إن في تعاقب الليل لعبراً ودروساً ماثلة دروساً حية تذكر بأن لكل شيء من مخلوقات الله نهاية، وأن البقاء المطلق والدوام الأبدي لله وحده، فقبل شهر استقبل المسلمون شهر رمضان المبارك فرحين مستبشرين يتبادلون التهاني بإدراك موسم الخيرات ومضاعفة الحسنات وإقالة العثرات, وأمس ودعوه غير قالين ولا سئمين، ودعه التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون, الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، ودعوه بعبرات حشرجت بها الصدور, ودمعات أسالتها لوعة الفراق أو خوف عدم القبول...
الحمد لله ذي العزة والجلال، الحمد لله الكبير المتعال، الحمد لله ذي الجبروت والملكوت والكمال، نحمده تعالى على ما يسر وقضى وقدر، ونشهد أن لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من ذكر الله في الختام وشكر واستغفر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار الأطهار وعلى أتباعه بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر عدد ما صام صائم وأفطر، الله أكبر عدد ما هل هلال وأنور، الله أكبر عدد ما تأمل متأمل في الكون وفكر، الله أكبر عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي هي وصيته تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة.
وتخصيصاً بعد تعميم أوصيكم بالاعتصام بكتاب الله اعتصاماً حقاً قاراً بسويداء القلوب، منبعثاً منها على الجوارح أقوالاً سديدة وأعمالاً مخلصة، اعتصاماً يظهر به وفيه تحليل حلاله وتحريم حرامه والوقوف عند حدوده والإيمان بمتشابهه, بل وتحكيمه بجدية واحتساب واتباع في جميع شئون الحياة، عبادة أو معاملة حكم أو تحاكم مادي أو معنوي، ثقافي أو عسكري فهو الضمان والأمان لمن أخذه بحقه لمن أخذه قلباً وقالباً روحاً ومعنى، قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) [الزخرف:43-44]. وقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) [آل عمران:103] وقال: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101] وقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طـه:123] وقال عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ما لن تضلوا إذا اعتصمتم به كتاب الله" رواه أبو داود.
كما أوصيكم بالحفاظ على مهمتكم الكبرى، مهمة الدعوة إلى الله، مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهمة الجهاد في سبيل الله، المهمة التي أخرجتم لها وأعلمتم بأنها مصدر خيريتكم وشرفكم واستمرار عزكم وأمركم قائماً منصوراً بإذن الله. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110] وقال:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج:41] وقال في إخطارهم وتحذيرهم من ضياع هذا الأمر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79] وقال: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:63] وقال في ختام سورة القتال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
عباد الله: إن في تعاقب الليل لعبراً ودروساً ماثلة دروساً حية تذكر بأن لكل شيء من مخلوقات الله نهاية، وأن البقاء المطلق والدوام الأبدي لله وحده، فقبل شهر استقبل المسلمون شهر رمضان المبارك فرحين مستبشرين يتبادلون التهاني بإدراك موسم الخيرات ومضاعفة الحسنات وإقالة العثرات, وأمس ودعوه غير قالين ولا سئمين، ودعه التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون, الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، ودعوه بعبرات حشرجت بها الصدور, ودمعات أسالتها لوعة الفراق أو خوف عدم القبول أو التلاق (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60] ودعوه ولم يودعوا فعل الخيرات فأبوابها مفتحة ومناسباتها كثيرة، ولكنها المناسبة الفاضلة التي يتصور أحدهم أنه قد لا يدركها بعد فمن ورائه: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34] ودعوه واستقبلوا اليوم يوماً عظيماً مباركاً, يوماً من أيام الله الغر يوم عيد الفطر المبارك, الذي شرع ليظهر فيه المسلمون آثار ما وقر في قلوبهم من إيمان بالله وإجلال وتكبير له, وليحمدوه ويشكروه ويكبروه على ما هداهم له من فعل الخيرات وامتثال المأمورات، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة:185] ولتختم وتتوج أعمال رمضان بذلك كما تختم وتتوج أعمال الصلاة وأعمال الحج بالذكر والاستغفار والتهليل والتكبير، فلك الحمد ربنا على ما أوليت ولك الشكر على ما أعطيت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: لمن تظنون العيد السعيد؟ أهو لمن زود موائده بألوان المطعوم وهو من زاد التقوى محروم؟ أهو لمن رفل في الحلل القشيبة وهو عار من لباس التقوى، ولباس التقوى ذلك خير؟ أهو لمن إذا نظر اللهُ إلى قلبه وجده مليئاً بالحقد والحسد والغيبة والنميمة والظلم والفسق والخيانة والمحاباة والتطاول على الناس وإيذائهم, مليئاً بالمشاحنات وقطيعة الأرحام وعقوق الآباء والأمهات, كلا وألف كلا ليس العيد السعيد لهذا، وقد قيل قديماً:
ليس السعيد الذي دنياه تسعده *** إن السعيد الذي ينجوا من النار
العيد للمؤمن التقي النقي الذي يتقي الله فيما يبدي ويعيد، العيد لمن خاف يوم التناد واتقى مظالم العباد، العيد لمن زحزح عن النار ذات الحر الشديد والقعر البعيد, التي طعام أهلها الزقوم, وشرابهم الصديد, ولباسهم القطران والحديد, وفاز بجنة لا يفنى نعيمها ولا يبيد، العيد لمن إذا نظر الله إلى قلبه وهو سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن إلى قلوبكم –كما جاء بذلكم الحديث الصحيح الذي رواه مسلم- وجده مليئاً بآثار الصيام المحفوظ من اللغو والرفث والجدال، مليئاً بآثار التهجد والانكسار والابتهال بين يدي الملك المتعال، مليئاً بالإخلاص وبذل الجهد فيما يوطد دعائم الدين ويحمي عقائد وأفكار وحوزة وأمن المسلمين.
فاتقوا الله -عباد الله- وطهروا قلوبكم من الرذائل والأدران, وأعمالكم من كل ما يتنافى مع السنة والقرآن، تحظوا بفرحة العيد الحقة, والفوز به النافع الذي عناه الحق تبارك وتعالى بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185] وقوله: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
عباد الله: احذروا الخيلاء والإعجاب بعمل ما قل أو كثر, أو بملبوس أو مركوب أو مسكون مهما حسن ففي التنزيل (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء:37] وروى البخاري ومسلم -رحمهما الله- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".
عباد الله: تذكروا فالذكرى تنفع المؤمنين، تذكروا من كان يحضر مثل هذه المشاهد في الأيام الخالية, ممن اختارتهم المنون سواء من ذوي السلطات والجاه والأمر والنهي, أو من ذوي القلوب الخاشعة والألسن الذاكرة والعيون الدامعة من خشية الله، أين هم الآن؟ أقدموا على ما قدموا.
نسألك اللهم إلهنا أن تجعلنا ممن يفرح بلقائك ويقنع في هذه الدنيا بعطائك ويرضى بقضائك. اللهم كما أجريت حمدك في الدنيا على ألسنتنا فضلاً منك وإحساناً فأجره عليها مع من قلت فيهم (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) [الزمر:74] (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر:34-35] (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف:43] وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أيها المسلمون: أيها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم الممتثلات أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهود الخير ودعوة المسلمين في هذا اليوم العظيم، أحمد إليكن الله وأثني عليه الخير كله، إذ أشهد أن لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على رسوله محمد بن عبد الله, واسأله جل شأنه بكل اسم هو له أن يجعلنا وإياكن ممن قال فيهم سبحانه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب:35] أذكركن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خطب الرجال في مثل هذا اليوم الأغر, مشى متوكئاً على بلال -رضي الله عنه- وخطب النساء، وكان من خطبته أن تلا عليهن آية مبايعة النساء، المبايعة الموجودة في سورة الممتحنة متعاهداً لهن بها ومؤكداً لمقتضياتها في نفوس المؤمنات عامة في كل زمان ومكان: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) الآية [الممتحنة:12].
فلما فرغ من الآية قال: "أنتن على ذلك؟", فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله -وطبعاً جوابها عن الجميع- رواه البخاري. وقد قال في هذا الموضوع نفسه: "إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة" فأمرهن بالصدقة –والصدقة بنص قوله عليه الصلاة والسلام- "تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، وعموم قوله جل وعلا: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114] قال لهن: "تصدّقن فإن أكثركن حطب جهنم" فقالت امرأة من وسط النساء –وفي رواية في سفرة النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: "لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير" وفي رواية "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: لمَ يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعنة وتكفرن العشير" متفق عليه. فجعلن رضي الله عنهن يلقين من قروطهن وخواتيمهن وقلائدهن في ثوب بلال صدقة لله.
فاتقين الله -أيتهن الأخوات- وكن خير خلف لخير سلف من نساء المؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي