوى والإيمان (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) [الإسراء:65].

أيها المسلمون: ما أقرب الحياة من الممات؛ فما بينهما إلا أن يقال: فلان مات، وهذا محتمل في سائر الأوقات، فكل ما هو آت آت، وإن هذا الموت الذي تخافونه وتفزعون منه ليس هو فناء أبداً، ولكنه انتقال من دار إلى دار، وانقلاب من حال إلى حال، فهو إبدال حياة بحياة أخرى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31].

والأعمال بالخواتيم؛ فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، وكل إنسان يبعث على ما مات عليه.

فاتقوا الله وتوبوا إليه، وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دلكم عليه، ولا شر إلا حذركم منه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي