الحث على الاستعداد للموت وما بعده من الأهوال

عبدالله بن صالح القصير
عناصر الخطبة
  1. قرب الحياة من الممات .
  2. أهمية تذكر أهوال يوم القيامة .
  3. أخذ العظة والعبرة من الموت .

اقتباس

إنه -والله- الجد لا اللعب، والصدق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه، فأعجل حاديه، فأكثروا ذكر الموت هادم اللذات، وخذوا من مصارع ذويكم، ومن حولكم أبلغ العظات، فقد رأيتم من جمع المال وحذر الإقلال، وأمن العواقب لطول الأمل واستبعاد الأجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه؟ وكم رأيتم ممن يؤملون بعيداً ويبنون مشيداً، ..

 

 

 

الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا ند ولا سمي يساميه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الهداة من بعده.

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: اتقوا الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، واعلموا أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، ووعدنا على تحقيق ذلك بفسيح الجنان وعظيم الرضوان، كما قال في محكم القرآن: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:62-64].

وقال -سبحانه-: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة:21-22]. وأما من عصى ولم يقبل الهدى، بل طغى وآثر الحياة الدنيا (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:39]. (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء:14].

أيها الناس: ما أقرب الحياة من الممات، فليس بينكم وبين ذلك إلا أن يقال: فلان مات، فإن الدنيا موصولة بالآخرة، فمن حضره أجله رحل وقدم على ما قدَّم من العمل، وأنتم في هذه الدنيا ممهلون إلى أجل مسمى، ومستخلفون لتبلون أيكم أحسن عملاً، فإذا استنفدتم الأنفاس، واستكملتم الأرزاق، وبلغتم الآجال، وأوشكتم على انقطاع الأعمال، نزل بكم الموت، وانقطع منكم النفس والصوت (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:11].

فحينئذٍ تنقلون من القصور إلى القبور، وتبقون في دار البرزخ إلى يوم النشور، إما في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، بحسب الجواب على السؤال، حيث يتولى عنكم المشيعون حتى أنكم لتسمعون منهم قرع النعال، فأعدوا للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً.

عباد الله: تذكروا هول المطلع، وتفكروا في أمر المنقلب، فتزودوا لذلك بصالح العمل، والتوبة إلى الله من التفريط والزلل، ما دمتم في فسحة من الأجل، ولا تكتموا الله صغيراً ولا كبيراً (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات:9-11].

وستشهد الأرض بقدرة باريها بما عمل كل امرئ في الدنيا عليها؛ تقول: عمل عليَّ كذا وكذا (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:4-5]. وستشهد على أعداء الله الجلود والأسماع والأبصار يوم يحشرون إلى النار (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت:20-21].

فتذكر -أيها الظالم- يوماً تنطق فيه الشهود منك عليك، وتفر من أقرب الناس إليك (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]. ولا يكفي الظالم أن يبتعد عن ذويه بالفرار بل يود لو يفتدي بهم من النار (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) [المعارج:11-14].

فما أعظم الهول! (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30]. (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف:8-9].

وكلٌ يومئذٍ آخذٌ كتابه، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:19-24]. وقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الانشقاق:10-12].

ويقول حين يأخذ كتابه بشماله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) [الحاقة:25-33].

أيها المسلمون: والهول العظيم والكرب الشديد حين يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، ويؤمر الناس أخيارهم وأشرارهم بالمرور عليه؛ فناجٍ مخدوش، وناج مسلم، ومكردس في نار جهنم، ودعوة الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم، وذلك تحقيقاً لقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72]. (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185].

وكان أبو ميسرة رحمه الله إذا آوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فيقول: أخبرنا الله أنّا واردوها -يعني النار- ولم نخبر أننا صادرون عنها. وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري رحمهما الله: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال: نعم. فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟.

فاتقوا الله -معشر المسلمين- فإن تقوى الله منجاة من النار، وسبب للفوز بالجنة دار الأبرار، ومن لم يتق فهو الشقي الذي يصلى النار وبئس القرار؛ قال تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل:14-18].

فما أعظم الأهوال! وما أشد النكال! (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تزحزحنا عن النار، وتدخلنا الجنة مع الأبرار، يا رحيم يا كريم يا غفار. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهن الصادق الأمين والناصح المبين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: اتقوا الله فإنه من اتقى الله وقاه، ومن سارع إلى طاعته فاز بمغفرته وجنته ورضاه، وأمن من الخزي والندامة يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.

أيها الناس: إنه -والله- الجد لا اللعب، والصدق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه، فأعجل حاديه، فأكثروا ذكر الموت هادم اللذات، وخذوا من مصارع ذويكم، ومن حولكم أبلغ العظات، فقد رأيتم من جمع المال وحذر الإقلال، وأمن العواقب لطول الأمل واستبعاد الأجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه؟ وكم رأيتم ممن يؤملون بعيداً ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً، فأخذوا على غرة، وأزعجوا بعد الطمأنينة، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، وهم لا في حسنة يزيدون، ولا من سيئة ينقصون.

عباد الله: أكثروا ذكر الموت، فإن ذكره يرقق القلوب، ويبعث على خشية علام الغيوب، ويزهد في الدنيا، وينشط على العمل الصالح للأخرى، وإذا ذكرتموه في ضيق عيش وسعة عليكم فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى زهدكم فيه فجدتم به فأثبتم.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " ما من بيت إلا وملك الموت يقف على بابه في كل يوم خمس مرات، فإذا وجد إنساناً قد نفد رزقه وانقطع أجله ألقى عليه غم الموت؛ فغشيته كرباته وغمراته، فإذا جزع أهله من مصابه وحزنوا على فراقه قال لهم ملك الموت: ويلكم، مِمَّ الفزع وفيم الجزع؟ فما أذهبت لواحد منكم رزقاً ولا قربت له أجلاً، ولا أتيته حتى أمرت، ولا قبضت روحه حتى استأمرت، وإن لي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقى فيكم أحداً ".

ويروى عنه صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم، حتى إذا حمل الميت على سريره أو على نعشه رفرف روحه فوق نعشه وينادي: يا أهلي ويا ولدي! لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي؛ جمعت المال من حله ومن غير حله ثم خلفته لغيري؛ فالهناة له والتبعة عليّ. فاحذروا مثل ما حل بي ".

معشر المسلمين: خذوا من ذلك عبرة، فإن العاقل من انتفع بالموعظة وأخذ حذوه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، فإن الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي