ومرض القلب: هو فساد يحصل له، يفسد به تصوّره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقًّا، أو يراه بخلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضارّ، أو يجتمعان له وهو الغالب، وسُمِّي ما هم فيه من نفاق وكفر مرضًا؛ لكونه مانعًا لهم من إدراك الفضائل...
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وآمنوا به حق الإيمان، واحذروا مخالفة أوامر ربكم وعصيانه، واعلموا أن المعاصي كلها سموم للقلب والبدن، فهي توهن البدن وتضعفه، وضررها على القلب كضرر السموم على الأبدان، وما يدل على أن القلوب تمرض وتُمرِض صاحبها ما ذكره القرآن الكريم في أكثر من آية، منها قوله عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) [البقرة:10]، وقال تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الحج:53]، وقال -جل وعلا-: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) [الأحزاب:60].
وقال -سبحانه-: (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ) [المدثر:31]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُم وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57]، وقال -جل وعلا-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء:82]، وقال -سبحانه-: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة:14-15].
فالله -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات، شبَّه ما في قلوب المنافقين بأنه مرض، والمرض أولاً يورث السقم، فكأن قلوبهم لا تملك الصحة الإيمانية التي تحيي القلب فتجعله قويًّا شابًّا، ولكنها قلوب مريضة، ولماذا كانت مريضة؟ لقد أتعبها النفاق، وأتعبها التنافر مع كل ما حولها، وأحست أنها تعيش حياة ملؤها الكذب، فاضطراب القلب جعله مريضًا، ولا يمكن أن يشفى إلا بإذن الله.
عباد الله: وللمعاصي من الآثار المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، وليس في الدنيا والآخرة شرٌ وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، قال الإمام ابن المبارك -رحمه الله-:
رأيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ *** وقد يورثُ الذّل إدمانُهَا
وتركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ *** وخَيْرٌ لِنَفْسِكِ عِصْيَانُهَا
والذنب على الذنب بلاء على بلاء، والمعاصي والسيئات تؤذي القلوب والأبدان، وتعمي القلب عن ذكر الرحمن، وتثقل الجسد عن المسارعة في الخيرات، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإذا تراكم على القلب الصدأ واسودَّ، ركبه الران، وفسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب وأضل من ذلك الغفلة، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره".
عباد الله: والمرض هو العلة في البدن، ونقيضه الصحة، وقد يُستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء، فيُخِلّ بكمال نفسه، كسوء العقيدة والحسد، والبغضاء والنفاق.
ومرض القلب: هو فساد يحصل له، يفسد به تصوّره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقًّا، أو يراه بخلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضارّ، أو يجتمعان له وهو الغالب، وسُمِّي ما هم فيه من نفاق وكفر مرضًا؛ لكونه مانعًا لهم من إدراك الفضائل، كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل.
ومرض البدن خروجه عن اعتداله الطبيعي لفسادٍ يعرض له، يفسد به إدراكه، وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في الآلات، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًّا، والطيب خبيثًا، وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد في الكمية، وذلك لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصها، وإما فساد في الكيفية، بسبب زيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك.
ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، من يسير الحر والبرد والحركة، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، حتى لا يقوى على دفعها إذا وردتا عليه، أو معرفتها إذا نزلت به؛ فعن حُذَيْفَة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" [مسلم (144)].
أيها المسلمون: القلب الصحيح يطرقه أضعاف ما يأتي على السقيم أو المريض لكنه يدفعه بقوته وصحته، وإذا أظلم القلب حسب أن المخلوق يفعل، وإذا استنار القلب بالإيمان رأى أن الفاعل الحقيقي هو الله وحده، وبقدر قوة اليقين على عظمة الله، تكون قوة الإيمان، ثم تكون قوة الأعمال، ثم حصول البركات.
عباد الله: ولمرض القلب أسباب ومفسدات، وقد تحدّث عن تلك الأسباب الإمام ابن القيم -رحمه الله- فذكر منها كثرة الخلطة: وهي أن يُعاشر كل رجل، ويجالس كل إنسان دون قيود ولا حدود، وقد ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه قَالَ: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ" [أبو داود (4832) وحسنه الألباني]، فكثرة الخلطة بالآخرين، وخصوصًا غير الصالحين تذهب بالإيمان، وتمرض القلب، وتشتت الأذهان، وتنسي التكاليف، وتسهّل المعاصي، فهي مفسِدة للقلب والبدن. وقد صدق الشاعر حيث قال:
لقاء الناس ليس يفيد شيئًا ***سوى الهذيان من قيل وقال
وما أوقع كثير من الناس في أمراض شتى، وخاصة مرض القلب إلا بالمخالطة المجردة عن الاصطفاء، بخلاف المؤمنين الذين قال الله تعالى في وصفهم: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص:55]، أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم، والمتأمل في بداية زيغ بني إسرائيل وكيف دخلهم الانحراف يجد أن الخلطة بالفاسدين هي السبب.
عباد الله: ومن أسباب مرض القلوب: كثرة التمني، والناس في الأماني قسمان: قوم ركبوا بحر التمني وهو بحر لا ساحل له، بحر يركبه المفاليس وأصحاب الخيالات الباطلة، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة تتلاعب براكبه، كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهذا التمني أنواع وأشكال؛ فمنهم من يتمنى جمع الأموال الكثيرة، ومنهم من يتمنى النساء الجميلات، ومنهم من يتمنى السفر في البلدان والسياحة، أو يتمنى تملك الأراضي والدور وبناء القصور.
وأما صاحب الهمة العالية فأمانيه هائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يرتفع به إلى ربه، فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور. والتوسط في الأمور هو الطريق المحمود، فلا مانع من تمني الحظوظ الدنيوية الحلال، مع استخدامها فيما يرضي الملك الوهاب، وعدم نسيان حق الفقير والمسكين، مع التواضع للناس، والسلامة في الدين لا يعدلها شيء.
نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأله -سبحانه- أن يزينا بزينة الإيمان، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يغفر لنا أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، وتوبوا إليه.
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأمات وأحيى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وأخلصوا له العمل، واحذروا من ضعف الإيمان، وفساد القلوب والأبدان، واعلموا أن من أعظم مفسدات القلوب التعلق بغير الله، فمن تعلق بغير الله وَكَلَه اللهُ إلى ما تعلّق به، وخذله، وفاته تحصيل المقصود من الله -عز وجل-، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلَّق به وصل، وتدبر معي أخي ما ثبت عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" [الترمذي (2072) وحسنه الألباني].
ولقد حكى الله -سبحانه- وتعالى العشق عن المشركين من قوم لوط، وامرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بُلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صُرف عنه ذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
عباد الله: وليس في الذنوب أفسد للقلب من فاحشة الشرك، وفاحشة العشق، ولهما خاصية في بُعد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما ابتعد عن كل ما هو طيب، وكلما ازداد خبثًا ازداد من الله بُعدًا، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23].
ويقول ابن القيم: "ولا ريب أن العشق الذي يقدم العاشق رضا معشوقه على رضا ربه بأنه من أعظم الشرك، وكثير من العشاق يصرّح بأنه لم يبقَ في قلبه موضع لغير معشوقه البتة"، وفي هذا نفي لإيمان المرء ودليله حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" [السنة لابن أبي عاصم (1/ 12) وغيره، وقال الحافظ في فتح الباري (13/ 289): رجاله ثقات، وصححه النووي].
ومن أسباب أمراض القلوب: كثرة الأكل والشبع المفرط، أو أكل الحرام؛ فالصوم يضيّق مجاري الشيطان، ويسد عليه طرقه والشبع يطلقها ويوسعها، والاعتدال فضيلة، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]، أي مما رزقكم الله من الطيبات ولا تسرفوا، أي لا تأكلوا حرامًا، وقيل: لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة.
والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشَّرَه في المأكولات الذي يضرّ بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه، والتنوع في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام، فالسرف يبغضه الله، ويضرّ بدن الإنسان ومعيشته.
ومن أسباب مرض القلب: كثرة النوم، قال أحد العلماء: إن كثرة النوم تميت القلب وتثقل البدن، وتضيع الوقت، وتورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه، ومنه الضار غير النافع للبدن.
عباد الله: ومن أعظم أسباب مرض القلب الغفلة عن الله، والغفلة عن أوامر الله، والغفلة عن اليوم الآخر. فالغفلة عن الله سببها قلة ذكره، وتعلق القلب بغيره من المحبوبات، والغفلة عن أوامر الله سببها عدم الرغبة فيها، وإيثار الشهوات عليها، وتعلق القلب بالهوى والشيطان، والغفلة عن اليوم الآخر سببها قلة المذكر بالموت والحشر، والجنة والنار، قال ابن مسعود: "كفى بالموت واعظا، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلا".
والغفلة إذا تمت بأركانها الثلاثة، ثقلت على العبد الطاعات، وشمرت النفس للمعاصي، وآثرت الدنيا على الآخرة، وقدمت الشهوات على أوامر الله، وتجاوزت العدل إلى الإسراف، وقدّمت مراد النفس على مراد الرب، كما قال -سبحانه-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
عباد الله: اغلقوا على أنفسكم أبواب الشر، وافتحوا قلوبكم وأبصاركم للحق، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179]، فهؤلاء الغافلون غفلوا عن أنفع الأشياء، عن الإيمان بالله وطاعته، وغفلوا عن فضل الله العاجل وثوابه الآجل، ولأهمية ذلك أمرنا الله أن نصحب أصحاب القلوب السليمة والحية والمتيقظة، ونهانا عن مصاحبة الغافل وأمرنا باجتنابه والحذر منه، فقال -جل وعلا-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
والنداء العلوي الكريم يخاطب الرسول الكريم أن لا تطع المشركين في تنحية وإبعاد المؤمنين الفقراء عن مجلسك بسبب أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغي على الرشد، والذين كان أمرهم مخالفًا للحق، ومجاوزًا للصواب، ومؤديًا للضياع والخسران.
عباد الله: وصحة القلوب والأبدان تقوم على ثلاثة أصول: حفظ القوة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وإذا عُرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته؛ وهو الإيمان والطاعات، ومحتاج إلى وقايته من الضار المؤذي؛ وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، ومحتاج إلى تخليصه من كل مادة فاسدة تعرض له؛ وذلك بالتوبة النصوح ولزوم الاستغفار.
غذاء البدن بالطيبات، وغذاء القلب بالإيمان والأعمال الصالحة، ولما كانت أعمال القلب، وأعمال البدن مستمرة، فلا بدَّ من الغذاء اليومي لهما، فالبدن يصح على أكل الطيبات، ويعتل بأكل الخبائث، فكذلك القلب يزكو ويصح بمعرفة الطيب من القول، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة جلاله وعظمته، ومعرفة نِعَمه وآلائه، ومعرفة وعده ووعيده، ومعرفة دينه وشرعه، ويفسد القلب بالجهل بذلك، واتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والإعراض عن الله ورسوله ودينه.
عباد الله: إن صلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء:213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق، والاستعانة به؛ فاحذر ذلك، قال -تبارك وتعالى-: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً) [الإسراء:22].
فاستمسكوا -إخواني في الله- بالشرع الحنيف، واعلموا أن الوحي للنفوس والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر:14، 15].
إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجّه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له.
وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله والأجساد مزينة بالسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71]. وإذا أحب الله عبدًا، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى:13].
فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا وأبداننا.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، واستعمل ألسنتنا بذكرك، وجوارحنا في طاعتك وعبادتك.
اللهم ثبتنا على الإسلام، وارزقنا حلاوة الإيمان، واجعلنا من أهل السعادة يا كريم يا منان.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، آمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي