خطبة عيد الفطر 1435هـ

أحمد بن علي الغامدي
عناصر الخطبة
  1. ديننا دين الوسطية والاعتدال .
  2. خطورة مجاوزة الحد في عواطفنا .
  3. منزلة العقل والعاطفة من الدين .
  4. مخاطر الإغراق في التربية العاطفية .
  5. عندما صارت العواطف حكمًا!!! .
  6. وصايا للنساء .
  7. ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول .

اقتباس

النصر ليس فقط هو انتصار المعارك، لكنه انتصار المبادئ، وانتصار الثبات على الدين، وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال العظيمة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي سطرها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد وربما كانت حافزاً محركاً لخطا التاريخ كله مدى أجيال.. إن دماء المسلمين التي تسفك ما بين حين وحين لن تصبح بإذن الله هدراً ولن تذهب سدى، وإنما هي وقود لنار النصر...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة وهدانا إليه صراطًا مستقيمًا، والحمد لله الذي لم يزل بنا رحيما كريما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله كفى به ربا عظيما حليما، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه من كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن كان على سنته ثابتا ومقيما وسلم تسليما كثيرا.

الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية واتقوا ربكم وقولوا قولا سديدا.

يا أيها الصائمون والصائمات ويا أيها القائمون والقائمات: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54].

يا أيها الصائمون والصائمات: مضى شهر رمضان بما فيه من صور مشرقة للمسلمين والمسلمات في التسابق إلى الخيرات والتنافس على طريق الجنات.

مضى رمضان فالحمد لله على أن هدانا للإسلام، والحمد لله على التوفيق للصيام والقيام والحمد لله على بلوغ التمام.

الحمد لله أن هدانا لدين الوسطية (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 161].

إنه دين الإسلام وسط في كل الأمور بين الغلو والجفاء، وأمة الإسلام أمة وسط في التصور والاعتقاد. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. وهي أمة وسط في التفكير والشعور لا تجمد على ما عملت ولا تغلق منافذ التجربة والمعرفة ولا تتبع كل ناعق، وإنما شعارها الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها في تثبت ويقين.

ديننا دين الوسطية في العبادات فهو يرفض الغلو في الروحية والإسراف في التعلق بالمادية، فلا رهبانية كرهبانية النصارى، ولا مادية كمادية اليهود، وإنما نأخذ من هذه لتلك؛ فالدنيا مزرعة الآخرة.

ديننا دين الوسطية في الأحكام والمعاملات، وفي الأخلاق والسلوك، وهو مع كل هذا وسط في نظرته للعقل والعاطفة.

لقد مضى رمضان وقد رسم للأمة أن دين الإسلام دين الواقعية ودين الوسطية, دين اليسر والسماحة (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الأنبياء: 78]، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].

ديننا ليس دين الرهبانية ولا يقوم على الخرافات والبدع والمتاهات الفلسفية، دين يربي أبناءه على العلم واتباع الهدى والاستسلام للشريعة والرضا بحكم الله وعدم الخضوع للأهواء البشرية (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].

ديننا دين العدل في الأحكام فلا يصح في شرعنا حكم بالهوى، وتصنيف بالظن، واتهام بلا علم، ودعوة بلا بصيرة (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [المائدة: 135]، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].

ديننا لا يصادم العقل بل هو يكرمه ويجعله للكمال مقياسا، وللحق دليلا، مادام أنه العقل السليم والمنطق الرشيد.

وهو دين لا يحارب العاطفة ولا يذمها مادامت ملجمة بلجام العلم والعقل، والعواطف ليس مذمومة لذاتها بل هي قواصف إذا كانت هي المرجع في تحديد المواقف.

إن مجاوزة الحد في عواطفنا مكمن ضعفنا أُتينا من خلاله، فكما أن الغلو في تقديس العقل مكمن خلل سقطت كثير من الأقنعة نتيجة الغلو فيه، فكذلك عندما نفلت زمام العاطفة ولا نقيم لها ضابطاً معيناً فننجر بين أرجائها ونردد أدبيات الماضي المجيد والعصر الباهر ولا نعرف من قواعد لغتنا إلا إنشاد أفعال الماضي "كنا وكانوا، وكانت لنا، واسألوا عنا".

ديننا لا يقوم على العاطفة وحدها، بل إن أحكام دين الله لا بد فيها من العلم المؤصل والعقل السليم والرأي السديد، والعالم الرباني والمسلم المستسلم لله الراضي بقضائه الخاضع لأحكامه، ولو حكمنا عواطفنا وحدها لكان صلح الحديبية هزيمة لا فتحاً، ولكان ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين ضعفًا لا حكمة وعقلا، ولكان هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- للثلاثة قسوة لا تربية وتأديبا، لكنها النبوة.. وحي وعقل، رحمة وعدل:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى

إننا لا ندعو إلى هجران العاطفة أو التخلي عنها، كلا"، فلقد كان قدوتنا -صلى الله عليه وسلم- يحمل بين جنباته مجموعة من العواطف لكنها لم تكن لتحدد مواقفه أو تصنع قراراته لقد كان يغضب ويغار، ولكنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك محارم الله فيغضب لله -عز وجل-.. لقد كان يؤذى ويحزن ويتعرض للعذاب فلم تدفعه عواطفه إلى طلب التشفي بل كان شعاره: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، كان يرى المنكر ويتعامل مع أصحابه بالعقل والحكمـة ومراعاة الحال.

كان يحب زوجاته ويصرح بحبه لهن لكنه لم يكن ليتغاضى عن منكر يراه أو زور يسمعه.. يغضب من عائشة -رضي الله عنها- حينما اغتابت، ويهجر زينب بنت جحش -رضي الله عنها- عندما تلفظت على صفية وأغلظت.

ويحب أبا ذر ويقول له عندما زل: "إنك امرؤ فيك جاهلية".

إن ديننا لا يحارب العاطفة ولا ينبذها لكنها يجب أن تظل محكومة بشرع الله فلا مكان للعاطفة أمام مبدأ الاستسلام لله والانقياد لشرعه والخضوع لحكمه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].

الله أكبر الله أكبر..

معاشر المسلمين والمسلمات: لقد غلب على تربيتنا الإغراق في التربية العاطفية والتي أثرت على تفكيرنا ومواقفنا فكان أن تعامينا عن الأخطاء والعيـوب وافتقدنا الاتزان والموضوعية وانسقنا مع العاطفة إلى اتخاذ المواقف والقرارات استجابةً لـها..

    حينما حكمنا العواطف أطلقنا الأحكام والمواقف من الرجال والأعمال والجهـود والمواقف من وحـي العاطفـة فقط، ويكون الحاكم الأول والأخير والقاضي والشهود والداعي هو: العاطفة وحدها، فأصبح الحكم جـائراً متطرفاً، العاطفة هي التي تحكمت في وجهات نظرنا فأصبحنا نعرف الحق بالرجال وليس العكس، وأصبحنا نعلق مناهجنا بطرح فلان أو علان، فما قاله فهو عين الصواب والحكمـة، وما حذر منه فهو الخطر المتربـص.

   حينما حكتنا العواطف رأينا الجور في التعامل مع المخالف فجحدت الجهود والمواقف وأصبح الناس فريقين: خيرنا وابن خيرنا وشرنا وابن شرنا، ومن أخطأ مجتهداً ولو مرةً فقط فجزاؤه: ما رأينا منك خيراً قط، أما منطق الشرع فيقول: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [المائدة: 135]، ويقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]، ومنطـق العقل يقول على لسان السلف: من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله.

   وحينما حكمتنا العواطف رأينا الخلل في التعامل مع المذنبين فأصحاب العواطف الجياشة المتجردة من العقل والشرع يقنطونهـم من رحمـة الله، ويغلقون في وجوهـهـم أبواب الرجاء، وقديماً قتل رجل تسعة وتسعين نفساً، فأفتاه منطق العاطفة بألا توبة له فكانت النتيجة أن أكمل به المائة. ونطق لسان العقل ومنطق الشرع على لسان عالم بقوله ومن يحول بينك وبين التوبة.

   وحينما تحكمت العاطفة في رجلٍ استعظم ذنباً لأخيه قال له: "والله لا يغفر الله لفلان"، فكان الرد الإلهي مسكتاً لمنطق العاطفة: "من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان، لقد غفرت له وأحبطت عملك".

   وحينما حكمنا العواطف رأينا طاغية  أو مفسداً أو منافقاً حاقداً تلطخت أيديهم وألسنتهم وأقلامهم بدماء الأبرياء وأعراضهم، فيخدر مشاعرنا بكلمة عصماء أو مقالة حسنـاء أو موقف إنسانيٍ تمثيلي فتتسابق منا دموع التأثـر وعبارات الثناء فبالعواطف نرى دموع عينيه، ولا نرى السكين في يديه.

   وحينما حكمنا العواطف أصبحت العاطفة هي الدافع الوحيد للعمل فيعمل المرء عملاً أو يتخذ قراراً أو يقف موقفًا والدافع الوحيد هو العاطفة، وهذا هو عنوان الانحراف والفشل. وستقود العاطفة إلى نتائج غير محمودة وسيوأد العمل في مهده، ولن يحقق إلا نتائج ضبابية لن ترى، وتهدر العديد من الطاقات وتستنزف في غير محلها الصحيح.

حينما جعلنا العواطف حكماً سادت فينا المجاملات والمداهنات فخفت نور الاحتساب، وصارت شعيرة الأمر بالمعروف غريبة، وصار أهلها غرباء ضعفاء تلوكهم الألسنة وتمتد إليهم أيدي السفهاء، وأصبح أحدنا يتحرج من أن يقـول الحق الذي يعتقده مراعاةً لأحبابه وأصحابه، ولعمر الله إن كان أفضل الجهاد: "هو كلمة حق عند سلطانٍ جائر" فهو اليوم في كلمة حقٍ تقال أمام غيورٍ ثـائر، والشجاعة أن تقول ما تعتقد إن كان حقاً ولو خالفك من خالفك.

الله أكبر الله أكبر

يا معشر المسلمين والمسلمات: حينما صارت العواطف حكمًا نشأت فينا صفة الاستعجال في كل شيء.. استعجال للنصر، واستعجال في طلب العلم، واستعجال لإجابة الدعاء، وعجلة في تصديق الأخبار، وفي إصدار الأحكام، واستعجال في إصلاح الناس وتغيير واقعهم.

إن على أرباب الاستعجال أن يعلموا أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، وأن لكل ثمرة أواناً تنضج فيه فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك وهي لا تملكه ولا الشجرة التي تحملها، إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها وتجري عليها بحساب ومقدار. 

حينما صارت العواطف حكمًا سادت في الأمة لغة التشاؤم واليأس والقنوط أمام ما تتعرض له الأمة من نكبات وما يصيب المسلمين من ويلات ولأنها ترى حقاً قد هزم، وباطلاً قد ظهر وينتفش ويزهو ويفخر، وتبصر كل حين علماً من أعلامها ورمزاً من رموزها يذهب ضحية للكفر والنفاق. ونحن نشعر باليأس والإحباط والقنوط فإننا نتساءل: هل ما يحدث من فتن ومحن هو انتصار للأعداء وهزيمة للمسلمين وبمعنى آخر هل جاء الباطل وزهق الحق؟كلا وربي، إن هذا شعور من نظرته للنصر قاصرة، ومن رؤيته للسنن الإلهية رؤية عابرة.

لا بد أن ننظر إلى كل فاجعة بمنظار الحكمة الربانية، ونتعامل معها وفق السنن الإلهية. ونؤمن أن الله ناصر دينه ولن يخذل أولياءه، ولكنه يؤخر النصر لحكمة يعلمها والأمر كما قال ربنا (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 40- 41].

 والنصر ليس فقط هو انتصار المعارك، لكنه انتصار المبادئ وانتصار الثبات على الدين، وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال العظيمة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي سطرها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد وربما كانت حافزاً محركاً لخطا التاريخ كله مدى أجيال.

إن دماء المسلمين التي تسفك ما بين حين وحين لن تصبح بإذن الله هدراً ولن تذهب سدى، وإنما هي وقود لنار النصر، وإن رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً، لقد جاء نصر الله بفتح مكة تتويجاً لبطولات وتضحيات، وليس وليد ساعة أو شهر أو عام.

إنه ثمار دماء أُريقت في بدر، وسُفكت في أُحد، وهو نتاج أرواح ذهبت فداء لدين الله يوم الرجيع. فإن قيل: متى نصر الله؟ فقل: ألا إن نصر الله قريب.

حينما تحكمنا العواطف نصبح أسارى لوسائل الإعلام بأنواعها، ونصبح دمى تحركنا وسائل التواصل الاجتماعي بأخبارها ومقاطعها وإشاعاتها فنتعاطف مع مجرمين، ونتهم أبرياء مسالمين، وننقاد وراء مخادعين ولعمر الله إن المسلم كيِّس فطن يعرف من أين تؤكل الكتف، وليس هو بالخب ولا الخب يخدعه، وإنما هو يتعامل مع كل ما يرده بمنطق الشرع والعقل وبميزان الحكمة والعدل رضي من رضي وسخط من سخط.

يوم أن نحكم عواطفنا مجردةً من كل عقل وشرع فسينشأ في مجتمعنا الخلل، فالزوج المعدد سيظلم، والقوامـة ستهتـز، ويستنوق الجمـل، ويصير الزوج دمية في يد زوجتـه فالحلال ما رغبت وإن كان عند ربك مكروهاً. ويتساهل الأب في انحــراف ولـده.

وحينما تتحكم العواطف فكم من حاكم سيجـور؟! وقـاضٍ سيظلم؟! ومعلم سيحابي؟! ووالدٍ سـيقـصرٍ؟!

يا معشر الشباب: العواطف المجردة تدفع إلى الاستعجال في النتائج واللجوء إلى القوة تحقيقاً لذلك، وكتاب الله يرسم صورة لهـؤلاء  (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء: 77].

إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد وتقع الواقعة.

إن أعداء الإسلام يطمعون في أن يخرج الشباب المسلم عن خطهم، ويتحمسوا للجهاد، ويستعجلوا النصر ويحاولوا قطف الثمرة قبل أوانها، فيتخذ الأعداء من ذلك  ذريعة تنتهي بالبطش واستئصال الدعوة وإضاعة الجـهود.

وإن الحل المركز والمراحل الإيجابية في منطقية العمل مع المعاناة والشدة وضغط الواقع والصبر والمصابرة على طريق المحنة، والسير في مجالات الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وحشد الطاقات والجهود في كافة فئات المجتمع هو من أهم مما ينبغي أن يحرص عليه شبابنا الغيور، لا أن يخوض معارك بلا هدف ويتطلعوا إلى الشهادة بلا غاية، ويفقدوا الأرواح بلا ثمـن.

قال الشيخ محمـد ابن عثيمين -رحمه الله-: "ينبغي لأهل هذه اليقظة والحركة المباركة ألا تحملهم العاطفة وتصدهم عن التعقل وعن السيـر على مقتضى الشرع؛ لأن العاطفة إذا لم تكن مقيدة بما يقتضيه الشرع والعقل؛ فإنها تكون عاصفة، لذلك يجب أن يكون نظرنا بعيداً، ولست أريد بهذا أن نسـكـت على باطل أو أن نؤيد باطلاً، ولكني أريد أن نأتي البيوت من أبوابها، وإن سلوك طريق الحكمة وإن طال فإن ثمرته ونتيجته تكون مرضية للجميع، وربما الغيرة تطفئ لهيب النار لكن لا تطفئ الجمر الذي قد يتقد فيما بعـد" انتهـى.

وما أجمل العاطفة حينما تكسى برداء الشرع وتدثر بدثار الحكـمـة والعقـل.. (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269].

الله أكبر الله أكبر

الخطبة الثانية:

الحمد لله ,,

أما بعد فيا معاشر المسلمات الصائمات القانتات التائبات: الحديث لإخوانكن هو حديث لكن، وإنما النساء شقائق الرجال، وإنما نهمس في قلوبكن العامرة بتقوى الله وخوفه ورجائه ونخاطب عقولكن كما نخاطب عواطفكن.

ربما خضعت إحداكن لعواطفها وغفلت عن ميزان ربها (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].

ربما انساقت المرأة لعواطفها في حشمتها ولباسها وعباءتها ونسيت نداء ربها (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) [النور: 31]، ولربما بعاطفتها تساهلت في لباسها منتظرة ثناء المعجبات ومدح الناظرات وغفلت عن قول نبيها: "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".

قد تجدين من يعجب بملابسك العارية ويبدي استحسانه لكن تذكري (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان: 28]، قد تحققين بعريك شيئًا من رغبات ذاتك لكن تأكدي أن الثمن "لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها".

 قد تحققين بلباسك العاري شهرة في أوساط النساء لكن تذكري "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا"، قد تستغفلين زوجك أو أباك فتلبسين الملابس العارية دون علمه أو إذنه لكن تذكري "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله -عز وجل- عنها ستره"، تذكري وقرري، وأحسب أنك ممن قال الله فيهم: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].

يا نساء المؤمنين: ربما بالعواطف تنخدع مسلمة عفيفة بدعاوى التغريبيين وشبهات المنافقين فتستحسن كشف وجهها، وتطالب بقيادة السيارة، وترضى بالعمل المختلط، وتسعد بقرارات غايتها أن يذهب حياؤها ويتميع حجابها ويرق دينها.

ألا فلتعلمي يا أمة الله أنه ليس بالعواطف وحدها تحددين مصيرك وتقررين نوع عملك وشكل لباسك، وإنما أنت مسلمة تتعبدين الله بالتزام شرعه والتقيد بأحكامه والرضا بشريعته دون تضايق أو حرج (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125]، فألجمي عواطفك بلجام التقوى، وقيديها بقيد العلم والعقل والاتباع، وأحيطيها بسياج الخوف من الله ومن عقابه (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41]، والفرق بين ما يريده الله لك، وما يريده دعاة الشهوات هو (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 27- 28].

الله أكبر الله أكبر

أيها المسلمون والمسلمات: حينما نتحدث عن العاطفة فإننا لا ندعو إلى التجرد منهـا وهجرانـهـا؛ فإنسان بلا عاطفة كشجرٍ بلا ثمـر، وإنما نبغي أن نلجم العواطف بلجام الشرعية ونضبطها بزمام العقل فتتلاقى العاطفة مع قيم العقل، فتأتي بعد ذلك نصوص الشريعة مهيمنة عليهمـا في طلب رؤية مؤصلة لا تغيرها المستجدات بقـدر ما هي تستوعب المستجد فتوجهه وفـق مرادات النصـوص المتكئة على فهم السلـف الصـالـح.

وحينما ندعو إلى ضبط العواطف؛ فإن ذاك لا يعني أن يكون المسـلم بارد الشعور متبلد الإحساس قليل الاكتراث بقضايا أمته، غير آبهٍ بالذل الواقع عليها والمهانة التي مُنيت به، والـهوة التي تردت منها، ولكنه يعني أن توظف هذه الحماسة وتستثمر تلك العاطفة في حدود ما تقتضيه المصلحة الشرعية وما يتناسب مع المرحلة الدعوية.

يا أهـل الإسلام: نحن نريد العاطفـة الملتهبة التي تنبثق من نور الشريعة وضياء الحكمة، العاطفة الصادقـة لهذا الدين والتي تجعل السيوف والقلوب في خدمة الدين والغيرة عليه، لا نريد العاطفة التي تنتج جيلاً قلوبهم معك وسيوفهم مع بـني أميـة.

يا شبـاب الإسـلام: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة القلوب بلهب العواطف، وألزمـوا الخيال صدق الحقيقة والواقع، ولا تصادموا نواميـس الكـون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصـر ومـا هي منكم ببعيد.

إن تحكيم العواطف لا ينشأ إلاَ مع الجهل والقصور في العلم الشرعي والظلم والجور، وفقدان المرجعية وضغوط الواقع، والبعد عن مجالس العلم والعلماء، ودين الله كافٍ في تشريعاته لعلاج هذه الأسباب والقضاء عليهـا.

أخي أيها المسلم:  اضبط عواطفك ولتكن آراؤك مبنية على ضوابط الشرع وليس وفق الهوى والعاطفة ولتكن جاداً في نقدك للآخرين ساعياً للإصلاح، لا لمجرد الانتقاد أو الانتقام، وليكن حكمك عادلاً مقيد بما يقتضيه الشرع والعقل، ولا تسيرك العاطفة فتصدك عن التعقل، تعلم أدب الخلاف قبل أن تشـرع في الرد على من خالفك، وأهمها التجرد من الهوى والعصبية وأن يكون هدفك اتباع الحق ولو كان عند من يخالفك ولا تجعل الخلاف لمجرد الخلاف والبغي والعدوان وتحقيق الشهرة بين الناس. 

إن التجرد من العاطفة يقتضي أن يكون قلبك منشرحاً لمن خالفك في الرأي وشعارك قول الشافعي: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".

حينما ترى من أهلك أو ولدك منكراً فأضف إلى عاطفة الأبوة أو الأخوة عاطفة الغيرة المحمودة، ولا تأخذك في دين الله وشريعته رأفة، وكن حازماً في أمرك:

  ومن يك حازماً فليقس أحيانا على من يرحم

إن مخالفة العاطفة أمر "شاق" على النفوس يحتاج إلى صبرٍ ومصابرة وجهادٍ ومجاهدة (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41].

 ولله در من ضبط عواطفه وانفعالاته بميزان الحق والعدل وألجمهـا بلجام العقل والحكمـة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

الله أكبر الله أكبر

اللهم صلّ وسلم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي