الحب الإلكتروني (2)

توفيق الصائغ
عناصر الخطبة
  1. شباب غرقى وفتيات غارقات في العالم الافتراضي .
  2. مشكلة التعلق المحرم .
  3. ضحايا كثيرون .
  4. قصة ضحية حب إلكتروني .
  5. صور الحب الممدوح .
  6. ضوابط التواصل بين الجنسين عبر الإنترنت .
  7. أسباب الوقوع في الحب الإلكتروني .
  8. مصائب الغياب التربوي واليتم الأبوي .
  9. مفاسد الفراغ العقلي والفراغ القلبي .
  10. صور من حرص السلف على أوقاتهم .

اقتباس

أمام هذا الحب الإلكتروني وأمام هذه العاطفة الممزوجة التي تعبر في حنايا هذه الشبكة العنكبوتية يعيش عشرات من الشباب والفتيات غرقى قد شربوا من كأس الحب واحتسوا منها فعاشوا غرقى أمام هذه التداعيات.. إنهم في الزوايا والحنايا يسكبون الدمع الغزار، ويتأوهون بهمسات وزفرات يبثونها أحيانا مكتوبة، وفي أحايين كثيرة يأوون إلى ركن شديد ممن يهون الاتصال به أو ممن يجدون راحتهم عنده حتى يفرغوا تلك الآهات وتلكم الزفرات.

الخطبة الأولى:

الحمد لله على حكم صنعه شكرًا على إعطائه ومنعه، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح للأمة وكشف الله -جل وعلا- به الغمة، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: إخوة الإيمان والطاعة: لا يزال الحديث مستمرًّا عما أسميناه مجازًا بالحب الإلكتروني، وإن شئت فسمّه حقيقة بالعاطفة الكاذبة، لا يزال الحديث مستمرًّا عن هذه المشكلة، وتلكم المعضلة النازلة، مع أنني ما كنت أظن بجمعتيكم أن أتحدث بموضوع كهذا؛ حيث إن هذا الموضوع لا يتعلق إلا بفئة قليلة من أفراد المجتمع، إلا أننا معاشر المسلمين جسد واحد وهيئة واحدة وأمة واحدة يتداعى بعضنا لما يصيب بعضه بالحمى والسهر.

إخوة الإيمان والطاعة: أمام هذا الحب الإلكتروني وأمام هذه العاطفة الممزوجة التي تعبر في حنايا هذه الشبكة العنكبوتية يعيش عشرات من الشباب والفتيات غرقى قد شربوا من كأس الحب واحتسوا منها فعاشوا غرقى أمام هذه التداعيات.

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاويا فتمكن

إنهم في الزوايا والحنايا يسكبون الدمع الغزار، ويتأوهون بهمسات وزفرات يبثونها أحيانا مكتوبة، وفي أحايين كثيرة يأوون إلى ركن شديد ممن يهون الاتصال به أو ممن يجدون راحتهم عنده حتى يفرغوا تلك الآهات وتلكم الزفرات.

وما في الأرض أشقي من محب *** وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كل حين *** مخافة فُرقة أو لاشتياق

فتسخن عينه عند التلاقي *** وتسـخن عينه عند الفراق

ويبكي إن نأوا شوقا إليهم *** ويبكي إن دنوا خوف الفراق

نعم عشرات هم من الشباب وفئات من العواطف الجياشة في نفوس الفتيات الذين وقعوا فريسة لهذا الحب -أيها الإخوة- وهؤلاء نعرفهم في سيماهم ونعرفهم في لحن القول.

فئات عمرية متنوعة وأعداد متباينة بل إن رجلاً أربعينيًّا أخذ يجادلني ذات مرة في مشروعية التحدث عن طريق الإنترنت إلى الجنس الآخر فيما هو فوق حدود المسموح.

إذاً ضحايا هذه المشكلة -أيها الإخوة- كثيرون جدًّا، ونجد ضحايا هذه المشكلة يبثون مشكلاتهم عبر المجلات أو البرامج المتخصصة والمتعلقة بحل هذه المشكلات والمشاكل.

أسوق إليكم أنموذجًا كتبته فتاة لم تتجاوز من عمرها سبع عشرة سنة، تقول وقد كتبت في زاوية المشاكل الاجتماعية وحلولها تقول: السلام عليكم ورحمة الله، أنا فتاة في السابعة عشرة من عمري أحببت شابًّا عمره 20 سنة، وأعتقد أنه يحبني فمن تصرفاته ألمح هذا الشيء لم أره في حياتي قط؛ لأن الاتصال بيننا كان روحيًّا بمعنى أنه كان على الإنترنت...

ولكن علاقتنا لها فترة طويلة تعرفنا على بعضنا بشكل أوسع وأحببنا بعضنا لتوافقنا في التفكير بل لتوافقنا في كل شيء قد يتبادر للذهن، إنه ربما يكون حب مراهقة ولكنه ليس كذلك لأني وبشهادة الجميع أمتلك عقلاً أكبر من سني بل إني إجمالاً أكبر من سني وعاقلة وأزن الأمور بحكمة وعقلانية!!

غرور الفتاة أوداها فيما أوداها خدعوها بقولهم عقلانية.

تقول: وللعلم قد ناصحته بالابتعاد عني، وإنه بالمقابل نصحني بذلك، وهو قال لي ذلك أيضًا، ولكن لم نستطع فقد غرقنا في الحب، سألني عن أسئلة كثيرة عن شكلي وعائلتي وصدق حبي لم أكن أفهم مغزى تلك الأسئلة حتى صارحني برغبته بالزواج بي بحجة أن كلا منا لا يستطيع العيش دون الآخر، وقال لي أيضًا أن لا أنتظره إن أتى نصيبي وفهمت ذلك منه على أنه أساس من التضحية ونوع من أنواعها.

ماذا أفعل؟ إني في حيرة من أمري، إني أعاني الأمرين، هل أتركه وألقي كل كلمة قالها؟ أم أصدقه وأكمل المسيرة معه؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا.

ليس هذا السؤال بِدْعًا من الأسئلة المبثوثة هنا وهناك، بل إنه أنموذج واحد من عينات كثيرة يبثها المتهوسون والمتهوسات، ركام هائل من المشاكل نقرأه في الزوايا وفي كل مكان، نسمعه من أنات المصدورين ومن نفحات قلوبهم، وفي المقابل وبكل عري الكلمة وبكل صراحة المقال نتجاهل كثيرًا أو نجهل كثيرًا حين نعتقد أن الإنسان آلة صماء لا تعتلج فيه عوامل الحب ولا تعمل فيه تلك القوى الخفية، لا تؤثر فيه دواعي الحسن حبًّا ووجدانًا.

إنه لا بد أن نعترف بوجود عاطفة جياشة في نفوس الجميع تدفع المرء إلى الحب، إن هذه القلوب المرهفة، وتلك الأحاسيس المفتقرة تشتمل فيما تشتمل فيه على عاطفة جياشة.

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى *** فقم فاعتلف تبنًا فأنت حمار

إذاً فالحب شيء سامٍ وقضية نبيلة أساسية يعيشها البشر ذكرانًا وإناثًا، والخطر لا يكمن هنا، إن الخطر كل الخطر يكمن في إرادة تجاهل هذه العاطفة، وتلك القوة ليعيش الإنسان بعد ذلك آلة صماء شأنه في ذلك شأن سائر الجمادات.

ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار

إن الخطر -إخوة الإيمان- يكمن في عدم توظيف هذه العاطفة، وفي عدم السمو بها لتكون عاطفة إيجابية، إنه لا ينبغي لنا كما ألا نتعامى أمام هذه العاطفة، وألا نغلق الأعين والأسماع فإنه أيضًا لا ينبغي لنا أن نتعامى عن توجيه هذه العاطفة توجيهًا إيجابيًّا ليتحول هذا القلب إلى أشرف المحبوبات، وإلى أحقها بامتلاك السمع والقلب والضمير إلى توجيه الحب الخالد إلى أحب المحبوبات إلى حب الله -تبارك وتعالى- وإلى حب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إلى حب الجمال المبثوث في الكون، إلى حب الخير وإشاعته ونشره بين الناس، وإلى الحب العاطفي كذلك ولكن في حدود العلاقة المشروعة التي رسم منهاجها كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

أيها الإخوة: مع اتساع شبكة المعلومات العنكبوتية ومع انتشارها طولاً وعرضًا لتطال كل بيت في أغلب بيوتنا، ولتصل إلى كل ركن تعليمي حتى أصبح أداة نتداعى جميعًا في إدخالها إلى كل الأكاديميات وإلى كل المدارس والجامعات.

مع هذا الامتداد العريض ومع تغشي الناس على هذه الشبكة كان لا بد أن يكون من الاحتكاك بين الجنسين رجالاً ونساء، وقد سئل الإمام العلَم الماجد أبو معاذ -وفَّقه الله تعالى- عن ضوابط التواصل بين الجنسين عبر الإنترنت؟ فقال: "يحضرني من هذه الضوابط ما يلي:

أولاً: عدم استخدام الصورة بأية حال؛ وذلك لأمرين: لأن هذا ليس له حاجة مطلقاً فالكتابة تغني وتكفي.

ثانياً: لأن هذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان، في تزيين الباطل وتهوينه على النفس.

ثالثا: الاكتفاء بالخط والكتابة، دون محادثة شفوية، وإذا احتيج إلى هذه المحادثة فيراعى فيها الأمر الرباني (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) [الأحزاب:32]، وإذا كان هذا لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بغيرهن من النساء؟! وإذا كان هذا في عهد النبوة، فكيف بعصور الشهوة والفتنة؟!

رابعًا: الجدية في التناول، وعدم الاسترسال في أحاديث لا طائل من ورائها، وبالصدق. فالكثيرون يتسلون بمجرد الحديث مع الجنس الآخر، بغضّ النظر عن موضوع الحديث، يهم الرجل أن يسمع صوت أنثى، خاصة إذا كان جميلاً رقيقاً، ويهم الأنثى مثل ذلك، فالنساء شقائق الرجال، ويهم كلاً منهم أن يحادث الآخر، ولو كتابياً. فليكن الطرح جاداً، بعيداً عن الهزل والتميّع.

خامسًا: الحذر واليقظة وعدم الاستغفال، فالذين تواجهينهم في الإنترنت أشباح في الغالب، فالرجل يدخل باسم فتاة، والفتاة تقدم نفسها على أنها رجل، ثم ما المذهب؟ ما المشرب؟ ما البلد؟ ما النية؟ ما الثقافة؟ ما العمل؟.. إلخ؛ كل ذلك غير معروف.

ولعل من تداعي المعاني أن أذكر أن من إحدى المشاكل المطروحة في زاوية مشاكل وحلول في موقع إسلام أون لاين أن إحدى الفتيات قد تعلقت بشاب ثم تبين لها أن هذا الشاب يخالفها في المذهب والمشرب؛ لأنه كان رافضيًّا شيعيًّا، وكانت هي سُنية ".

يقول الشيخ:" وعن تجربة: فإن المرأة سرعان ما تصدق، وتنخدع بزخرف القول، وربما أوقعها الصياد في شباكه، فهو مرة ناصح أمين، وهو مرة أخرى ضحية تئن وتبحث عن منقذ، وهو ثالثة أعزب يبحث عن شريكة الحياة، وهو رابعة مريض يريد الشفاء.. الخ

وأنصح بعناية الأخوات العاملات في مجال الإنترنت في التواصل بينهن، بحيث يحققن قدراً من التعاون في هذا الميدان الخطير، ويتبادلن الخبرات، ويتعاون في المشاركة، والمرء ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه، والله – تعالى - يقول: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1- 3] ".

روى الطبراني في (معجمه الأوسط)، والبيهقي في (شعب الإيمان) عن أبي مليكة الدارمي، وكانت له صحبة، قال:" كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر".

أيها الإخوة: إذاً لهذه الظاهرة أسباب وتداعيات، أجملها لكم فيما يأتي وهذا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والتقصي، فمن أسباب الوقوع في هذا المعترك الوحل ضعف الإيمان وقلة الوازع الديني وعدم الارتباط بالله سبحانه وتعالى.

ومن الأسباب: الابتعاد عن الأجواء الإيمانية والمجالس الخيرة، وهذا سبب رئيس، وإن شئت قل: إنه نتيجة حتمية للمقدمة الأولى.

إن من الأسباب: قلة الوعي والاطلاع أو انعدامهما، وأعني بقلة الوعي والاطلاع قلة الوعي والاطلاع من جانب المربين ومن جانب المستخدمين من الناشئة والشباب؛ فإن المستخدمين يخوضون هذا المعترك ظنًّا منهم أنهم قد وقعوا في حب بريء، وفي حب عذري لا يجاوز حدود هذه الشاشة وهذه الإيقاعات التي يضربونها على مفتاح الكمبيوتر.

في دراسة أمريكية أُجريت ثبت أن سبع 40% من ضحايا الاغتصاب كن من ضحايا الأصدقاء وأن 20% ضحايا اغتصاب أقارب... إذًا لا مجال لما يسمى بالحب البريء أو العاطفة التي ليس ورائها ما ورائها.

من الأسباب: عدم إشباع الحاجات النفسية والرغبات الوجدانية، إن الفتاة -أيها الإخوة- عاطفية تتأثر بما حولها وتنقاد سريعًا للمدح والثناء.

خدعوها بقولهم حسناء *** والغواني يغرهن الثناء

ويقابل هذه العاطفة الجياشة الإهمال الأسري الواضح، والبعد عن الدفء العائلي الذي تفقده البنت مع أنها تعاني ما تعاني من حالات التنكر والاكتئاب التي تعترضها مرة في شهرها نظرًا لتركيبتها الفسيولوجية، فتبحث في ظل هذه الظروف عمن يسمع أناتها وعن الصدر الحاني الذي لا تجده إلا في تلك الذئاب العاوية التي تتمثل في أنها صدور حانية.

من الأسباب: أصدقاء السوء الذي يزينون هذا الأمر، وييسرون سبل الوصول إليه، فكم من شاب وفتاة وقعوا في حبائل هذا ولم يكونوا ليعرفوا أسماء تلك المواقع ولا وصلاتها إلا أنها قد أتتهم عن طريق البريد الإلكتروني ممن يزعمون أنهم لهم أصحاب أو من رفقاء الجامعة أو المدرسة.

من أكبر الأسباب -أيها الإخوة- التي أعلقها اليوم في أعناق المربين آباء وأمهات: الغياب التربوي واليتم الأبوي.

ليس اليتيم الذي مات والده *** إن اليتيم يتيم العلم والأدب

ظن كثير من الآباء وظن كثير من المربين أن التربية تقف عند حدود التقليد الذي ورثوا عليه الآباء، وأن التربية تقف عند حدود الطعام والشراب والكسوة، كلا -أيها الإخوة- فإن تلك قيم نتفق نحن وسائر الحيوانات في توفيرها.

أما القيم الأسمى والمبادئ الأعلى أن يترقى التربوي مع معطيات الحدث ساعة بساعة ليعيش مع هذه التقلبات التي يعيشها الناشئة.

أيها الإخوة: لا أجد عذرًا للآباء الذين أدخلوا جهاز الكمبيوتر وأدخلوا الإنترنت إلى بيوتهم، لا أجد لهم عذرًا أن يقفوا في حدود التعليم إلى ما وقفوا عنده في حدود الجامعة والمدرسة إبان تلقيهم على المشايخ أو إبان تلقيهم في المدارس والجامعات، كلا، إنه يجب علينا مع هذه المعطيات أن نعرف المداخل والمخارج لهذه الشبكة، والناشئة أسرع تطورًا وأشد فتكًا في هذه الأجهزة .

إنهم يصلون إلى ما لا يصل إليه الأكابر، وإن كثيرًا من الهواة استطاعوا أن يخترقوا من المواقع ما لا يخترق، وأن يصلوا مع سبل الحجب ومع إمكانيات المنع أن يصلوا إلى ما يريدون..  إذاً ينبغي لنا أن نكون متفطنين أمام هذا كله.

أيها الإخوة: ومن أكبر الأسباب الساعية للوقوع في هذه المشكلة: الفراغ الذي يعيشه كثير من الشباب وكثير من الفتيات؛ ذلك الفراغ الذي لم نستطع أن نوظفه إيجابيًّا بل إننا في أحسن الأحوال نقتله -زاعمين أن ذلك قتلاً له- نقتله في الملهيات والمغريات والوقوع في الشهوات وتهيؤها لهؤلاء الناشئة من الفتيان والفتيات وعلى أحسن الأحوال فإننا نقدم لهم ما لا نفع فيه بحجة أننا نقتل أوقات فراغهم .

سأعرض بالتفصيل لهذه المشكلة تاركًا بقية الأسباب للخطبة الثانية، سائلاً المولى -سبحانه وتعالى- أن يصلح ناشئتنا وشبابنا، وأن يبصّرنا بالحق وأن يجعلنا به عاملين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد سيدنا محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

أما بعد: أيها الإخوة: فإن أكبر الأسباب الداعية إلى بقاء الشاب والفتاة مسمَّرًا خلف هذه الشاشة إلى ساعات طويلة، ففي استبانة أجراها أحد الفضلاء في مدرسة شاملة متوسطة وثانوية تبين أن متوسط الذين أُجريت عليهم هذه الاستبانة يقضون يوميًّا ما بين ثلاث إلى أربع ساعات على شاشة الكمبيوتر متصلين بالشبكة العنكبوتية وقد مر معكم في الخطبة السابقة أن بعض الشباب يقضي ما يزيد عن ست ساعات يوميًّا أمام هذه الشاشة.

أيها الإخوة: كمّ هائل من أعمارنا تمضي وأنفاسنا تنقضي وما علم المغرورين والمخدوعون أن الذي يمضي من أعمارهم هي أعمارهم.

والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه *** وأراه أهون ما عليك يضيع

إن الفراغ في الشر يدمر ألوف الكفاءات والمواهب ويدمر الطاقات ويبددها، ويبعثرها إلى غير رجعة .

يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إني لأرى الرجل فيعجبني فإذا سألت عنه فقيل لا حرفة له سقط من عيني".

وقال الموفق أيضًا "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا" أي فارغًا "لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة".

وقال حكيم: "من أمضى يومًا من عمره في غير حَقّ قضاه أو فَرْض أدَّاه أو مجد أَثَّله - ورَّثَه - أو حَمْدٍ حَصَّله أو خير أسَّسَه أو علم اقتبَسَه فقد عَقَّ يومَه وظَلَم نَفْسَه".

وكثير هم الذين نواجههم عندما نواعدهم أو عندما نطلب منهم مهمة ما فيتحججون بأن بالمشاغل كثيرة ويعتذرون بأنهم لا يجدون فراغًا يحكون فيه رءوسهم، وهؤلاء كما قال بعض الدعاة "مشغولون بلا مهمة".

الفراغ داء قتّال للفكر والعقل والطاقة الجسمية، إذ النفس لا بد لها من حركة وعمل؛ فإذا كانت فارغة من ذلك تبلد الفكر وتعطل العقل وضعفت حركة النفس، واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب.

وقديمًا نبَّه المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على نعمتين عظيمتين غُرَّ فيهما من غُرَّ، فقال عليه الصلاة والسلام "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا أن هذه الدقائق التي تبعثرها هنا وهناك مما يُستثمر ويُغتنم قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس" وعد منها "وفراغك قبل شغلك".

ولهذا قيل: "الفراغُ للرجل غفلة وللنساء غُلْمة"  أي: محرّك للشهوة، وأحسن أبو العتاهية إذ يقول:

إن الفراغ والشباب والجِده *** مفسدة للمرء أي مفسده

لقد هاج الفراغ عليه شغلًا *** وأسباب البلاء من الفراغ

أيها الإخوة: هذا ما يتعلق بالفراغ العقلي، وثمة فراغ أشد من هذا فتكًا بالإنسان إنه الفراغ القلبي، أوضح الله تبارك وتعالى أن ملء الفراغ القلبي يكون بالإيمان به -سبحانه وتعالى- ولذا قال الحق جل ثناءه لنبيه -صلى الله عليه سلم-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) [الشرح: 7].

يقول ابن مسعود:"اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة؛ فإن لم تجده في هذه المواطن، فاسأل الله أن يمن عليك بقلبٍ؛ فإنه لا قلب لك".

رحم الله سيد قطب إذ يقول: "إنها صورة النفوس الفارغة التي لا تعرف الجد؛ فتلهو في أكثر المواقف، وتهزل في مواطن الجد، وتستهتر في مواطن القداسة".

يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمهم".

وأورد عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى- في كتابه الذي أوصي به كل أحد "قيمة الزمن عند العلماء" أورد أن أحد السلف -رحمه الله- كان يتناول الفتيت، لا يمضغ الخبز، ولا يتناول من الطعام ما يعيقه، فسئل عن ذلك فقيل له: ما بالك تلتهم الفتيت؟ قال: "بين سفّ الفتيت ومضغ الطعام ستين آية"، رحمه الله رحمة واسعة.

يقول ابن مسعود: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

يقول الحسن البصري: " ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك غدًا شهيد، فاعمل فيَّ خيرا أشهد لك به غدًا؛ فإني لو قد مضيت لم ترني أبدًا. قال: ويقول الليل مثل ذلك".

إذاً الدعوة صريحة للشباب لاستغلال هذا الوقت الكبير في تربية النفس تربية إيمانية في حياض كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تقلُّبًا في حِلَق الذكر، ورتعًا في ميادينه الرحبة التي تحفّها الملائكة وتغشاها الرحمة وتتنزل عليها السكينة.

إنها دعوة جادة لصقل تلك المواهب وللنهوض بها، ولصرف الهمم للإنتاج البشري المثمر؛ فإننا معاشر المسلمين أحوج ما نكون لذلك.

أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ييسر لنا من أمرنا يسرًا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي