لئن أوشك شهرُ رمضان أن ينقضي، فإن زمن العمل لا ينتهي إلا بالموت، ولئن أوشك صيام رمضان أن ينقضي، فإن الصيام لا يزال مشروعًا في عامة الأوقات، ولئن أوشك قيامُ رمضان أن ينقضي، فإنّ قيامَ الليل لا يزال مشروعًا سائر العام.. وإِذَا كَانَ المُسلِمُ في رَمَضَانَ مَأمُورًا بِالصِّيَامِ عَن بَعضِ الحَلالِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَليستشعر أَّنهُ مَأمُورٌ على الدوام بِصِّيَامِ جوارحه عَن الحرام.
الحمد لله وحده....
أما بعد: فها رمضان شهر الخيرات والبركات يؤذن بالرحيل، ولم يبقَ منه إلا القليل، مضى كلمح البصر ضيفًا عزيزًا، ويبقى في النفس لوعة فراقه، وفي الفؤاد شجى أحزانه، مضت أيامه ولياليه، ويمضي شاهدًا علينا بما عملنا فيه، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30]، فيا ليت شعري من يكون الفائز منا فَيُهَنَّى، ومن يكون الخاسر فيُعَزَّى.
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟!
عبد الله، تفيأت ظلال الإيمان، وتنسمت عبق الطاعة في شهر الصيام والقيام، ذقت حلاوة القرآن الكريم؛ فاطمأن قلبك وانشرح صدرك، رقَّ قلبك لذكر الله، ودمعت عيناك من خشية الله، أنست بمناجاة الرحمان بدعواتك وتضرعاتك وابتهالاتك، حفظت لسانك من الغيبة والنميمة والزور والبهتان، حافظت على صلواتك في أوقاتها، بررت والديك ووصلت أرحامك، وأحسنت إلى جيرانك، وصافيت إخوتك المؤمنين، عفوت عمن ظلمك، وأحسنت إلى من أساء إليك، أنفقت على الفقراء والمحتاجين، وواسيت المهمومين والمكروبين.
فهل بعدما أنست بالخير تتركه؟! هل بعدما ذقت لذاته وحلاوته تهجره؟!
هل بعد ذلك تعود إلى ذنوب هجرتها وآثام تركتها؟! هل بعد ذلك تعود إلى هموم مقلقة، وظلمات موحشة، إلى ضنك وشقاء، وتعاسة وعناء؟!
إن عبدًا عرف ربه ومولاه، وقدَّره حق قدره واتقاه حق تقواه، ليأبى عليه قلبه أن ينقض الأيمان بعد توكيدها، ليأبى عليه قلبه أن ينكث ما عاهد الله عليه، وهذه أنعم ربه إليه تترى، وآلاؤه إليه تتوالى، وهو سبحانه الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.
المسلم يدرك قيمة العبودية لله تعالى، يستشعر دائما أنها هي روحه الذي به يحيا، وغذاؤه الذي به يتقوى، فلا تجده إلا على العابدة لله عاكفًا، وفي سبيل مرضاة ربه مسارعًا، لسان حاله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84]، مناه من الدنيا: أن لا يدركه الموت إلا وقد حقَّق الغاية التي خلقه الله من أجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، ممتثلاً أمر ربه إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، وقوله سبحانه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
عباد الله، لا تزاَل الفرصة قائمة فيما تبقى من الليالي والأيام، ولا تزال أبوابُ السماوات مفتوحة لرفع الدعوات، ولا تزَال الملائكةُ حاملةً أقلامَها لتكتُب الحسنات والأعمال الصالحات، ولن يمَلَّ مُوفَّقٌ من خيرٍ حتى يكون مُنتهاهُ الجنة.
لئن أوشك شهرُ رمضان أن ينقضي، فإن زمن العمل لا ينتهي إلا بالموت، ولئن أوشك صيام رمضان أن ينقضي، فإن الصيام لا يزال مشروعًا في عامة الأوقات، ولئن أوشك قيامُ رمضان أن ينقضي، فإنّ قيامَ الليل لا يزال مشروعًا سائر العام.
وإِذَا كَانَ المُسلِمُ في رَمَضَانَ مَأمُورًا بِالصِّيَامِ عَن بَعضِ الحَلالِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَليستشعر أَّنهُ مَأمُورٌ على الدوام بِصِّيَامِ جوارحه عَن الحرام.
ألا فاتقوا الله وأطيعوه وجدوا واجتهدوا في تحصيل الخاتمة الحسنى لأعمالكم وأعماركم، أتبِعوا الحسنة الحسنة، وأتبِعوا السيّئة الحسنة تمحها، (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عباد الله: شرع الله تعالى لعباده في ختام شهر رمضان من الأعمال ما يكمل طاعاتهم، ويجبر النقص في عباداتهم.
فكبروا الله جهرةً واشكروه عند تمام شهر رمضان وكماله، ممتثلين أمر ربكم إذ يقول: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أدوا زكاة الفطر، صاعًا من طعامٍ من غالب قوتِ البلد، مقدارَ كيلوين ونصف، أخرِجوها طيّبةً بها نفوسكم، فإنها فريضة الله الواجبة على كل مسلم ومسلمة صغير وكبير يملك قوت يومه؛ تلزم المسلم عن نفسِه وعن كلّ من تجب عليه نفقتُه، طهّروا بها صيامكم من اللغو والرفث وأحسنوا بها إلى المساكين.
أخرجوها في وقتها الفاضل من غروبِ شمسِ آخِر يوم من رمضان، إلى الفراغ من صلاةِ العيد، ومن أخرجها قبل ذلك بيوم أو يومين فلا بأس.
من أدّاها قبلَ الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومَن أدّاها بعدَ الصلاة فهي صدقة من الصدقات. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
عباد الله، صلاةُ العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، فاخرجوا إليها متطهرين متطيِّبين متجمِّلين، لابسين أحسنَ ثيابكم.
أخرجوا إليها أهلكم وأولادكم، أحضروهم الخير ودعوة المسلمين.
الأكل قبلَ الخروج لصلاة العيد سنة نبينا وهدي حبيبنا -عليه الصلاة والسلام-، يقول أنس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يومَ الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترًا". أخرجه البخاري.
صلوا صلاة العيد، شكرًا لله وفرحًا بما وفَّق الله إليه من صيام شهر رمضان وقيامه.
من فاتته صلاةُ العيد قضاها على صِفتها؛ ركعتين بسبع تكبيرات في الركعة الأولى بتكبيرة الإحرام، وست تكبيرات في الثانية بتكبيرة القيام، وقراءة الفاتحة وسورة الأعلى والغاشية، أو غيرهما جهرًا.
الرجوع من غير طريق الذهاب إلى المصلى سُنّة من سنن العيد، ومظهر من مظاهر العظمة فيه والجمال.
افرحوا ووسعوا على أولادكم وأهليكم، فما الفرح إلا بطاعة الله، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
صلوا أرحامكم، وزوروا مرضاكم وجيرانكم، واعطفوا على فقرائكم وأيتامكم، فالراحمون يرحمهم الرحمن.
اهتموا بالقبول وألحوا على الله بقبول أعمالكم، متوسلين إليه بطاعته وتقواه، فالتقوى شرط قبول الأعمال الصالحة، يقول تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
أتبعوا رمضان صيام ست من شوال، فعلامة قَبول الحسنةِ الحسنة بعدها.
واستغفروا الله لما بدر من التفريط والتقصير، فالاستغفار خاتمة الأعمال الصالحة كلها.
وبُشراكم رَحمةٌ من الله ورِضوانٌ، وعتقٌ وغُفران؛ فربُّنا رحيم كَريم، جوادٌ عظيم، لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملاً، فأحسِنوا الظنَّ بالله، واحمدوه على بلوغ الختام، وسلوه الثبات على الدين، والخاتمة الحسنى عليه، وسلوه الفرج والنصر للمسلمين في كل مكان.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي