هذا جانبٌ من خياناتهم المستمرّة, ومما تركناه أكثر ممّا اقتصرنا عليه لطول خياناتهم وكثرتها وتشعّب أمرها, وهم يدٌ واحدةٌ ومشروعٌ واحدٌ مهما اختلفت أسماؤُهم وعناوينهم, فهم مجتمعون على منهجية واحدة وعقلية واحدة وأهداف مشتركة واحدة إفساد دين المسلمين ودنياهم...
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون, وبعدله ضل الضَّالون, ولحكمه خضع العباد أجمعون, لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب, بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام.
أحمدُهُ -سبحانه- على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام, وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام, وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له, لا تحيطُ به العقولُ والأوهام, وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام, صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام, وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام, وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام, وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
نقف اليوم مع جانبٍ آخرَ من الخيانات التاريخية للصفويين, للإسلام والمسلمين الداخلية والخارجية, لنكتشفَ كما رأينا في الخطبة الماضية أنّ الرافضة هم أصل كل فتنةٍ وبليّة, وأنّ كثيرًا من السيوف التي سُلّت على المسلمين إنَّما كانت من جهتهم.
أيها الإخوةُ في الله: إذا انتقلنا إلى العهد العباسي والذي استمر حكمهم فيه ما بين سنة مئة واثنين وثلاثين, إلى ست مئة وست وخمسين للهجرة, فحدّث ولا حرج عن ظهور أمر الرافضة بجميع أصنافهم وأسمائهم التي ترجع إلى مشروع واحد, فقد تشعبت خياناتهم وتفننوا في أساليبها, ومن جميع الجوانب -سياسيةً كانت أو دينية أو أخلاقية- فأما الاغتيالات, فأكثر من أن تحصى, وأما قلاقل الانقسامات والدويلات الخارجة عن الخلافة فأشد من أن تذكر.
فكانت بداية جرائمهم في هذا العصر سياسية تروم إسقاط الخلافة الأموية, والخروج على ولاية الحاكم الأموي, ثم بعد ذلك التستر بدعوى أحقية بني العباس في الخلافة؛ ليتمكنوا من السيطرة على مقاليد البلاد بعد أن أظهروا موالاتهم ومشايعتهم لبني العباس زورا. انطلقوا من خراسان التي كانت أول ما سقط من البلاد على يد أبي مسلم, فأخذ الفرس الحاقدون يشفون غليلهم من العرب المسلمين هناك, فأشبعوهم قتلاً وبطشاً وتنكيلا.
وحاول أبو مسلم نفسه شق عصا الطاعة على المنصور الذي ولي الخلافة بعد موت أخيه السفاح, وحاول أن يغدر به, ولكن المنصور بدهائه وفطنته تنبه لما يحيكه أبو مسلم له, فاستدرجه حتى تمكن من قتله شر قتلة, ودارت بعد ذلك محاولات فاشلة من أنصار أبي مسلم للانتقام له, تارةً من خلال الفتن السياسية, وتارةً من خلال بث الشبهات.
ومن هذه المحاولات -معشر المؤمنين- خروج "سنباب" الذي طالب ببدن أبي مسلم, فأرسل له المنصور جيشاً فهزمه. ثم ظهرت الرواندية قرب أصفهان, أيضاً من جماعة أبي مسلم, يدعون لمعتقدات فاسدة, فنادوا بألوهية المنصور وأرادوا بذلك خداعه والإيقاع به لقتله، ولكنه حاربهم وانتصر عليهم.
ثم ظهر بعد ذلك منهم رجل لقب نفسه بـ (المقنع), زعم أن الله -سبحانه وتعالى- حل في آدم ثم في نوح ثم في أبي مسلم ثم حل به أخيراً، واستطاع أن يكون له جماعة وتغلب على بلاد ما وراء النهر، متحصناً بقلعة (كش), ولكن الخليفة المهدي - والذي اشتهر بشدته على الملاحدة والزنادقة - تعقبه فأرسل له جيشاً يحاصره, فلما تيقن هلكته سقى نفسه وأهل بيته السم وهلك.
ومع ذلك - معشر المؤمنين - فلم يستطع المهدي أن يقضي على فتنتهم, نظراً لتسترهم الدائم بالتقية والسرّية, فهم دائماً يعملون ويخططون بالخفاء, مستخدمين النفاق الاجتماعي بالتقرب والتزلف إلى كبار رجالات الدولة في الخلافة العباسية؛ حتى تمكنوا من الوصول للمناصب الوزارية, فاستوزر كثير من خلفاء بني العباس هؤلاء الرافضة المجوس, كالبرامكة وأبي مسلم الخرساني, والمجوسي الفضل ابن سحل الذي كان وزيراً للمأمون وقائداً لجيشه, وكان يلقب بذي الرياستين -أي الحرب والسياسة-.
بل وزوجوا أبناءهم من بنات الفرس, فأم المأمون (مراجل) فارسية, مما أدى إلى تأثره وظهور هذا الأثر عندما انتهى الحكم إليه, حيث اتخذ من منطقة (مروى) عاصمةً للخلافة بدلاً من بغداد, ونادى بأفكار وفلسفات غريبة عن الإسلام, كقوله بخلق القرآن.
وجاءت هذه الدعوة -معشر المؤمنين- من رواسب تربيته الفارسية, فكان نتيجة هذا التقارب أن تمكن رافضة المجوس من بث أفكارهم ومعتقداتهم بين المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث المكذوبة، ويلصقونها بالدين، وراحوا يصورون التاريخ الإسلامي على أنه تاريخ فتن وخصومة بين الصحابة, ويطعنون في أبي بكر وعمر خاصة وفي الصحابة عامة، بل انبرى شعراؤهم يتفاخرون بمجد فارس القديم, كما قال الأصمعي:
إذا ذكر الشرك بمجلس *** أضاءت وجوه بني برمكِ
وإن تليت عندهم آية *** أتوا بالحديث عن مزدكِ
بل نتج عن هذا التقارب -معشر المؤمنين- ما هو أشد على دولة الإسلام ودينه, ألا وهو تآمرهم على الخلافة وخروجهم واستقلالهم في مناطق متعددة.
فكان أول من خرج على الخلافة العباسية، هو ما قام به طاهر بن الحسين الخزاعي, حيث استقل بخراسان كما فعل من قبل أبو مسلم، وتوالت بعد ذلك الانقسامات عن الخلافة وظهرت الخيانات والجرائم العظيمة من هذه الدويلات, فكان القرامطة في الأحساء والبحرين واليمن وعمان وفي بلاد الشام, والبويهيون في العراق وفارس, والعبيديون في مصر والشام.
ولكن من فضل الله تعالى أنه لم يكن يظهر للرافضة يد ودولة إلا ويظهر الله عليهم من يقوم بجهادهم ويسومهم العذاب, فقيض للرافضة في تلك الفترة السلاجقة الأتراك السنيين, الذين كان ولاؤهم تابعاً للعباسيين, فقامت هذه الدويلات الرافضية بالتعاون مع الصليبيين ومكنتهم من الدخول إلى بلاد المسلمين للقضاء على أهل السنة الذين عجزوا عن الصمود في مواجهتهم.
فمن جرائم القرامطة -معشر المؤمنين- التي رصدها لنا التاريخ في العهد العباسي في المجال السياسي؛ خروجهم على الدولة العباسية, وتحريقهم منازل بني عبد قيس, ثم اجتياحهم الكوفة عام 293 للهجرة, وقيامهم بالمذابح الرهيبة التي حدثت في ذلك العام حتى أرخ لها المؤرخون.
وفي سنة 294 للهجرة قام القرامطة الاسماعيليون بالاعتداء على حجاج بيت الله الحرام بعد أن أمنوهم على أنفسهم, فقتلوا جميع القوافل, وتعقبوا من فر منهم, حتى أن نساء القرامطة كن يقفن بين القتلى يعرضن الماء, فمن كان به رمق يقمن بالإجهاز عليه, ولم يكتفوا بقتل الحجيج, بل راحوا يفسدون مياه الآبار بالجيف والتراب والحجارة!. وفي عام 321 للهجرة قاموا كذلك باعتراض قوافل الحجيج وقتل الرجال, وسبي النساء والذرية
وهذا يذكرنا بجريمتهم في هذا العصر حينما أرسلت إيران مجموعةً من شيعة الكويت لترويع الحجاج في مكة عام 1409 للهجرة, فقاموا بزرع المتفجرات المدمرة في أحد الجسور بمكة المكرمة, بعد أن سلمهم إياها السفير الإيراني في الكويت, وهربوها إلى مكة, وقد فجروا منها حول المسجد مساء يوم السابع من شهر ذي الحجة من ذلك العام, مما أدى إلى مقتل رجل وإصابة 16 شخصاً بجروح, عدا الخسائر المادية.
نسأل الله السلامة والعافية, ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضَى, أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
أيها الإخوةُ في الله: ومن فظائع جرائمهم الدينية، أنهم تطاولوا حتى على بيت الله الحرام وعلى الكعبة المشرفة, فسرقوا منها الحجر الأسود, وبقي عندهم حتى عام 335 للهجرة!.
وأما الرافضة البويهيون فكذلك خرجوا على الخلافة العباسية، واستولوا على العراق عام 334 للهجرة، وخلعوا الخليفة العباسي المستكفي بالله, وجاؤوا بالفضل بن المقتدر، فنصبوه خليفة، ولقبوه بالمطيع لله.
ومن جرائمهم الدينية أنهم فرضوا التشيع ديناً, واتخذوه ستاراً لنشر الأفكار والمعتقدات المجوسية, وبثوا الفتن بين المسلمين على أساس التفريق بين أهل السنة وبين الشيعة، وانتشر في عهدهم سب الصحابة.
وهم أول من أظهر بدعة إغلاق الأسواق في يوم عاشوراء من المحرم, ونصب القباب، وأظهروا معالم الحزن, وأخرجوا النساء يلطمن وينحن على الحسين, وهن سافرات ناشرات لشعورهن, وتجرؤوا على ذات الله تعالى، حيث تسمى آخر ملوكهم بالملك الرحيم, منازعةً لله في اسمه.
وأما العبيديون - معشر المؤمنين - والذين ينسبون أنفسهم زوراً إلى نسل فاطمة بنت نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-, فحدّث ولا حرج عن جرائمهم, فقد خرجوا على الخلافة العباسية, بعد أن مهدوا لهذا الخروج بمرحلة سرية بثوا من خلالها دعوتهم, متسترين ومتمسحين بمسوح آل البيت في بلاد المغرب, ثم لما تمكنوا من السيطرة على بلاد المغرب, انتقلوا إلى مصر فاستولوا عليها, وخلعوا الخليفة هناك.
وكان من أبرز جرائمهم في الجانب العقدي, أن حاكمهم - وقبل دخولهم لمصر - أرسل مبعوثه لأهل مصر يقطع على نفسه العهود بعدم إظهار البدع وإبقاء السنة وإحيائها, ولكنهم بعد دخولهم غدروا بأهل مصر, وفرضوا التشيع وألزموا الناس بإظهاره, واستخدموا منابر المساجد للدعاية إلى مذهبهم ونشر بدعهم, وصار ينادى في الأذان, بحي على خير العمل.
وظهر منهم الحاكم بأمر الله, الذي ادّعى الألوهية, وبث دعاته في كل مكان من مملكته، يبشرون بمعتقدات المجوس, كالتناسخ والحلول, ويزعمون أن روح القدس انتقلت من آدم إلى علي ثم انتقلت روح علي إلى الحاكم بأمر الله, وكان من أبرز دعاته محمد بن اسماعيل الدرزي المعروف بـ (أنشتكين), وحمزة بن علي الزوزني, وهو فارسي من مقاطعة (زوزن), وجاء إلى القاهرة لهذه المهمة, أي لبث الدعوة إلى ألوهية الحاكم!.
أيها الإخوةُ في الله: ومن جرائمهم الدينية كذلك؛ محاولتهم نبش قبر النبي ونقل جثمانه الطاهر مرتين في زمن الحاكم بأمر الله الذي ادعى الألوهية.
الأولى: يوم أن أشار عليه بعض الزنادقة بنقل النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مصر, فقام فشيّدَ حائزاً بمصر، وأنفق عليه مالاً جزيلاً, وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف, فهاج عليه الناس وحصل له من الهم والغم ما منعه من قصده، ولله الحمد والمنة.
والثانية: حينما أرسل من ينبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-, حيث سكن هذا الرسول بقرب المسجد, وحفر تحت الأرض, ليصل إلى القبر فاكتشف الناس أمره, فقتلوه.
ثم لما قيض الله السلاجقة الأتراك, يرومون نشر السنة والقضاء على دين الرافضة, شعر العبيديون بعزيمة وقوة هؤلاء الأبطال, وعلموا من أنفسهم العجز عن مواجهتهم, فلجئوا إلى خطتهم القديمة ومكرهم السالف, حيث أرسلوا لأعداء الدين من الصليبيين, وأغروهم بدخول بلاد المسلمين والتوطين لهم, مفضلين استيلاء النصارى على بلاد المسلمين على أن ينتشر مذهب السنة ويظهر السلاجقة.
وكان ممن وطن لهم وكاتبهم وأرسل لهم: أمير الجيوش الفاطمي (الأفضل), وفي ذلك يقول ابن الأثير: "إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلائها على بلاد الشام إلى غزة, ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول الإقسيس إلى مصر وحصرها, فخافوا وأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه".
هذا -معشر المؤمنين- جانبٌ من خياناتهم المستمرّة, ومما تركناه أكثر ممّا اقتصرنا عليه لطول خياناتهم وكثرتها وتشعّب أمرها, وهم يدٌ واحدةٌ ومشروعٌ واحدٌ مهما اختلفت أسماؤُهم وعناوينهم, فهم مجتمعون على منهجية واحدة وعقلية واحدة وأهداف مشتركة واحدة إفساد دين المسلمين ودنياهم.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا, وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصل اللهم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان وسلّم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي