وداعا رمضان

توفيق الصائغ
عناصر الخطبة
  1. شكر الله على بلوغ رمضان والتوفيق للعبادة .
  2. الفائزون والخاسرون في رمضان .
  3. العتق من النار وفضل التوبة في رمضان .
  4. لذة العيش مع القرآن في رمضان .
  5. إصلاح النفوس في رمضان وسؤال الله قبول الأعمال الصالحة .
  6. حكم صدقة الفطر وبعض حكمها وأحكامها .
  7. التكبير وبعض أحكام صلاة العيد ويومه .
  8. الاستمرار على الطاعة بعد رمضان .
  9. بعض ما يجب على المسلم تجاه إخوانه المسلمين .

اقتباس

عباد الله: من يسر هذه الشريعة، ومن حكمتها وعظمتها: أنها أرادت لنا مع تمام الفرحة أن ندخل الفرحة إلى أناس آخرين. ما أعظم الشريعة التي تعنى بالفقراء والبأساء والمعدمين!. الله -تبارك وتعالى- شرع لنا في ختام الشهر: أن نخرج من أموالنا طيبة به نفوسنا: صدقة الفطر. فرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله، اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه وعلى آله وصحابته وعترته.

أما بعد:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

فأما بعد، وأما قبل، وأما حين؛ فإننا نحمد الله -تعالى-، لك الحمد كله، لك الحمد بما أوليت، ولك الشكر على ما أعطيت، اللهم لك الحمد أنت بلغتنا، اللهم لك الحمد أنت هديتنا ووقيتنا وكفيتنا، اللهم لك الحمد أنت أوقفتنا بين يديك، وصومتنا لك، لك الحمد كله دقه وجله، علانتيه وسره، ظاهره وباطنه، نبوء بنعمك علينا، ونتعرف بإحسانك علينا، ونقر بالجميل، واليد العليا التي لك علينا، أوجدتنا من العدم، وربيتنا بالنعم، وأنت الذي تغذينا بها صباحا ومساءا، فلك الحمد على ذلك كثيرا طيبا مباركا فيه، ملأ السماوات، وملأ الأرض، وملأ ما بينهما، وملأ ما شاء ربي من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لله عبد: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].

نعم لا بد أن نتوجه إليه سبحانه وتعالى بالشكر والثناء، بجوارحنا وخواطرنا وألسنتنا.

أيها الإخوة: "بخ بخ! إنها لحياة قصيرة!".

أبواب الجنة لا تزال مفتحة، أبواب النار لا تزال مغلقة، ومردة الشياطين صفدت.

والله -تبارك وتعالى- يزين جنته في كل يوم لعباده الصائمين، ويقول: "يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك".

ما بين أولئك الفائزين الذين يدخلون من باب الريان، الذين يرتوي طول ظمأهم وهجيرهم في هذا اليوم الذي يقضونه صياما، يرتوي ذلك الظمأ، ويذهب ذلك التعب، ويذهب ذلك الجهد، مع أول قدم يضعونها في الجنة.

وبين فريق خاب وخسر، رغم أنفه، وضل سعيه.

لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد سليم والأغر ابن حاتم

أولئك هم الآمنون الذين أدوا عن الشهر صيامه، وقاموا بحقيقة قيامه.

أولئك موعدهم على الحوض مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، وآنية عددها كعدد نجوم السماء، ماؤها أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، فعندما يمد إليهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآنية، ليشربوا منها عند ذلك يرتوي منهم كل ظمأ، وتذهب منهم كل علة، ولا يجدون للعطش طعما، ولا يجدون للجوع معنى.

أولئك الذين يتذكرون عند ذلك آيات كانت تمر عليهم في نهار الصيام، أو في ليل القيام: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة:24].

(إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا)[الإنسان: 22].

أما الآخرون، ضلوا وخابوا وخسروا، ذهب عملهم، وضل سعيهم، رغمت أنوفهم، أولئك الذين دخل عليهم رمضان وخرج فلم يزدادوا عملا، ولم يتقربوا من المولى -سبحانه وتعالى-.

وشتان ما بين الفريقين.

اللهم اجعلنا من الآمنين.

أيها الإخوة: ساعات هي التي تفصلنا عن هذا الموسم المبارك، هي التي تفصلنا عن آخر فوج، يقول الله -تعالى- لهم: "أعتقت رقابكم من النار".

في كل يوم للمولى -سبحانه وتعالى- عتقاء، فإذا كان آخر ليلة من رمضان أعتق الله -سبحانه وتعالى- من العبيد والرقاب، ما يجود به كرمه وفضله جل وعلا.

ألا فلنستشعر عظم هذه الساعات التي تمر سريعا، وستنقضي جميعا، ولننتهز الحظة والفرصة، ونحن نلح عليه في المسألة جل جلاله، إن لم نكن من عتقاء الليالي الخوالي أن يجعلنا في عتقاء ما تبقى من هذه النفحات.

يا فوز أولئك المعتقين الذين أعتق الله رقابهم في الليالي أو الأيام، والذين وقفوا وهم يتناولون التمرات على الإفطار، يسألونه وهم يرسلون الدمع مدرارا؛ أن يكتب الله براءتهم من النار.

ثم يتجلى الله -عز وجل- من عليائه ليقول كلمته، وليصدر حكمه: "عبدي فلان أعتقت رقبتك من النار".

هل تجرؤ النار بعد ذلك أن تمس منه عصبا أو بشرا أو شحما أو لحما؟!

أولئك الآمنون الذين سجلوا في ديوان السعداء، أولئك هم الفائزين لم يشقوا أبدا.

اللهم اجعلنا في المعتقين، اللهم اجعلنا في المعتقين، اللهم اجعلنا في المعتقين الذين كتبت براءتهم يا رب العالمين.

أيها الإخوة: كانت هذه الأيام الخوالي مدرسة وأي مدرسة؟

آب الآيبون إلى حلق الذكر، وإلى مراتع العبادة، ورجعت قوافل التائبين إلى بيوت الله.

نفرُّ إلى الله، ونأوي إلى الله، وهل لنا إلا هو سبحانه وتعالى؟

جرب العباد المسالك والدروب، فلم يجدوا أحن من الله، ولا أبر عليهم من الله، ولا أرحم بهم من الله، فآووا إليه زرفات ووحدانا.

في رمضان جربنا أن نبقى ساعات طوال في ضيافة المولى -سبحانه وتعالى-.

تعم المساجد بالذكر.

أن نصطلح مع كتاب الله -عز وجل-، فبتنا نقلب صفحاته، ونردد آياته، ونحن بين صعود وخفض، وبين إقبال وإدبار: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الزمر:23].

بين بحبوحة الجنة وسعتها، وضيق النار وزفيرها.

عاش عباد الله مع القرآن، فأيقنوا أن لا خلاص إلا بالالتفاف حوله، وأيقنوا أن الدروب والمسالك كلها مضلة إلا دربه سبحانه وتعالى، وصراطه ومسلكه.

لقد كان لقلوبنا ضياءً، ولأبصارنا جلاءً.

لقد كان هذا الكتاب العزيز لهمومنا جلاءً، وجدنا بين حناياه دوحة فيحا، وأمنا وارفا، وظلا ظليلا: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].

أفيحل بعد ذلك أن يخلع العبد عن رقبته هذا الذي وجده؟ أو أن يتحلل من هذا الميثاق العظيم الذي أكده مع الله -سبحانه وتعالى- وهو يناديه في ليالي الشهر ونهاره، قائلا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5]؟

لا ينبغي أبداً.

إذاً هي فرصة للاصطلاح مع الكتاب العزيز، وفرصة للأوبة إليه من قريب.

فرصة في أن نعود إليه تلاوة وقراءة وتدبرا، والتفافا حوله.

لأنه حبله المتين، وصراطه المستقيم.

ما ضل من تمسك به، بل من آووا إليه تحصل على الجائزة الكبرى، والمنة العظيمة، حينما يدخله الله -سبحانه وتعالى- في خاصة خاصته، وفي معيته، عندما يكونوا من أهل الله.

يا لله ما أعظم الشرف، عندما يكون من أهل الله وخاصته: (فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:(38]..

وكما أصلحت العلائق مع الخلائق -سبحانه-، فإن الصائمين أدركوا أن صيامهم لم يتجاوز حدوده، ولم يرقى بعمله إلى السماء، لم تفتح له أبواب السماء، حتى يصلح العلائق فيما بينهم وبين العبيد، فأقبلت القلوب إلى القلوب، والأعناق إلى الأعناق، وذرفت الدموع في عناق حميم.

يصطلح فيه الأخ مع أخيه، ويدع البغضاء والغل والحسد.

لنبقى كما أراد الله -عز وجل- لنا؛ أخوة متحابين، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

عباد الله: لن يرقى للعبد عمل، ولن يصعد منه الكلم الطيب، ولا العمل الصالح، ما دامت البغضاء والشحناء فيما بيننا.

فرصة؛ لأن نصطلح.

ساعات هي المتبقية، لتصلح العلائق فيما بينك وبين المخلوقين، ولنقبل كما أراد الله إخوانا متحابين؛ لأن من حقق هذه الصورة في هذه الدنيا تحققت له الصورة الأخرى هناك: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)[الحجر:47].

والأخرى -وأعيذكم بالله من الأخرى- هي التي حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هي الحالقة" التي تحلق دينكم، وتذهب بأعمالكم، فإن "فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الرأس، ولكن تحلق الدين".

الله أكبر: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].

الله أكبر على ما أتم...

الله أكبر على ما أكمل..

وله الحمد على ذلك كله حمدا كثيرا طيبا مطيبا مباركا فيه ملأ السماوات، وملأ الأرض، وملأ ما بينهما، وملأ ما شاء ربي من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لله عبد.

أيها المتأمل الكريم: مر عليك وأنت تقرأ في آيات الذكر: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)[البقرة:183].

ثم ثنيت ذلك بقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة:185].

ثم تثلث بقرب الله -تعالى- وبمعيته التي يشعرك بها؛ قربه جل وعلا الذي يدنو سبحانه من الخلائق حتى يشعرهم أنه أقرب إليهم من أنفسهم، وأقرب إليهم من حبل الوريد: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].

ليست هذه الآية هي الآية اليتيمة الدالة على قربه، والحاثة على دعائه، فالله -تعالى- يقول: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60].

(وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180].

بعد الصيام والقيام، بعد تلاوة القرآن، بعد الصلاة والعبادات كلها، فإننا نرفع أكف الضراعة إليه، ونحن الفقراء إليه، المحتاجون إليه، في دقائق أمورنا وجلائلها، بل المحتاجون إليه في أدق تفاصيل حياتنا، نرفع له أكف الضراعة، ونسأله ونرجوه بحاجاتنا، بل لو قطع شسع نعل أحدنا لسأل الله -تبارك وتعالى-، وهل لنا غنى عنه سبحانه وتعالى؟ هل لنا غنى عن جل جلاله في شؤوننا كلها؟

هو الذي يدبر أمورنا، ولكن حاجاتنا إليه كثيرة كثيرة.

ندعوه عند ختام الشهر: أن يتقبل منا.

نسير على نهج السلف -رضوان الله عليهم- فهم يحسنون العمل، ويتقنون الصنعة، ويبتهلون إلى الله في آخر الأمر أن يتقبل صيامهم.

نسير على نهج الأنبياء السابقين، يبني أحدهم الكعبة، ويقيم أوتادها، ويقيم بناءها، ويرسخ دعائمها، ثم يقف مبتهلا مع ابنه: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127].

ألا ونحن الأحرى بهذا الدعاء أن نقف عند ختام الشهر، ونحن نلهج إليه بالذكر والثناء، ثم نجعل بين الذكر والثناء هذا الدعاء: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127].

(وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:128].

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم اشكر سعينا، اللهم اشكر سعينا.

اللهم تقبل عبادتنا على ما فيها من التقصير، وعلى ما يعتريها من التخليط، اللهم تقبله منا وأوف لنا الكيل، وتصدق علينا، أنت أوفى الواعدين.

عباد الله: من يسر هذه الشريعة، ومن حكمتها وعظمتها: أنها أرادت لنا مع تمام الفرحة أن ندخل الفرحة إلى أناس آخرين.

ما أعظم الشريعة التي تعنى بالفقراء والبأساء والمعدمين!.

الله -تبارك وتعالى- شرع لنا في ختام الشهر: أن نخرج من أموالنا طيبة به نفوسنا: صدقة الفطر.

فرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل صائم، صاعا من تمر، صاعا من شعير، صاعا من زبيب، صاعا من أرز، صاعا من أقط، صاعا من طعام.

نطعم به الفقراء والمعوزين؛ لماذا يا رب؟

حتى لا يبقى يوم العيد متكفف ولا سائل ولا جائع.

حتى لا يكون يوم العيد يد عليا، ويد سفلى.

لتبقى اليد كلها عليا، ولينشغل الجميع بالذكر والشكر والثناء، وليلبس الجميع الجديد، ولترتسم البسمة على الشفاه كلها.

فأخرجوا زكاة الفطر طيبة بها نفوسكم، واعمدوا إلى بيوت الفقراء وأعطوهم مما أفاء الله عليكم.

تعبدوا لله -تعالى- برسم البسمة على شفاه لم تعد البسمة إليها من بعيد.

تعبدوا لله -تبارك وتعالى- بإدخال السرور عليهم، وأنتم تحتسبون أن يدخل الله السرور عليكم يوم تنظرون إليه، وجوهكم ناضرة، وأنتم إلى ربكم ناظرون.

عباد الله: فرض النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الزكاة؛ طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للمساكين.

وهي صاع من طعام؛ ثلاثة كيلو إلا ربع.

يخرجها المسلم على الفقراء والمساكين إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد، وليلة العيد، فإنه يخرجها عن كل صائم وغير صائم، على الكبار والصغار، حتى عن الأجنة في الأرحام، نخرجها عن هؤلاء، وندفعها إلى الفقراء والمساكين.

وفي إخراجها مالا؛ خلاف بين أهل العلم معروف ومعلوم، والفتوى في هذا البلد أن إخراجها مالا لا يجزئ، بل لا بد أن تخرج طعاما.

فأخرجوها في الوقت الذي أمر الله -عز وجل-.

تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، ويجوز تعجيلها بيوم أو يومين، ويستحب إخراجها يوم العيد قبل الصلاة.

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ يا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

أيها الإخوة: عن قريب سيبرز الناس إلى المصلى، ويخرجون إلى مصلى العيد، شعارهم ودثارهم: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر".

نعم هو الأكبر جل جلاله، وما دونه فهو أصغر، كائنا من كان.

شعارنا ودثارنا يوم العيد، حمد الله -عز وجل- والثناء عليه بما هو أهله، ولا أحد أحب إليه المدح من الله.

الله -عز وجل- يحب أن يثنى عليه، فبالغوا في الثناء على مولاكم -سبحانه وتعالى-.

ولكننا -أيها الإخوة-: مع خروجنا إلى المصلى، ومع بروزنا إليه، لا بد أن نعلم أن الخروج إلى المصلى، وشهود صلاة العيد: فريضة متعلقة بذمم العبيد، أمر الله -عز وجل- على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمر بإخراج العَواتِق، وذَوَاتِ الخُدُور، والحُيَّض يخرجن إلى المصلى يشهدن الخير، ودعوة المسلمين.

هذا الأثر ثابت من حديث أم عطية -رضي الله عنها وأرضاها-.

بل ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: أنه أمر ذات الحجاب والجلباب أن تدفع إلى من لا حجاب عندها ولا جلباب، حتى تخرج إلى المصلى، وتشهد الصلاة.

وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - حتى المعذورة من حضور الصلاة، أمر الحيَّض أن يبرزن إلى المصلى، وأن يعتزلن الصلاة، يشهدن الخير، ودعوة المسلمين.

أيها العاقل الحصيف اللبيب: إذا كانت الشريعة تأمر من ليس عليها صلاة أصلا، فإن أمرك بحضور الجماعة، وشهود صلاة العيد، آكد من باب أولى، كيف والرجال مأمورين بشهود المجامع كلها؟!.

إذاً لا بد أن نخرج، وأن نبرز من بيوتنا، وأن ننتفض جميعا لنظر لله -تبارك وتعالى-.

العبودية مرة أخرى، عبوديتنا لله، لا تنحصر في السراء، بل هي في السراء والضراء.

عبوديتنا لله تتلون فرحا وترحا، إقبالا وإدبارا، وحلا وترحالا.

عبوديتنا لله -تبارك وتعالى- تلازمنا من الميلاد إلى الألحاد: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162-163].

أيها الإخوة المباركون: مع فرحة العيد، ومع لبس الجديد، ومع ركوب الحديد، ومع تلك التهاني المنبعثة من قريب أو بعيد، مع ذلك الجو العظيم، ومع تلك الفرحة العارمة، لا ينبغي لنا بحال أن نتناسى أكباد حارة، أن نتناسى أولئك الأطفال الذين حرموا آباءهم، أو حرموا أمهاتهم، أو تعكر عليهم صفو العيد، بفقد شيء من أشلائهم، أو بذهاب نور أبصارهم.

لا ينبغي -أيها الإخوة-: أن تنسينا فرحة العيد ونحن نشتري لأطفالنا اللعب أن ننسى أطفال سوريا الذين يلعبون على أنقاض البيوت.

لا ينبغي أبدا أن ننسى المجروحين في فلسطين، والمجروحين في أفغانستان، والذاهبين في الشيشان.

لا ينبغي أن ننسى مآسي المسلمين هناك وهناك، لحمة واحدة، وجسد واحد، أراده الله -سبحانه وتعالى- لنا مثلا صالحا: "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

ثم تأمل -أيها المبارك-: من الذي أمنك وخوف الآخرين، وأطعمك وجوع الآخرين؟ من الذي سقاك وأظمأ الآخرين؟

نصوم ونقوم آمن ما نكون، وأرغد ما نكون عيشا، وأناس آخرين يصمون ويقيمون على أزيز الطائرات، يصومون ويقومون على لهيب المدافع، وعلى أزيز طائرات (اف 16، و52) التي أزيزها فقط؛ تذهل له كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.

مع ذلك أمننا الله -سبحانه وتعالى-، وليس لنا من لدنه آمان ولا ميثاق.

إنما حل بالقوم قد يحل بنا عن قريب، فاستغفروا الله واستعتبوه، وتوبوا إليه، وعودوا من قريب: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال: 33].

حقيق أن نرفع أكف الضراعة، حقيق أن نبتهل إلى الله -جل وعز-، حقيق أن نلح عليه في المسألة، حقيق أن نظهر الضراعة والفقر والمسكنة والابتهال، وأن نرسل الدمع مدرارا، وأن نسأله لإخواننا المسلمين في كل مكان، أن يعز الإسلام والمسلمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي