إن العمل بهذا الاسم يجعلك تعبد الله -عز وجل- كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, يعلم بك ويراك ويسمعك، يدفع بك العمل بمقتضى هذا الاسم إلى أنك تعمل عملاً جاداً في طاعة الله؛ فإن النفس إذا عرفت عظمة الله، ومقدار علم الله، تطامنت من كبريائها، وخشعت لله...
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
معاشر المسلمين: فإن من إيماننا بالله أهل الإسلام، أن الله -سبحانه- وتعالى له أسماء حسنى وصفات علا تليق بجلاله وكبريائه، وأن هذه الصفات تدل على أنه الخالق، وأنه الرب الإله، وأنه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، أسماؤه حسنى، غير محصورة، فهي كثيرة جليلة، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرجل إذا أصابه هم أو غم أو حزن كما في حديث ابن مسعود: "...أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ.." [الإمام أحمد (3528) وصححه الألباني].
ومما يستعين به الإنسان على تعظيم الله -سبحانه وتعالى- وتعظيم دينه وتعظيم شعائره وتعظيم ما عظمه الله له, معرفة مقتضيات وثمار أسمائه الحسنى, فإن من علم ذلك وعمل به كان من أهل جنته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد, وهو وتر يحب الوتر من أحصاها دخل الجنة" [البخاري (2736) مسلم (2677)]، ويحصل العبد على الثواب إن هو عمل بمقتضاها, ولذلك من معاني الإحصاء: العمل بمقتضى الاسم ودعاء الله به.
عباد الله: من أسماء الله الجليلة, اسمه (العليم) وصفته المشتقة منه (العلم), فمن أسمائه (العليم والعالم والعلام), وكلها صيغ مبالغة في سعة علم الله -سبحانه وتعالى-، وهذه الصيغة إذا قارنتها بالأدلة الأخرى يتبين لك سعة علم الله -سبحانه وتعالى- بكل شيء.
وحديث القرآن الكريم عن سعة علم الله -عز وجل- وإحاطته الشاملة بكل ما كان وسيكون، وما لم يكن كيف يكون لو كان، يكشف لنا بجلاء مدى اتساع وعظمة اسم الله "العليم", وكيف أنّ اتصافه -سبحانه وتعالى- بالعلم من صفات قيوميته -عز وجل- والتي تتلازم مع سائر صفاته -جل وعلا- في الإحاطة بهذا الكون الفسيح والخلق الكثير، والآيات الدالة على عظمة وشمول واتساع هذه الصفة كثيرة ومؤثرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أن علم الله -عز وجل- يشمل الكبير والصغير، والجليل والحقير، والغائب والحاضر، والمشاهد والخفي، قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الحشر: 22], قال ابن كثير: أي: "يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات".
أن علم الله -عز وجل- يشمل فيما يعلنه الخلق وما يخفونه، فهو يعلم ما في الضمائر والحنايا، والسر عنده علانية، والأمر كله عنده سواسية، قال تعالى: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) (الرعد:10), وقال: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 29]، وقال -عز وجل-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235], أي: "اعلموا -أيها الناس- أن الله تعالى يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر، أو تفعلوا ما هو منكر" الشعراوي.
أن علمه -سبحانه- أوسع وأشمل وأكمل من علم خلقه، فقد وسع عمله الخلق كلهم، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78]. بل يعلم ما هو أدقّ من ذلك في نظر البشر, وهي الخواطر، وخوائن الأعين: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19], وقال: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:29], وقال: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:284], وقال: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب:54].
عباد الله: إن علم الله -عز وجل- علم أزلي قديم، قد كتبه وحفظه عنده في اللوح المحفوظ، وذلك من كمال وعظمة علمه، فالله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء، الذي يعلم كل شيء في السموات والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وفي الظاهر والباطن: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحجرات: 16].
وهو -سبحانه- العالم بكل شيء في السموات والأرض من الأشياء والأشخاص، والنيات والأعمال، والخواطر والحركات: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج: 70], أي: لا يخفى عليه منها خافية، من ظواهر الأمور وبواطنها، خفيها وجليها، متقدمها ومتأخرها، وذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، حين خلق الله القلم، قال له: "اكتب" قال: ما أكتب؟ قال: "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع. [ ابن سعدي (1/545)].
فعِلمه تعالى لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره, ولا بحر ما في قعره، وهو -سبحانه- اللَّطيف الخبير الذي يعلم القليل والكثير، ويعلم الصغير والكبير، ويعلم القريب والبعيد، ويعلم الباطن والظاهر: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].
وهو -سبحانه- العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم مثاقيل الجبال, ومكاييل البحار, وعدد قطر الأمطار, وعدد ذرات الرمال, وعدد ورق الأشجار, وما أظلم عليه الليل, وما أشرق عليه النهار. فسبحان اللطيف الخبير، المطلع على البواطن والأسرار، الذي يعلم خفايا القفار والبحار والجبال والظلام.
ومن مشاهد وتجليات علمه -سبحانه وتعالى-، أنه الذي يعلم أستار الغيوب المختومة في العالم العلوي وفي العالم السفلي، ويعلم مجاهل البر الواسعة، وغيابات البحر العميقة، ويعلم عدد الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، وكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، وكل رطب ويابس في هذا الكون العظيم، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط بكل شيء: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].
هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها. (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة: (إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ) من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق, وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.
عباد الله: لقد وصف الله بعض عباده بالعلم، ومع ذلك فإن علم الخلق أبعد ما يكون عن علم الله -سبحانه وتعالى- عما يصفون، والفرق بين علم الخالق وعلم المخلوق ولا مقارنة البتة من عدة أوجه منها:
إن علم الله -سبحانه وتعالى- غير مسبوق بجهل، بل عليم منذ الأزل, لم يكن في وقت من الأوقات غير عالم، ثم أصبح بعد ذلك عالما، لا، بل علمه -سبحانه- صفة لذاته وأوليته، لم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلق خلقه، وعلم -سبحانه- ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فأخبر -سبحانه- عن علمه بحال الكفار لو أتيح لهم الرجوع إلى الدنيا بعد معاينة الآخرة: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [(28) سورة الأنعام]، فهو عليم بخلقه، علمٌ غير مسبوق بجهلٍ أبداً.
بينما المخلوق قد يوصف بأنه (عالم) أو (عليم) كما قال يوسف -عليه السلام-: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55], وقال حكاية عن وصف الملائكة لإسماعيل -عليه السلام-: (قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر:53]، وقد يوصف العالم بصيغة مبالغة: (علاّمة)، كما يقال في الاصطلاح العصري: فضيلة الشيخ العلاّمة, لكن الانسان مع هذا الوصف بالعلم فإنّ علمه مسبوق بجهل، مرت عليه سنين وهو راتع في الجهل، لا يعلم شيئا، ثم استفاد بعد ذلك العلم، الله -عز وجل- بخلاف ذلك، لم يأت عليه وقت لم يكن عالماً بخلقه، بل علمه بك قبل أن يخلقك وأنك ستعمل كذا، وستترك كذا، وسينالك كذا وكذا.
والملائكة وهم من خلقه (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [(32) سورة البقرة]؛ لأنهم يجهلون، ولا علم لهم إلا ما علمهم -سبحانه-. والله -جل شأنه- لا يقال عنه عارف؛ لأن المعرفة مسبوقة بجهل، بل يقال: "العليم الخبير، العليم الحكيم، السميع العليم" والإنسان يوصف بالمعرفة كما قال الأول:
عرفت الشر لا للشر ولكنه لتوقيه *** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
الفرق الثاني: أن علم الله واسع، بينما علم المخلوق محدود، ولهذا قال -سبحانه-: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [الأنعام:80]، وقال -عز وجل- في شأن شعيب -عليه السلام- لما آذاه قومه وأرادوا منه أن يعود في ملتهم ودينهم قال: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الأعراف:89]، وقال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، وقال جل شأنه: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [(255) سورة البقرة].
كما أن الله يعلّم من شاء علما خاصا، كما علّم يوسف علم التأويل: (قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف:37], وعلّم خضرا -عليه السلام- العلم اللدني: (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف:65]، فالأمر راجع إليه -سبحانه-.
وذم الله الكفار على كذبهم, وأن المانع لهم من الإيمان أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، فقال -سبحانه- مبيناً قلة علم هؤلاء ومحدوديته، قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس:39]، بل قال -سبحانه- في الملائكة: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) [(110) سورة طه]، فعلم الله واسع، وعلم المخلوق محدود، قال الله تعالى مبيناً ارتباط الألوهية بسعة العلم: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [(98) سورة طه].
الفرق الثالث: هو إن الله -سبحانه وتعالى- لا ينسى قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: (64)]، ولما جادل فرعون موسى في القرون الأولى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) [طه(51)]، قال موسى: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه:(52)] فاحتج موسى على فرعون بأن الله لا ينسى شيئاً من أخبار تلك الأمم وما جرى لهم في سالف الزمن.
بينما العبد المخلوق ينسى ما كان يعلمه، أشياء كثيرة يتعلمها ويحفظها فإذا دخل مرحلة الشيخوخة، نسى معظمها، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) [ الحج 4]، كان هذا الإنسان في يوم من الأيام عالماً يشار إليه بالبنان، وإذا به ينسى كثيراً مما كان يعلمه ويحفظه، فصار لا يعلم ولا يستحضر هذا شأن المخلوق، ضعيف، معرض للنسيان والجهل والقصور بخلاف الخالق جل جلاله، فإنه لا ينسى أبداً وعلمه من صفات ذاته.
الفرق الرابع بين علم الخالق وعلم المخلوق: إن علم المخلوقات عن الشيء الواحد يتفاوت، فقد يكون هذا الإنسان نبياً، وهناك أشياء لا يعلمها، انظر إلى قصة نبي الله سليمان -عليه السلام- مع الهدهد، (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل:24], فسليمان نبي من عند الله، وملك في نفس الوقت, مسخرةٌ له الجن والريح، ومع هذا يجهل أمر سبأ، وما هم فيه، ويأتيه بخبر القوم الهدهد، طائر صغير.
فانظر تفاوت علم المخلوقات بأحداث الدنيا وما يجري فيها, بل قد تعلم الحيوانات والدواب عن يوم القيامة وأنه في يوم الجمعة، وتخاف منه، وكثير من الإنس والجن لا يعلمون هذا، قَالَ -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة: ".. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا تَفْزَعُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" [أحمد (7372)].
بل انظر إلى علم الدواب والحيوانات بما يجري في القبور من العذاب على أهلها، فقد روى مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:" بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ, وَنَحْنُ مَعَهُ, إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ, وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ, فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟" فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا, قَالَ: فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ, فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا, فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ, ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ"، فالبغلة حادت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكادت أن تلقيه لسماعها لعذاب هؤلاء المشركين، والصحابة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم لا يشعرون ولا يعلمون عما يدور في تلك القبور.
اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: إن الله بكل شيء عليم، يعلم الجهر والسر وما هو أخفى من السر، ويعلم كل شيء علماً مطلقاً كاملاً شاملاً، والناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه، فهو -سبحانه- العالم الذي علّم عباده ما فيه مصالحهم في الدنيا والآخرة, كما علم آدم عليه السلام، وأحاط ربنا بكل شيء علماً، والعباد لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء مما أمدهم، وهو الذي يعلم أقوالهم وأفعالهم، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]. قال ابن كثير: "أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله -عز وجل- وأطلعه عليه" [ابن كثير (1/680) ]، فهو -سبحانه- الرحمن الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، تارة بلسانه، وتارة بقلمه، وتارة بإشارته: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1-4].
وهو -سبحانه- العليم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، علمه أشياء، وزوى عنه أشياء، ونسبة ما يعلمه الإنسان، بل ما تعلمه البشرية كلها إلى ما لا تعلمه كنسبة الذرة إلى الجبل، والقطرة إلى البحر وهذا ما أخبر به الخضر -عليه السلام- لموسى عند صحبته له, فعن أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال" لما ركب الخضر وموسى -عليهما السلام- على السفينة َجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ...." [مسلم (119)].
وقد وصف الله علمه الواسع حين حقر علم العباد, فقال في كتابه وهو الحق -سبحانه-: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء: 85]، وهو -سبحانه-: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 4، 5]. قال السعدي: "فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم, وعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلا للناس تنوب مناب خطابهم" [السعدي (1/930)].
إن القرآن يسكب هذه الحقائق العظيمة في قلب المؤمن، لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكاً صحيحاً للأمور، ويملأ قلبه بالتعظيم والإجلال للكبير المتعال، ويبعث فيه اليقظة والتقوى لأداء الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض، وذلك لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله، الذي يعلمه الله، وعندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير، وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، والغيب والشهادة، وما في الصدور وما في القلوب: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحجرات: 18]، والله -سبحانه- يعلم ما في السموات وما في الأرض، ويعلم كل شيء: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ: 2]، فهو -سبحانه- الذي يعلم ما يقع في كل لحظة من الحركات والسكنات، والأحجام والأشكال، والأقوال والأفعال، والمخلوقات والأشياء.
عباد الله: إن الشعور بعلم الله وعظمته ورقابته على هذا النحو شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً، فشعور هذا المخلوق الضعيف، وهو مشغول بشأن من شؤونه، وإحساسه أن الله معه، شاهد أمره، حاضر شأنه، بكل عظمته -سبحانه-، وبكل قوته، وبكل هيبته وجبروته، الله خالق هذا الكون العظيم، ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان، الله مع هذا المخلوق الإنساني، الذرة التائهة في الفضاء، لولا عناية الله تمسك به وترعاه، إنه شعور رهيب يرجف له الفؤاد، ويدفع المسلم إلى الحياء من ربه، وحسن الطاعة والانقياد له، لئلا يناله غضب الجبار وعقوبته. وهو كذلك شعور مؤنس مطمئن أن هذا الإنسان ليس مهملاً ولا متروكاً بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن مع ذلك شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة التامة لكل ما في الكون, ثم شمول المكافأة والجزاء: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61]،إن تصور معية الله لكل أحد، وفي كل حالة، أمر جليل رهيب، إنها حالة تهز القلوب، لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز خوفاً، وحياءً، وأنساً، إن مجرد معية الله لكل إنسان ومراقبته ظاهره وباطنه أمر هائل، فكيف إذا كان يتبع ذلك حساب وعقاب؟، وكيف إذا كان ما يُسرُّه المتناجون ويخفونه سيعرض على الأشهاد يوم القيامة؟. قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة : 18] وقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) [الطارق : 9].
فيا لها من غفلة يقع فيها كثير من الناس، عن علم الله -سبحانه وتعالى- بعباده وعن مراقبة الله -سبحانه وتعالى- بذلك، يا لها من غفلة عن مقتضى هذا الاسم العظيم! اسم (العليم) اسم (العلام) فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18], أي خافية يظنها الإنسان أنها تخفى؟ لا يمكن أن تخفى، وما ذلك إلا أن الله قد أحاط بكل شيء منه، ومع ذلك أشهد عليه جوارحه: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[فصلت:21].
وهكذا نبي الله عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة:116-117].
أيها المسلمون: إن العمل بهذا الاسم يجعلك تعبد الله -عز وجل- كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, يعلم بك ويراك ويسمعك، يدفع بك العمل بمقتضى هذا الاسم إلى أنك تعمل عملاً جاداً في طاعة الله؛ فإن النفس إذا عرفت عظمة الله، ومقدار علم الله، تطامنت من كبريائها، وخشعت لله -عز وجل-، وسلمت لأمره, وخنعت لشرعه, واستجابة لأمره, واتقت حدوده, وخافت عقوبته وناره.
اللهم انا نسألك صحةً في اٍيمان، واٍيمانا في حُسن خُلق ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية ومغفرةً منك ورضوانا .
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي