فلما جاء التعليم الذي لم ينضبط بالضوابط الشرعية وجدنا مشكلات كثيرة ترتبت عليه، مشكلات اجتماعية مثل العنوسة التي ارتبطت بقضية التعليم ارتباطًا مباشرًا، إما لتقديمها الدراسة على الزواج، أو لرفضها الارتباط بمن يقل عنها في المؤهل والشهادة، أو عزوفًا من الشباب من تزوج المثقفات تخوفًا من تكبرها عليه وازدرائها له، أو لمغالاة أهلها في مهرها...
الحمد لله الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، له الحمد الأوفى والثناء الأسمى، والصلاة والسلام على معلم العالم كله، القائل -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
عباد الله: لقد جعل الإسلام على الرجال حقوقاً كثيرة أوجبها عليهم تجاه النساء، ومن جملة هذه الحقوق: "حق التعليم".
هذا الحق الذي تنازع فيه الناس اليوم بين غلاة وجفاة، فهناك من الناس من يعتقد أن الإسلام حرم المرأة من التعليم ونهى عن تعليم الفتيات، وآخرون يدّعون أن التعليم للمرأة مفتوح على مصراعيه بلا حدود، ولا شروط، ولا ضوابط.
والحقيقة أن الإسلام أمر بتعليم النساء، وجعل ذلك من حقوق الرجال عليهن، ولكنه جعل لذلك ضوابط ومعايير تضبط بها، حتى لا يكون تعليمهن فتنة، وثقافتهن بلاء ومحنة، كما هو الواقع، والله المستعان.
لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في وجوب التعليم، وجعل طلب العلم النافع فريضة على كل مسلم، ويدخل في ذلك طبعاً كل مسلمة، لأن الأحكام الإسلامية عامة للجميع، والخطاب فيها للذكور والإناث. روى أبوداود عَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: "أَلاَ تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ" [أبوداود (3887)].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أمر الشفاء بنت عبد الله -رضي الله عنها- بأن تعلم زوجه حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- رقية "النَّمْلَةِ"، والنملة هي نوع من أنواع المعالجات للقروح التي تخرج في الجنبين، فقال لها علميها هذا العلاج، كما علمتيها الكتابة من قبل.
بل إن زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم -كن من أعلم الناس وأفقههم، وأكثرهم علماً ومعرفة، وكان الناس يرجعون لهن في العلم والفتيا، خاصة في المسائل الخاصة التي تستشكل على أكثر الناس وعلمائهم. يقول أبو موسى -رضي الله عنه-: "ما أشكل علينا أصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً" [الموطأ (493)]. وعَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَلْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُحْسِنُ الْفَرَائِضَ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ" [ أحمد (291)]، يعني علم المواريث.
ومن العجيب أن الإسلام لم يكتفِ بالأمر بتعليم النساء الحرائر فقط دون الإماء والجواري، وإنما أمر أيضاً بتعليم الجواري والاهتمام بهن وتثقيفهن، مما يعني أن حق التعليم حق واجب لهن. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ" [البخاري ( 97)].
لقد بوب الإمام البخاري -رحمه الله- في كتابه الصحيح باباً سماه " باب عظة الإمام النساء وتعليمهن" [رقم الباب (33)] وذكر فيه حديث بلال المشهور الذي يرويه جَابِر -رضي الله عنه- قَالَ: "شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ, بِلا أَذَانٍ وَلا إقَامَةٍ. ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ, فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى, وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ, وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ, ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ, وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ, تَصَدَّقْنَ فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ, فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ, سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ, وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ" [البخاري (98) مسلم واللفظ له (885)].
فهذه الأحاديث كلها تثبت بلا أدنى شك أن حق التعليم حق واجب للمرأة على الرجال، وتؤكد على وجوب هذا الحق وأهمية الاعتناء به، وخاصة العلم الشرعي الذي به تعرف المرأة دينها وتفهم به فرائضها وشريعة ربها، فهذا هو العلم الواجب الذي يجب عليها أن تتعلمه، ويجب على أولياء الأمور أن يعلموهن إياه، فإن لم يستطيعوا فيجب عليهم أن يدفعوهن إلى من تقوم بالتعليم من النساء لتعليمهن وإرشادهن.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر : 9]، ويقول: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه : 114]، وقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة : 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
أيها الناس: ذكرنا في الخطبة الماضية أن التعليم حق للمرأة، وواجب على الرجال تجاه النساء، وخاصة تعليمهن العلم الشرعي وواجبات دينهن، وما تصلح به فرائضهن، وما يحتاج إليه المجتمع من تخصصات تخصهن. لكن ليس معنى هذا أن نفتح المجال لهن ليدرسن ما شئن، وكيف شئن، وحيث شئن.
إن الإصرار على أن تتعلم الفتاة كل ما يتعلمه الرجل، يعني: الإصرار على عدم اعتبار طبيعة دور وتكوين المرأة، وعدم التفريق بين طبيعة تكوين الرجل وتكوين المرأة، حيث أن المرأة تحتاج مقرراتٍ ومناهج تلائم أنوثتها وخصائصها.
أما أن تتعلم البنات كل ما يتعلمه الأولاد فهذا ظلم وخلط، بل إنك تعجب يوم أن ترى الفتاة المراهقة تدرس في كتاب الأحياء -مثلاً- أجهزة الرجل التناسلية، فما الحاجة أن تدرس المرأة ما يدرسه الرجل، أو أن يدرس الفتى ما تدرسه الفتاة، دون التفريق بين الطبيعتين.
إن حاجة المرأة ماسة إلى علومٍ تحفظ حياءها، وتشعرها بعظم دورها وعظيم منزلتها، أما ما يحصل الآن فإنك ترى أن تعليم الفتاة وكأنه مقصود لتخريبهن، ودفعهن دفعاً إلى الشطط والانحراف، مما جعل كثيراً من الآباء يكره تعليم الفتيات، وخاصة في المرحلة الجامعية والكليات.
لماذا لا تدرس المرأة نفسية الزوج وما يحتاجه بدلاً من أن تدرس ألواناً وأضرباً من أمورٍ لا تحتاج إليها، وكيفية التعامل مع الأطفال، وعلم سلوك الأطفال ونفسياتهم، وكيفية التربية، ودراسة مشكلات الأطفال، وأساليب التوجيه والتأثير على الطفل، وغيرها من الأمور التي تستفيد منها.
إن تعليم النساء خير، وهو أحسن من بقائهن جاهلات، لكننا نحارب قضية الدعوة التي نسمعها الآن، والتي نراها تبث ويروج لها وهي: أنه يجب علينا أن نستفيد من نصف المجتمع، ومن آلاف الخريجات، وعشرات الآلاف من البنات، لماذا يقعدن في البيوت ونحن بحاجة إليهن في السكرتارية، و(السنترالات)، وكاتبات ومراجعات ومضيفات؟؟ اخرجوا النساء، استفيدوا منهن!!. إن هذه دعوة ماسونية علمانية، هدفها تدمير البنات والنساء؛ من أجل تدمير الحياة الاجتماعية النظيفة الطاهرة التي تعيشها الأسرة المسلمة الطاهرة.
لقد تقلبت المرأة المسلمة -بفضل الله- في مجالات العلم في الإسلام، والتي بدأت بسعيها في السؤال والطلب، فلم يمنعها الحياء أن تتفقه في الدين، فسألت وتعلمت، ثم بدور زوجها في تعليمها، وما رتبه الله له من الأجر في ذلك، ثم بدور الدولة المسلمة في إنشاء دور العلم وحلقه والتي كان للنساء منها حظ ونصيب.
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، قَالَ: اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ .." [البخاري (101) مسلم (2633)]
فكان منهن العالمة المربية، والطبيبة الحاذقة، والمعلمة الفاضلة، فضلاً عن المحدثة والمقرئة التي يرحل إليها، وتوضع ركاب الأكابر بين يديها، حتى وجدنا أئمة التراجم يجعلون في كتبهم أبواب تراجم النساء، ويخصهن بعض المؤرخين بكتب مستقلة مترجمًا لفضلياتهن، ككتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، وأعلام النساء في عالمي العرب والإسلام وغيرها.
وابحث في سيرة عظماء الإسلام، فلن تجد واحدًا منهم إلا وراءه امرأة، سواء في العلم والآداب، أو في التضحية والجهاد، أو في السياسة والقيادة، ولقد سطرت كتب التراجم من نُسب لأمِّه أو جدته لشهرتها، أو لعلمها وفضلها، ولم تعش المرأة المسلمة معزولةً عن أمتها، بل شاركت بإيجابية في مجتمعها، فوجدنا المتصدقة والواقفة، ولم نعدم الناصحة، والمصلحة، والمستشارة.
فلما جاء التعليم الذي لم ينضبط بالضوابط الشرعية وجدنا مشكلات كثيرة ترتبت عليه، مشكلات اجتماعية مثل العنوسة التي ارتبطت بقضية التعليم ارتباطًا مباشرًا، إما لتقديمها الدراسة على الزواج، أو لرفضها الارتباط بمن يقل عنها في المؤهل والشهادة، أو عزوفًا من الشباب من تزوج المثقفات تخوفًا من تكبرها عليه وازدرائها له، أو لمغالاة أهلها في مهرها، أو إعضالاً من الأب؛ ليأكل راتبها.
ومنها تشجيع الاختلاط، والدعوة إلى خلع الحجاب، والعمل على تفريغ الحجاب من معناه الشرعي، والعمل على إضعاف الحجاب في المؤسسات التعليمية خاصة في الجامعات، وتسليط الأضواء على القدوات السيئة من المتبرجات والفاجرات.
وحصلت بذلك مخاطر أمنية، والتي يتربع التحرش على رأسها، بما يمثله من قلق يتحول إلى هلع ينتاب البنات المكثرات من الولجات والخرجات، وما تبع هذا المرض الاجتماعي النامي، من الهروب والاختطاف وغيرها من الظواهر المقيتة.
فعلينا -عباد الله- أن نحرص على تعليم بناتنا ونسائنا، ولكن بالضوابط الشرعية المذكورة أثناء الحديث، فإذا شعر الأب بأن تعليم بناته ربما يكون مفسداً لهن، أو باباً لدخول الشر عليهن بما فيه من اختلاط أو فساد، ولم تكن هناك حاجة ماسة لتعليمها وتخصصها، فإن في قراءتها وكتابتها كفاية لها، وخيراً كبيراً عليها وعلى أهلها ومجتمعها.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم احمي نسائنا واحفظهن، واجعل التعليم باب خير لهن لا باب شر عليهن، واحمهن من كيد الأشرار ومكر الفجار.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي