ولقد تكرر في القرآن ذكر الله تعالى للفظ النعمة -بمختلف تصاريفه- نصًّا، أكثر من سبعين مرة، هذا إلى جانب ما ورد من ذلك معنىً مما لا يمكن استقصاؤه، فضلاً عن حصره، فكل هذا الحشد الهائل من النصوص نصًّا ومعنىً بشأن النعمة يبين عناية الله تعالى بنعمه، وعظيم حقه تعالى على عباده ..
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، اللطيف بعباده فيما يجري به المقدور، والمدبر لهم بحكمته وعلمه وإليه تصير الأمور، أحمده سبحانه وتعالى، وأشكره على ما أنعم به وتفضل وأغنى وأقنى وأعطى وأجزل.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويقضي بالحق، وما للظالمين عنده من ولي ولا نصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الشاكرين على النعماء، وقدوة الصابرين حين البأس وفي البأساء والضراء، وسيد المؤمنين بالله المسلِّمين له عند البلاء.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الأئمة المباركين المهديين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم تبارك وتعالى، واشكروه إذ خلقكم وهداكم، ورزقكم من الطيبات وعافاكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة وأولاكم، ولا تملوا نعم الله وتسأموها فتستقلوها أو تحتقروها أو تجحدوها فتكفروها، فَيكِلكم الله إليها فتهلكوا بها، أو يبدلها بضدها فتعذبوا بها؛ فإن الله تعالى قد ذكر لكم في محكم التنزيل ما أنعم به على أهل سبأ من الزرق الوفير والظل الظليل وأنه قيل لهم: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ:15]. فأعرضوا فأذهب الله نعمهم بالغرق، وجعلهم أحاديث ومزقهم كل ممزق (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) [الأنفال:53-54].
أيها المسلمون: يقول الله -تعالى- مذكراً بجلائل نعمه: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:231]. ويقول عز وجل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103]. ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة:11].
وبين -تعالى- أن نعمه كثيرة كبيرة ووفيرة وغزيرة فلا يمكن أن تستقصى فضلاً عن أن تحصى، فيقول -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]. ويقول تعالى: (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34]. ويقول عز وجل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53].
وبين حقه -سبحانه- على عباده مقابل هذه النعم فيقول: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81]. ويقول: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:47]. ويقول: (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل:114]. (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26].
وبين -تعالى- عاقبة كل من الشاكرين والكافرين فيقول: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان:12]. ويقول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [لقمان:7]. وقال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7]. ويقول سبحانه: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:114].
أيها المسلمون: ولقد تكرر في القرآن ذكر الله تعالى للفظ النعمة -بمختلف تصاريفه- نصًّا، أكثر من سبعين مرة، هذا إلى جانب ما ورد من ذلك معنىً مما لا يمكن استقصاؤه، فضلاً عن حصره، فكل هذا الحشد الهائل من النصوص نصًّا ومعنىً بشأن النعمة يبين عناية الله تعالى بنعمه، وعظيم حقه تعالى على عباده، وينبه على أن جحود النعم وكفرها من أسرع وأخطر ما يدب في حياة معظم الناس في غالب الزمان وشاسع المكان كما قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
كما أن شكر نعم الله تعالى سبب لاستقرارها وزيادتها وسعتها، فإن كفرها سبب للشقوة بها وسرعة زوالها وتبدلها بأضدادها، فإن شكر النعمة توحيد، واحتقارها وجحودها كفر، وكل عقوبة يسيرة أو كبيرة معجلة أو مؤجلة في الدنيا أو في الآخرة فهي بنوع من كفر النعمة من المعذبين تليق بهم؛ فأخذهم الله بعقوبة كمًّا وكيفاً (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]. (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر:45].
ولهذا أكثر ربنا عز وجل من التذكير بنعمه، مبيناً كثرتها، ومعظماً لها، وممتنًّا على العباد بها، ومنبهاً على كبارها وجلائلها، ومعدداً لهم أصنافها ولطافها؛ تذكيراً لنا بحقها، وإغراءً لنا بشكرها، وتحذيراً لنا من استصغارها واحتقارها أو نسبتها إلى غير مسديها وموليها، وزجراً لنا عن الغفلة عن واجب حقها من جحودها وكفرها، وكم أبدى سبحانه وتعالى بذكر حال ومآل من ذكر وشكر، ونبه على شؤم عاقبة من جحد وكفر من السالفين الغابرين والمعاصرين الحاضرين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
عباد الله: اشكروا نعم الله عليكم، فشكرها أمن من زوالها، وسبب لازديادها ونمائها، وذلك بأن تتصرفوا بها حسب مراضيه، وتقيدوها بصرفها في حدود ما أذن فيه بلا بطر ولا أشر، وبدون استعلاء ولا تكبر، واحذروا صرفها في الفساد والشر فتجعلوا نعم الله لديكم سلماً للشهوات المحرمة، ولا تبذلوها في تجاوز الحدود في الأمور المباحة، فإن الشكر لنعم الله يتحقق بصرفها في طاعته من غير سرف ولا خيلاء (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
فتذكروا -رحمكم الله- نعمة الله عليكم، وأكثروا ذكره وشكره عليها، فكم لله على العباد من نعم يتقلبون بها ليلهم ونهارهم، وهم في غفلة عنها، لم يقوموا بحقها وشكرها، ولم يلهجوا بالثناء على مسديها وموليها، وهؤلاء يتحرون الغير، وينتظرون مفاجأة الخطر.
عباد الله: إن نعم الله ما حُفِظ موجودها بمثل عبادته، ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله لكل شيء سبباً يجلبه، وآفة تذهبه، فجعل سبحانه الشكر سبباً جالباً لنعمه، وجعل الكفر آفة تذهب ما بين يدي الكافرين من ألوان جوده وكرمه، فكونوا من الذاكرين الشاكرين المحسنين، ولا تكونوا من الغافلين الكافرين الهالكين، فإن الله تعالى: (لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]. (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي