عجبا له كيف انتصف .. !

رشيد بن إبراهيم بو عافية
عناصر الخطبة
  1. ما أسرعَ مرور الأيّام والليالي .
  2. رمضان كله رحمة ومغفرة .
  3. إنما الأعمال بالخواتيم .
  4. من منَّا حاسب نفسه عما مر من رمضان؟! .
  5. الحث على اغتنام العشر الأواخر .

اقتباس

ها قد انتصف، فمن منَّا حاسب نفسه فيه وانتصف؟! حقٌّ على كلّ عاقلٍ أن يسألَ نفسَه: ماذا قدّمَ هذا العامَ وما الذي أخّر؟! مثّل لنفسِكَ يا عبد الله: ها قد مضَى النصفُ من رمضانِك .. أي من حياتِكَ على التشبيه .. لم يبقَ إلاّ نصفٌ وترحل، أي زاد ستقابل به مولاك..؟ وأي هدية ستحملها يداك ..؟! اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا !

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه حمدَ الشاكرين الذاكرين الصابرين الثابتين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.

 ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: ما أسرعَ الأيّامَ والليالي، وما أشدَّ جريَانِ الأحوال! كنا بالأمس نتحدث عن استقبال شهرِ رمضان، فإذا بنَا في منتصف الطريق قد ذهبَ النصفُ أو كاد، وما هي إلا أيامٌ حتى نُفَاجَأ بهلال شوّال، وإقفال سوق المنافسة وخزائنِ الأعمال، واللقاءُ بين يدي الله تعالى يوم تُفْتَحُ خزائن الاجتهادِ وتُنْشَرُ دواوين العمل ..!!

أيها الإخوةُ المؤمنون: رمضانُ كلُّهُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعتقٌ من النار، ونصفُهُ الثاني خيرٌ من نصفه الأول بيقين، فمن جهةٍ جعل اللهُ فيه ليلةً خيرًا من ألف شهر من صادفها فقامها إيمانًا واحتسابًا أعتقه اللهُ من النار وغَفَرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبه. ومن جهةٍ أخرى جعل الله –سبحانَهُ- للخِتام ما لم يجعلهُ لغيرِه، كما قال صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: "إنما الأعمال بالخواتيم".

قال أهل العلم: يدلُّ الحديثُ على حقيقة عظيمة:

وهي: أنّ قيمة الاجتهاد في العمل والسعي إنما تظهر على الحقيقة في الختام، فالموفّقُ من وفّقه الله للإحسان في خاتمته كما وفّقه للإحسان في بدايته، ولذلكَ ثبتَ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها".

 فانظُر كيف كتب للأول النار مع صفاء البداية، والسببُ الفشلُ والانتكاسُ في النهاية، وكتبَ للآخَرِ الجنَّةَ مع الانتكاسِ في البداية لصفاءِ النهاية وحصول التوفيق فيها. فاحرصُوا معشر المؤمنين على جمالِ نهاية رمضان كما حرصتم على جمالِ بدايته تغنموا وتسلمُوا !

فهذا رمضانُ - معشر المؤمنين - قد انتصف، فمن منَّا حاسب نفسه فيه وانتصف؟!

حقٌّ على كلّ عاقلٍ أن يسألَ نفسَه: ماذا قدّمَ هذا العامَ وما الذي أخّر؟!

مثّل لنفسِكَ يا عبد الله: ها قد مضَى النصفُ من رمضانِك .. أي: من حياتِكَ على التشبيه .. لم يبقَ إلاّ نصفٌ وترحل، أيّ زاد ستقابل به مولاك..؟ وأيّ هدية ستحملها يداك ..؟! اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا !

كيف وجدت حالكَ مع القرآن في تلك الأيّام؟ المُجِدُّونَ في الختمة الثانية والثالثة أو الرابعة؛ فماذا قدّمت لنفسِك؟!

كيف وجدت حالكَ مع الصّلوات؟! الفُطَنَاءُ لم تفُتهُم صلاةٌ ولا نوافلُها، فماذا قدّمت لنفسِك؟!

كيف وجدت حالكَ مع الإحسانِ والصّدقات؟! الفطناءُ أكثروا الإطعامَ والصّدقات، وباركُوا للمساكينِ الأعطيات، فماذا قدّمت لنفسِك؟!

كيف وجدت حالكَ مع التراويح؟! المُجِدُّون ما تركُوا ركعةً واحدة، وها قد زال تعبُ القيام، وذهبت راحة الغفلة ! فماذا قدّمت لنفسِك؟!

هكذا هو الحال - معشر المؤمنين - في الحياة الدنيا..!، تذهبُ الأحزانُ والأتعابُ كما تذهبُ الشهوات واللذّات سواءً بسواء، ولكن لا تبقى إلا الحسناتُ والسيّئات!، قال الله تعالى يصفُ حالَ المتّقين وقد حطُّوا رحالَهم في الجنّة: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب) [فاطر 33-35].

وقال سبحانهُ يصفُ حالَ الغافلين وقد سيقَ بهم إلى النّار -نسأل الله السّلامة والعافية-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير) [فاطر: 37].

سبحان الله !! أوَ لم نعمّركم ما يتذكّرُ فيه من تذكّر؟!: هذا أربعين رمضان، وهذا خمسين، وهذا ستّين وهذا سبعين .. أو لا تكفي تلك الفُسحةُ من الأيّامُ والليالي والشهورِ والسّنين، أَوَ لَا يكفي الشيبُ بعد الشباب ليعلمَ العبدُ أنّ الحياةَ لهوٌ ولعب وأنّ ما عندَ الله خيرٌ للعباد؟!

نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أيها الأحباب: مادامَ في العمر بقيّة، وفي القلب عزمٌ صادِقٌ ونيّة؛ فلا يزالُ العبدُ في متّسَعٍ من الأمر. ما بقيَ من رمضان هو أفضلُ الشهرِ باتّفاق، ففيهِ العشرُ الأواخرُ وِعَاءٌ يحملُ عروسًا للمتّقين الراغبينِ في الوصل، إنّها ليلةُ القدرِ وما أدراكَ ما ليلةُ القدر؛ ليلةٌ كريمةٌ مباركة تتنزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها، فضّل الله العبادةَ فيها على عبادةِ ثلاثٍ وثمانين سنة؛ فيها تُعتقُ الرّقاب، وتُنالُ الرّحمات، ويعفُو اللهُ عن العباد!

وقد ذكر لنا أزواجه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان كثير الاجتهاد في هذا الشهر العظيم، وأشد ما يكون اجتهاده إذا كاد هذا الشهر ينصرم يريدُ الخروج؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" (صحيح سنن ابن ماجه: 1767، والصحيحة: 2123).

فإنَّ العبد قد يُدرِكُ من نفحات آخر الشَّهر ما فاتَهُ في الأَوَّل من جِدٍّ واجتهاد، وقالت -رضي الله عنها-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل، وشد المئزر، وأيقظ أهله"(صحيح سنن ابن ماجه: 1768)، أي: أنَّ البيتَ كلَّهُ حيٌّ في الليل والنَّهارِ بذكر الله تعالى ..

فيا عبدَ اللهِ، أوصيكَ ونفسي بتقوى الله فيما بقي.. هيئ نفسَك للعشرِ هيّا!: اجعل ساعةً في صلاةٍ .. وساعةً في تلاوةِ القرآنِ .. وساعةً في الدعاءِ .. وساعةً في الذكرِ .. وساعةً في الصدقةَِ والإحسانِ .. وساعةً في البرِ والصلةِ .. وسوفَ تَمُرُّ الساعاتُ سريعاً .. ويُكتبُ الأجرُ عظيماً .. ويُوشكُ هلالُ شوالٍ أن يظهرَ .. ويذهبَ النصبُ والسهرُ .. ويبقى بإذنِ اللهِ تعالى العملُ والأجر .. !

فيا قلوبَ الصّائمينَ اخشعِي .. !

ويا أقدامَ المجتهِدين اسجُدي لربّكِ واركعي .. !

يا عيونَ المؤمنين دونَ الجنّةِ لا تنظُري .. !

يا هممَ المُحبّينَ بغيرِ الله في الحياة لا تقنَعي .. !

يا ليلةِ القدرِ للعابِدين الزاهدين اشهَدِي .. !

ويا ألسنةَ السّائلين في المسألةِ جِدّي واطلُبي .. !

يا غيومَ الغفلةِ عن البصائرِ تقشّعي .. !

ويا أرضَ الهوى ابلعي ماءَكِ ويا سماءُ أقلِعِي .. !

طوبى لمن أجابَ فأصابَ .. وويلٌ لمن طُردَ عن البابِ وما دُعي .. !

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي