أحوال الناس مع ذكر الموت

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. عظيم أمر الموت وهوله .
  2. أصناف الناس في ذكر الموت .
  3. حكم تمني الموت .

اقتباس

وَمِنْهُم من يتَمَنَّى الْمَوْت ويشتهيه، ويسأله ربه تَعَالَى، ويرغب إِلَيْهِ فِيهِ، وَقد علم أَن وَرَاءه يَوْمًا ثقيلا، وحبسا طَويلا، ومقاما يقوم فِيهِ ذليلا، لَكِن لما رأى نَفسه مَنْصُوبًا للمحن، معرضًا للفتن، مرتهنا بِمَا هُوَ بِهِ مُرْتَهن، وَأبْصر تفريطه فِي الزَّاد ليَوْم الْمعَاد، وَفِي الاستعداد ليَوْم الْإِشْهَاد، وَخَافَ أَن ..

الخطبة الأولى:

الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالْمَوْتِ رِقَاب الْجَبَابِرَة، وَكسر بصدمته ظُهُور الأكاسرة، وَقصر ببغتته أمال القياصرة، الَّذِي أدَار عَلَيْهِم حلقته الدائرة، وَأَخذهم بِيَدِهِ الْقَاهِرَة فقذفهم فِي ظلمات الحافرة، وصيرهم بهَا رهنا إِلَى وَقْفَة الساهرة، فَأَصْبحُوا قد خسروا الدُّنْيَا وَلم يحصلوا على شَيْء من الْآخِرَة، مصيبتهم وَالله لَا يجْبر مصابها وَلَا يتجرع صابها، وَلَا تَنْقَضِي آلامها وَلَا أوصابها، أرسل عَلَيْهِم رَبك جُنُوده العاتية، وَأَخذهم أَخَذته الرابية، وسلك بهم مَسْلَك الْأُمَم الخالية، والقرون الْمَاضِيَة؛ فَهَل تحس مِنْهُم من أحد أَو هَل ترى لَهُم من بَاقِيَة.

فسبحان من تفرد بِالْعِزَّةِ والكبرياء، وتوحد بالديمومة والبقاء، وطوق عباده بطوق الفناء، وفرقهم بِمَا كتب عَلَيْهِ من السَّعَادَة والشقاء، وَجعل الْمَوْت مخلصا لأوليائه السُّعَدَاء، وهلكا لأعدائه الأشقياء.

وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، شَهَادَة من وفق لَهَا فِي الْأَزَل، وَكتب لَهُ بهَا فِي الْقسم الأول، فَفتح لَهَا كل بَاب، وهتك دونهَا كل حجاب، وخلصها من الشُّبْهَة والارتياب، وَظَهَرت عَلَيْهِ فِيهَا نعْمَة الْعَزِيز الْوَهَّاب الغفور التواب، ملك الْمُلُوك وَرب الأرباب.

وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، الْمَرْفُوع عَلَيْهِ علم التَّحْقِيق، الْمُخْتَص بخصائص التَّوْفِيق، الدَّاعِي إِلَى أنهج سَبِيل وأوضح طَرِيق، صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة تزيده شرفا، وترفعه زلفى، وتوردنا مورده الَّذِي عذُب وَصفا، وعَلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين، وَسلم وكرم وَشرف وَعظم.

أما بعد:

عباد الله: فَإِن الْمَوْت أَمر كبار، لمن أنجد وأغار، وكأس تُدار، فِيمَن أَقَامَ أَو سَار، وَبَاب تسوقك إِلَيْهِ يَد الأقدار، ويزعجك فِيهِ حكم الِاضْطِرَار، وَيخرج بك إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار، خبر يصم الأسماع، ويغير الطباع، وَيكثر من الآلام والأوجاع.

وَاعْلَمُوا أَنه لَو لم يكن فِي الْمَوْت إِلَّا الإعدام، وانحلال الْأَجْسَام، ونسيانك أُخْرَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، لَكَانَ وَالله لأهل اللَّذَّات مكدرًا، ولأصحاب النَّعيم مغيرًا، ولأرباب الْعُقُول عَن الرَّغْبَة فِي هَذِه الدَّار زاجرا ومنفرا، كَمَا قَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير: "إِن هَذَا الْمَوْت نغَّص على أهل النَّعيم نعيمهم، فَاطْلُبُوا نعيما لَا موت فِيهِ". فَكيف ووراءه يَوْم يعْدم فِيهِ الْجَواب، وتدهش فِيهِ الْأَلْبَاب، وتفنى فِي شَرحه الأقلام وَالْكتاب، وَيتْرك النّظر فِيهِ والاهتمام بِهِ الْأَوْلِيَاء والأحباب.

وَاعْلَمُوا -رحمكم الله- أَن النَّاس فِي ذكر الْمَوْت على ضروب فَمنهمْ: المنهمك فِي لذاته، المثابر على شهواته، المضيع فِيهَا مَالا يرجع من أوقاته، لَا يخْطر الْمَوْت لَهُ على بَال، وَلَا يحدث نَفسه بِزَوَال، قد أطرح أخراه، وأكبّ على دُنْيَاه، وَاتخذ إلهه هَوَاهُ، فأصمه ذَلِك وأعماه، وأهلكه وأرداه، فَإِن ذكر لَهُ الْمَوْت نفر وشرد، وَإِن وعظ أنف وَبعد، وَقَامَ فِي أمره الأول وَقعد، قد حاد عَن سَوَاء نهجه، ونكب عَن طَرِيق فلجه، وَأَقْبل على بَطْنه وفرجه، تبت يَدَاهُ، وخاب مسعاه، وَكَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185].

ثمَّ رُبمَا أخطر الْمَوْت بخاطره، وَجعله من بعض خواطره، فَلَا يهيج مِنْهُ إِلَّا غمًّا، وَلَا يثير من قلبه إِلَّا حزنًا؛ مَخَافَة أَن يقطعهُ عَمَّا يؤمل، أَو يفطمه عَن لَذَّة فِي الْمُسْتَقْبل، وَرُبمَا فر بفكره مِنْهُ، وَدفع ذَلِك الخاطر عَنهُ، وَيَاويحه! كَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]

وَلَا أدرك قَول الْقَائِل:

فر من الْمَوْت أَو اثْبتْ لَهُ *** لَا بُد من أَنَّك تَلقاهُ

واكتب بهذي الدَّار مَا شئته *** فَإِن فِي تِلْكَ ستقراه

وصنف كَانَ قلبه مُتَعَلقا بالدنيا، وهمه فِيهَا، وَنَظره مصروف إِلَيْهَا، وسعيه كُله لَهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِك من طلابها المحرومين، وأبنائها المكدودين، لم ينل مِنْهَا حظا، وَلَا رقى مِنْهَا مرقى، وَلَا نجح لَهُ فِيهَا مسعى، إِن ذكر لَهُ الْمَوْت؛ تصامم عَن ذكره، وَلم يُمكنهُ من فكره، وَتَمَادَى على أول أمره؛ رَجَاء أَن يبلغ مَا أمل، أَو يدْرك بعض مَا تخيل، فعمره ينقص، وحرصه يزِيد، وجسمه يخلق، وأمله جَدِيد، وحتفه قريب، ومطلبه بعيد، يحرص حرص مُقيم، ويسير إِلَى الْآخِرَة سير مجد، كَأَن الدُّنْيَا حق الْيَقِين، وَالْآخِرَة ظن من الظنون، وَفِي مثل هَذَا قيل :

أتحرص يَا ابْن آدم حرص بَاقٍ *** وَأَنت تمر وَيحك كل حِين

وتعمل طول دهرك فِي ظنون *** وَأَنت من الْمنون على يَقِين

وَهَذَا إِذا ذُكِر الْمَوْت أَو ذُكِّر بِهِ، لم يخف أَن يقطع عَلَيْهِ مهماً من الْأَغْرَاض قد كَانَ حصله، وَلَا عَظِيما من الآمال فِي نَفسه قد كَانَ أدْركهُ؛ لِأَنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ، وَلَا قدر عَلَيْهِ، لكنه يخَاف أَن يقطعهُ فِي الْمُسْتَقْبل عَن بُلُوغ أمل يحدث بِهِ نَفسه، ويخدع بِهِ حسه، وَهُوَ يرى فِيهِ يَوْمه كَمَا قد رأى فِيهِ أمسه، قد مَلأ قلبه بِتِلْكَ الْأَحَادِيث المشغلة، والأماني المرذلة، والوساوس المتلفة، قد جعلهَا ديدنه وَدينه، وإيمانه ويقينه، وَرُبمَا ضَاقَ ذرعه بالدنيا، وَطَالَ همه فِيهَا من تعذر مُرَاده عَلَيْهِ، وَقلة تَأتيه لَهُ، فتمنى الْمَوْت إِذْ ذَاك؛ ليستريح بِزَعْمِهِ، وَهَذَا من جَهله بِالْمَوْتِ وَبِمَا بعد الْمَوْت، وَالَّذِي يستريح بِالْمَوْتِ غَيره، وَالَّذِي يفرح بِهِ سواهُ، إِنَّمَا الْفَرح من وَرَاء الصِّرَاط، والراحة بعد الْمَغْفِرَة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قيل: يا رسول الله ماتت فلانة واستراحت! فغضب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنما يستريح من غفر له" [مسند أحمد 24757 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/286].

فَلَا يزَال هَذَا البائس يتَحَمَّل من الدُّنْيَا بؤسها، ويتلقى نحوسها، ويلبس لكل شدَّة لبوسها، وَهُوَ يتعلل بعسى وَلَعَلَّ، وَيرى جنده الأفل، وَحزبه الْأَقَل، وناصره الْأَذَل، فَلَا يرعوي وَلَا يزدجر، وَلَا يفكر وَلَا يعْتَبر، وَلَا ينظر وَلَا يستبصر، حَتَّى إِذا وَقعت رأيته، وَقَامَت قِيَامَته، وهجمت عَلَيْهِ منيته، وأحاطت بِهِ خطيئته؛ فانكشف لَهُ الغطاء، وتبدت لَهُ موارد الشَّقَاء؛ صَاح واخيبتاه! واثكَلَ أُمَّاهُ! واسوء منقلباه! هَيْهَات هَيْهَات! نَدم -وَالله- حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم، وَأَرَادَ التثبيت بَعْدَمَا زلت بِهِ الْقدَم، فَخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، إِلَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم، فنعوذ بِاللَّه من الحرمان، وَمن ضحك الْعَدو وشماتة الشَّيْطَان.

وَهَذَا وَالَّذِي قبله إِن لم يكن لَهما عناية أزلية، وسابقة أولية؛ فَيمسك عَلَيْهِمَا الْإِيمَان، وَيخْتم لَهما بِالْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فقد هلكا كل الْهَلَاك، ووقعا بِحَيْثُ لَا دِراك، وَلَا مَخْلص وَلَا انفكاك، فنعوذ بِاللَّه من سوء الْقَضَاء، ودرك الشَّقَاء بفضله وَرَحمته.

عباد الله: ومن أقسام الناس في ذكر الموت: رجل آخر وَقَلِيل مَا هم، من أزيل من عينيه قذاها، وكشف عَن بصيرته عماها، وَعرضت عَلَيْهِ الْحَقِيقَة فرآها، وَأبْصر نَفسه وهواها، فزجرها ونهاها، وأبغضها وقلاها، فلبى الْمُنَادِي، وَأجَاب الدَّاعِي، وشمر لتلافي مَا فَاتَ، وَالنَّظَر فِيمَا هُوَ آتٍ، وتأهب لهجوم الْمَمَات، وحلول الشتات، والانتقال إِلَى محلّة الْأَمْوَات، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يكره الْمَوْت أَن يشْهد وقائعه، أَو يرى طلائعه، أَو يكون ذَاكِرًا حَدِيثه أَو سامعه، وَلَيْسَ يكره الْمَوْت لذاته، وَلَا لِأَنَّهُ هَادِم لذاته، وَلَكِن يخَاف أَن يقطعهُ عَن الاستعداد ليَوْم الْمعَاد، والاكتساب ليَوْم الْحساب، وَيكرهُ أَن تطوى صحيفَة عمله قبل بُلُوغ أمله، وَأَن يُبَادر بأجله قبل إصْلَاح خلله وتدارك زَلَلِه، فَهُوَ يُرِيد الْبَقَاء فِي هَذِه الدَّار؛ لقَضَاء هَذِه الأوطار، وَالْإِقَامَة بِهَذِهِ الْمحلة؛ بِسَبَب هَذِه الْعلَّة.

روى عَن بعض الناس -وَقد بَكَى عِنْد الْمَوْت- فَقيل لَهُ: "مَا يبكيك؟" فَقَالَ: "وَالله مَا أبكى لفراق هَذِه الدَّار، حرصًا على غرس الْأَشْجَار، وإجراء الْأَنْهَار، لَكِن على مَا يفوتني من الادخار ليَوْم الافتقار، والاكتساب ليَوْم الْحساب".

وَهَذَا إِذا مَاتَ، فيا لله دره من ميت، مَا أفضل حَيَاته وَأطيب مماته! وَأعظم سعادته! وَأكْرم وفادته! وَأتم سروره وأكمل حبوره، ومثل هَذَا لَا يدْخل تَحت قَوْله -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-"ومن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه" [البخاري 6507 ومسلم 2683]، لِأَن هَذَا لم يكره لِقَاء الله تَعَالَى لذات اللِّقَاء؛ إِنَّمَا كره أَن يقدم على الله -عز وَجل- متدنسًا بأوضاره، ثقيل الظّهْر بأوزاره، ملأن من عاره وشناره، فَأَرَادَ أَن يتطيب للقاء، ويستعد لفصل الْقَضَاء.

قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي: "قلت لأم هَارُون العابدة: أتحبين أَن تموتي قَالَت: لَا! قلت وَلم؟! قَالَت: وَالله لَو عصيت مخلوقًا لكرهت لقاءه، فَكيف بالخالق -جلّ جَلَاله-!"، وَقَالَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك لأبي حَازِم: "يَا أَبَا حَازِم مَا لنا نكره الْمَوْت؟" فَقَالَ: "لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فَأنْتم تَكْرَهُونَ النقلَة من الْعمرَان إِلَى الخراب"، قَالَ: "كَيفَ الْقدوم على الله -عز وَجل-؟" فَقَالَ: "يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أما المحسن فكالغائب يَأْتِي أَهله فَرحًا مَسْرُورًا، وَأما الْمُسِيء فكالعبد الآبق يَأْتِي مَوْلَاهُ خَائفًا مَحْزُونا"، وقَالَ أَبُو بكر الكتاني: "كَانَ رجل يُحَاسب نَفسه، فَحسب يَوْمًا سنيه فَوَجَدَهَا سِتِّينَ سنة، فَحسب أَيَّامهَا فَوَجَدَهَا وَاحِدًا وَعشْرين ألف يَوْم وَخَمْسمِائة يَوْم، فَصَرَخَ صرخة وخر مغشيا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: يَا ويلتاه أَنا آتِي رَبِّي بِوَاحِد وَعشْرين ألف ذَنْب وَخَمْسمِائة ذَنْب، يَقُول هَذَا لَو كَانَ ذَنْبا وَاحِدا فِي كل يَوْم، فَكيف بذنوب كَثِيرَة لَا تحصى! ثمَّ قَالَ: آه عَليّ، عمرت دنياي، وَخَربَتْ أخراي، وعصيت مولَايَ، ثمَّ لَا أشتهي النقلَة من الْعمرَان إِلَى الخراب، وَكَيف أشتهي النقلَة إِلَى دَار الْكتاب والحساب والعتاب وَالْعَذَاب بِلَا عمل وَلَا ثَوَاب، وَأنْشد:

منَازِل دنياك شيدتها *** وَخَربَتْ دَارك فِي الْآخِرَة

فَأَصْبَحت تكرهها للخراب *** وترغب فِي دَارك العامرة

ثمَّ شهق شهقة عَظِيمَة، فحركوه فَإِذا هُوَ ميت".

عباد الله: حديث: "من كره لِقَاء الله كره الله لقاءه" قد جَاءَ مُفَسرًا، في حديث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا- قَالَ رَسُول الله-صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه"، فَقلت: يَا نَبِي الله أكراهية الْمَوْت فكلنا نكره الْمَوْت! قَالَ: "لَيْسَ كَذَلِك؛ وَلَكِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لِقَاء الله فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْكَافِر إِذا بشر بِعَذَاب الله وَسخطه كره لِقَاء الله وكره الله لقاءه" [مسلم (2684)] وفي رواية البُخَارِيّ لهَذَا الحَدِيث قال: "وَلَكِن الْمُؤمن إِذا حَضَره الْمَوْت بشر برضوان الله وكرامته، فَلَيْسَ شَيْء أحب إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامه، فَأحب لِقَاء الله فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْكَافِر إِذا حَضَره الْمَوْت بشر بِعَذَاب الله وعقوبته، فَلَيْسَ شَيْء أكره إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامه، فكره لِقَاء الله وكره الله لقاءه" [البخاري (6507)].

نسأل الله حسن الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.

عباد الله: ومن أصناف الناس في ذكر الموت رجل آخر هُوَ من الْقَلِيل قَلِيل، قد عرف الله تَعَالَى بأسمائه الْحسنى وَصِفَاته الْعلَا، وَشَاهد مَا شَاهد من كَمَال الربوبية، وجمال الحضرة الإلهية، فملأت عينه وَقَلبه، وأطاشت عقله ولبه، فَهُوَ يحن إِلَى ذَلِك المشهد، ويحوم على ذَلِك المورد، ويستعجل إنجاز ذَلِك الْموعد، وَقد علم أَن الْحَيَاة حجاب بَينه وَبَين محبوبه، وَستر مسدل بَينه وَبَين مَطْلُوبه، وَبَاب مغلق يمنعهُ من الْوُصُول إِلَى مرغوبه، فَلَو أصَاب سَبِيلاً إِلَى هتك ذَلِك الْحجاب هتكه، أَو رفع ذَلِك السّتْر رَفعه، أَو كسر ذَلِك الْبَاب حطمه وكسره، فعذابه فِي الْحَيَاة وراحته فِي الْمَمَات، كَمَا يرْوى أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان -رَضِي الله عَنهُ- لما نزل بِهِ الْمَوْت قَالَ: حبيب جَاءَ على فاقة. وَقد قيل: إِن الْمَوْت جسر يُوصل الحبيب إِلَى الحبيب.

ويروى عَن عَليّ بن الْفَتْح: أَنه رأى النَّاس فِي يَوْم عيد يَتَقَرَّبُون بقرابينهم -يَعْنِي بضحاياهم-، فَقَالَ: "يَا رب وَأَنا أَتَقَرَّب إِلَيْك بأحزاني"، ثمَّ غشي عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: "إلهي: إِلَى كم ترددني فِي هَذِه الدُّنْيَا؟!" فَمَاتَ من سَاعَته.

ومقدمات هَذَا وَأَمْثَاله تدل على مَا وَرَاءَهَا من الْوِصَال والاتصال، والأنس بذلك الْجلَال وَالْجمال.

وَآخر قد شَاهد مَا شَاهد ذَلِك، وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ، وَلكنه فوض الْأَمر إِلَى خالقه، وَسلم الحكم لبارئه، فَلم يرض إِلَّا مَا رَضِي لَهُ، وَلم يرد إِلَّا مَا أُرِيد بِهِ ولَا اخْتَار إِلَّا مَا حكم فِيهِ، إن أبقاه فِي هَذِه الدَّار أبقاه، وإن أَخذه إِلَيْهِ أَخذه، قَالَ أَحْمد بن أبي الْحوَاري، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي: "النَّاس رجلَانِ: رجل أحب الله تَعَالَى فَأحب الْمَوْت؛ شوقا إِلَى لِقَاء الله، وَرجل أحب الْبَقَاء لإِقَامَة حق الله تَعَالَى"، قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ غُلَام لم يَحْتَلِم فَقَالَ: "وَرجل ثَالِث أَو قَالَ وَرجل آخر"، فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: "وَمن هُوَ يَا بني؟!". قَالَ: "من لم يخْتَر هَذَا وَلَا هَذَا، اخْتَار مَا اخْتَار الله -عز وَجل- لَهُ"، فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: "احتفظوا بالغلام فإنه صديق".

وَاجْتمعَ يَوْمًا وهيب بن الْورْد، وسُفْيَان الثَّوْريّ، ويوسف بن أَسْبَاط -رَحِمهم الله تَعَالَى- فَقَالَ الثَّوْريّ: "كنت أكره موت الْفجأَة ووددت الْيَوْم أَنِّي مت"، فَقَالَ لَهُ يُوسُف بن أَسْبَاط لمَ؟ قَالَ: "لما أَتَخَوَّف من الْفِتْنَة فِي الدّين"، فَقَالَ يُوسُف: "لكني أحب الْحَيَاة، وَطول الْبَقَاء"، فَقَالَ لَهُ سُفْيَان: لِمَ ؟ قَالَ: "لعَلي أَن أصادف يَوْمًا أَتُوب فِيهِ، وأعمل صَالحا"، فَقيل لوهيب: "أَي شَيْء تَقول أَنْت؟" فَقَالَ: "أَنا لَا أخْتَار شَيْئا، أحب ذَلِك إليَّ أحبه إِلَى الله -عز وَجل-"، فَقبل الثَّوْريّ بَين عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: "روحانية وَرب الْكَعْبَة"، وعَن عَليّ بن عُثْمَان بن سهل: "دخلت على عَمْرو بن عُثْمَان وَهُوَ فِي علته الَّتِي توفّي فِيهَا، فَقلت لَهُ: كَيفَ تجدك؟ فَقَالَ: أجد سري وَاقِفًا مثل المَاء، لَا يخْتَار النقلَة وَلَا الْمقَام يَعْنِي: مثل المَاء فِي الْإِنَاء، أَو الْقَرار من الأَرْض، يَقُول: لَا يخْتَار الْحَيَاة وَلَا الْمَوْت".

وَمِنْهُم من يتَمَنَّى الْمَوْت ويشتهيه، ويسأله ربه تَعَالَى، ويرغب إِلَيْهِ فِيهِ، وَقد علم أَن وَرَاءه يَوْمًا ثقيلا، وحبسا طَويلا، ومقاما يقوم فِيهِ ذليلا، لَكِن لما رأى نَفسه مَنْصُوبًا للمحن، معرضًا للفتن، مرتهنا بِمَا هُوَ بِهِ مُرْتَهن، وَأبْصر تفريطه فِي الزَّاد ليَوْم الْمعَاد، وَفِي الاستعداد ليَوْم الْإِشْهَاد، وَخَافَ أَن يقتطع عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ، ويختلج عَن طَرِيق الْمُسلمين، تمنى الْمَوْت؛ لينجو من هَذَا الْخطر، وَيسلم من هَذَا الْغرَر، وَأَن يقدم على الله-عز وَجل- بِالْإِيمَان، كَائِنا مِنْهُ بعد ذَلِك مَا كَانَ، وَهَذَا إِن شَاءَ الله إِذا مَاتَ خرجت لَهُ الْبُشْرَى بالأمان، وَأَن يحتل فِي جوَار الرَّحْمَن، حَيْثُ شَاءَ من دَار الْكَرَامَة والرضوان.

وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يدْخل تَحت قَوْله- عَلَيْهِ السَّلَام-: "لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضُرٍّ نزل بِهِ" [البخاري (6351)، ومسلم (2680)]، فَإِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَام- إِنَّمَا أَرَادَ الضَّرَر الدنيوي، الَّذِي ينزل بالإنسان من محن الدُّنْيَا فِي النَّفس والأهل وَالْمَال، وَهَذَا إِنَّمَا تمناه؛ مَخَافَة أَن ينزل بِهِ الضَّرَر الأخروي، وَأَن يقتطع بِالْمَعَاصِي عَن الله، وَأَن يصد بالفتن عَن سَبِيل الله.

عباد الله: وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي النَّهْي عَن تمني الْمَوْت صَحِيحَة مَشْهُورَة, ذكر مُسلم بن الْحجَّاج -رَحمَه الله- من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ, فَإِن كَانَ لَا بُد متمنيًّا؛ فَلْيقل اللَّهُمَّ أحيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرًا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرًا لي" [(2680)].

وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت وَلَا يدع بِهِ من قبل أَن يَأْتِيهِ، إِنَّه إِذا مَاتَ أحدكُم انْقَطع عمله، وَإنَّهُ لَا يزِيد الْمُؤمن عمره إِلَّا خيرا" [مسلم (2682)]. وجاء من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضًا تفسير ذلك حيث بيّن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- الأمر فقَالَ: "لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت؛ إِمَّا محسنا فَلَعَلَّهُ أَن يزْدَاد، وَإِمَّا مسيئا فَلَعَلَّهُ أَن يستعتب" [البخاري (7235، 5673 )].

وفي الختام -أيها الإخوة- إن الموت طَرِيق نجاة يركبهَا الْمُؤْمِنُونَ، ومورد سَلامَة يردهَا الْمُسلمُونَ، لقوا فِيهِ مَا لقوا، وَسقوا مِنْهُ مَا سقوا، كل ذَلِك يهون؛ لما يُفْضِي بهم إِلَيْهِ من السَّعَادَة الأبدية، والحياة السرمدية، نسْأَل الله جميل الخاتمة، وَحسن الْعَاقِبَة، ومردًّا غير مخز وَلَا فاضح برحمته لَا رب سواهُ، ونسأله سبحانه أن يحسن لنا الختام، وأن يذكّرنا بالموت في كل آن، وأن يصلح أحوالنا أجمعين.

اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح، إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي