إن صلاح الأسرة المسلمة هو طريق الأمان والسعادة لها وللمجتمع من حولها، فصلاح الأب وصلاح الأم، وصلاح الذرية، يعود على البيت بالخير العميم والهدوء وراحة البال والاطمئنان، ويتخرج من هذا البيت رجال ونساء يحملون شعار الدين والأخلاق، فيطبقون ذلك في معاملاتهم بمن حولهم، فينتشر الوئام والمحبة في أرجاء المجتمع المسلم.
الحمد لله الذي عمّر بيوتنا بذكره، وجاد علينا بقربه وشكره، وأفاض علينا السكينة بالقيام بطاعته وتلاوة كتابه.
والصلاة والسلام على خير خلقه، وأكمل رسله وأنبيائه، الذي كان بيته عامراً بكل ما يقربه إلى ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
عباد الله: إن الكثير من الناس يلتمس السعادة والراحة في بيته، وينشد الاستقرار وهدوء النفس والبال، كما يسعى في البعد عن أسباب الشقاء والاضطراب، ومثيرات القلق، بل ويسعى سعياً حثيثاً من أجل إدخال السعادة والسرور على نفسه وأهله وأولاده، فتراه يبذل كل غال ورخيص من أجل ذلك.
والبيت هو محل السكن للمسلم، وفيه ينال راحته من عناء العمل الطويل، وعبر الجلوس فيه يتقلب بين شؤون أهله وأولاده، والقيام بحق ربه، وحق من حوله.
والبيت هو المكان الوحيد الذي يبتعد فيه المسلم عن مخالطة الناس، وفيه يجد الراحة والاستجمام، ونيل الهدوء والاطمئنان، وتجديد نشاط الأبدان، والاستمتاع بالجلوس مع الزوجة والأولاد.
والبيت هو الذي ترفرف عليه راية التوحيد، ويسمع فيه صوت القرآن، وتنزل فيه السكينة والاطمئنان، تجد فيه أهل البيت حريصين على القيام بطاعة الرحمن، من أداء للصلاة، وتلاوة للقرآن، وصلة للأرحام، والإحسان إلى الجيران، فتراه منبعاً للخير، وعوناً للأولاد على التنشئة الطيبة الكريمة، ففيه يتربون على محاسن الأعمال والأخلاق.
وفيه يتخرجون بهمة لنفع دينهم وإخوانهم المسلمين، وفيه يتنافسون على الخير من بذل للصدقات، والإحسان للفقراء، وقضاء الحاجات، والسعي وراء كل عمل يوصل إلى مرضاة رب الأرض والسماوات.
فأين هذا البيت من بيوت المسلمين الآن؟ أين هذا البيت الذي يشع نوراً ينتفع به القريب والبعيد؟ أين هذا البيت من بيوت عامرة بما لا يرضي الله -جل وعلا-؟.
عباد الله: إن بعض البيوت الآن أصبحت بعيدة كل البعد عن صراط الله المستقيم، من حيث ضعف الإيمان، وقسوة القلوب، وقلة الطاعات، والوقوع في المعاصي والمحرمات، حتى سكنتها الشياطين.
فتجد الأب تاركاً للصلوات، هاجراً لبيوت الله، قاطعاً لرحمه، مسيئاً لجيرانه، معرضاً عن تلاوة كلام ربه، واقعاً فيما حرم الله، تراه لاهياً بدنياه، مشمراً ساعد الجد لجمع حطام الدنيا، ناسياً لقاء مولاه، يأتي بالمال من أي طريق، من حلٍ أو حرام، يسعى سعياً حثيثاً من أجل نيل عرض الدنيا الفاني.
وهكذا المرأة، تراها لاهية ساهية، مفرّطة في طاعة ربها، غافلة عن ذكره، مضيعة لوقتها، واقعة في الغيبة والنميمة، والقيل والقال، وكثرة الشكاية من حال بيتها، تنظر إلى ما حرّم الله عن طريق القنوات الفضائية، فتعرف أشكال الرجال وأحوالهم، ويتعلق قلبها بهم، تقلد نساء الفسق والفجور في لباسهن ومشيتهن وزينتهن، تخرج من البيت كاشفة ليديها ورجليها وربما عن جزء من وجهها، متعطرة بأطيب الروائح، متزينة بأحسن اللباس، وكأن الحياء عندها قد انتهى، مقصرة في حق زوجها وأولادها، همها الأساسي أن تتمتع بكل ما طلبته نفسها.
وأما الابن فلا يجد من يوجهه إلى الخير وطريق الصلاح، فتجده قد توجه إلى نيل كل ما رآه عن طريق الفضائيات أو أجهزة الجوالات، تجده محباً للشهوات والملذات، مبغضاً للطاعات والقربات، مستهيناً بها، لا يجد السعادة في بيته فيخرج باحثاً عنها في كل مكان فيجد نفسه واقعاً في أيدي المجرمين والفساق فيتلقفونه بأيديهم ويوجهونه التوجيه الخاطئ فيوقع نفسه في المحرمات، يتقلب بين معصية وأخرى، لا يبالي بما يفعل، بل أصبح يسرق من البيت ليصرف على شهواته وملذاته المحرمة، وربما يضرب أمه أو أباه من أجل الحصول على ما يريد، أبواه في وادٍ وهو في واد آخر!.
وأما البنات، وما أدراك ما البنات! فتحدث منهن المصائب العظيمة، والمخاطر الكبيرة، فإذا لم تجد السعادة في بيتها، والحضن الدافئ من والديها، ولم تجد من تشتكي له حاجاتها ومشاكلها، فإنها تركن إلى أول من يضرب أحاسيسها بالكلام المعسول، والحب الزائف، فإذا انساقت وراء وعوده الزائفة وقعت فيما لا يحمد عقباه، وهنا يقع المحظور؛ فيتحسر الأب وتندم الأم على تفريطهم في جنب الأولاد، يوم لا تنفع الحسرة ولا الندامة، فما بالكم إذا كانت الفتاة ممن تتلاعب بعواطف الشباب، وتحب الجري وراء الشهوات والملذات، وقد تربت في وسط المعاصي والمنكرات؟.
عباد الله: وهذه البيوت تجد فيها الكثير من الصور، وآلات المعازف والطرب، بل والأجهزة المرئية والمسموعة التي تعرض بالصوت والصورة الصور الماجنة، والنساء الفاتنة، بل ويعرض فيها ما يشوه العقيدة في قلب المسلم والمسلمة، وفيها تحارب الفضيلة، وحجاب المرأة المسلمة، وتربى الأجيال على حب سماع الأغاني والتعلق بالفواحش، وحب العنف، والجري وراء الساقطين والساقطات، بل وتعظيم أهل المنكرات ومحبتهم، والتعلق بهم، وتقليدهم فيما يأتون به من أقوال وأفعال مخالفة لأوامر الله.
ألم يعلم هؤلاء أن البيت الذي يُهجر من الطاعةِ والذكرِ والخيرِ تَخْرُجُ منه الملائكة وتدخله الشياطين؟ فترى الزوج والزوجة في عراك دائم، ورفع صوت، وعصبية، وسب وشتم، وضرب وإهانة.
وترى فيه الحزن والكآبة، والهم والغم، والنكد والضيق، فلا الزوج يطيق زوجته، ولا الزوجة تتحمل زوجها، يتقلبون كل يوم بين المشاكل والأحزان، فلا يجدون الراحة في ليل أو نهار، ينظرون إلى أولادهم فيجدونهم متسلطين بما يحدثونه من الأصوات، والعويل، والصراخ، والعراك، ولا أحد منهم يطيع والديه، ولا يسمع كلامهما، فيوقع الشيطان اللعين بينهم العداوة والبغضاء.
فهل تتصورون -أيها الإخوة والأخوات- أن هذه البيوت تجد السعادة والهناء، والأمن والرخاء، وانشراح الصدر وراحة البال؟ كلا وألف كلا! فإن الله وعد عباده المعرضين بوعد لن يخلفه ما قامت الأرض والسماوات، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه:124]، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام:125].
فهذه البيوت الخربة من ذكر الله وطاعته، العامرة بالمعاصي والمنكرات، سكنتها الشياطين، ونفرت منها الملائكة؛ لشدة ما ترى فيها من أسباب سخط الله، فكيف يجد هؤلاء السعادة التي ينشدونها؟.
عباد الله: لقد ظهرت في البيوت الآن مصائب يندى لها الجبين، وتحزن لها قلوب المؤمنين، وتتقطع لها أفئدة الصالحين على ما يرونه من البعد عن أوامر الله ونواهيه.
لقد استمرأ بعض الناس التحايل على الدين من أجل الحصول على ما حرم الله، وذلك بسبب ضعف إيمانهم وحبهم للدنيا وتعلقهم بها، وقلة خشيتهم لله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:18-19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
وبعد: فاعلموا يا عباد الله أن البيت السعيد الذي يتمناه كل مسلم ومسلمة هو البيت الذي تتوطد فيه العلاقة الزوجية، ويبتعد عن رياح التفكك، وأعاصير الانفصام والتصرم.
وإن من أهم الأمور التي ينبغي على كل بيت أن يهتم بها كي يكون البيت سعيداً ترفرف عليه السعادة الحقيقية التي تملأ أركان البيت بالسكينة والاطمئنان وروح المحبة والسلام، ما يلي:
أولاً: الإيمان بالله -تعالى- وتقواه؛ بالتمسك بعروة الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من المطلع على ما تكنه الضمائر، ولزوم التقوى والمراقبة، والبعد عن الظلم، والتعسُّف في طلب الحق، قال الله -تعالى-: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
فالإيمان من أهم أسباب سعادة البيت وحصول الخير لأهله، فالأب الذي يخشى الله ويتقيه، ويحرص على أداء حقوق أهل بيته، ويقوم بتعليمهم الخير وإبعادهم عن المنكر، هو أحد الأساسيات الهامة في البيت السعيد، لأنه بدون التقوى والعمل الصالح يعمر البيت بضده من المعاصي والمنكرات وقلة الخوف من الله.
ومن صور ذلك: الاجتهاد في الطاعة والعبادة، والحرص عليها، والتواصي بها بين الزوجين، وتأملوا معي قول الله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء -يعني: رش عليها الماء رشاً رفيقاً-، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي.
فصلاح الزوجين، وحرصهما على طاعة الله، وتنشئة أولادهما التنشئة الصحيحة، تخرج لأمة الإسلام أجيال المستقبل الذين يحملون هم دينهم وهم إخوانهم المسلمين...
وعلى ذلك؛ فالعلاقة بين الزوجين ليست علاقة دنيوية مادية، ولا شهوانية بهيمية، إنما هي علاقة روحية كريمة؛ وحينما تصحُّ هذه العلاقة، وتصدق هذه الصلة، فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].
ثانياً: المعاشرة بالمعروف: فإن مما يحفظ هذه العلاقة ويحافظ عليها بعد الإيمان بالله والعمل الصالح المعاشرة بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف من أجلِّ الأعمال الصالحة التي ترضي الرب -جل وعلا-، وتكون سبباً -بعد فضل الله- في تقوية دعائم الأسرة المسلمة، لقوله -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19].
فمعرفة الزوج بحقوق أهله عليه، وحقوق أولاده، ينمي في داخله الحرص على بذل كل ما يعود عليهم بالخير في العاجل والآجل، فإذا كان الأب يراقب الله ويخشاه ويحرص على طاعته عاد ذلك على أهله وأولاده.
ثالثاً: لتعلم الزوجة أن السعادة والمودة والرحمة لا تتم إلا حينما تكون ذات عفة ودين، تعرف ما لها وما عليها فلا تتجاوزه ولا تتعداه، تستجيب لزوجها، فهو الذي له القوامة عليها يصونها ويحفظها وينفق عليها، فتجب طاعته وحفظه في نفسها وماله، تتقن عملها وتقوم به، وتعتني بنفسها وبيتها.
فهي زوجة صالحة، وأمٌ شفيقة، راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، تعترف بجميل زوجها ولا تتنكر للفضل والعشرة الحسنة، فلا بد لها من غفران الزلات والغض عن الهفوات، لا تخونه إذا غاب، ولا تسيء إليه إذا حضر؛ بهذا يحصل التراضي، وتدوم العشرة، وتسود الألفة والمودة والرحمة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة" رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
فما أعظم بشارة هذا الحديث لو وعته المرأة وعملت به للوصول إلى رضا زوجها وربها!.
عباد الله: إن صلاح الأسرة المسلمة هو طريق الأمان والسعادة لها وللمجتمع من حولها، فصلاح الأب وصلاح الأم، وصلاح الذرية، يعود على البيت بالخير العميم والهدوء وراحة البال والاطمئنان، ويتخرج من هذا البيت رجال ونساء يحملون شعار الدين والأخلاق، فيطبقون ذلك في معاملاتهم بمن حولهم، فينتشر الوئام والمحبة في أرجاء المجتمع المسلم.
نسأل الله الكريم المنان ذا الفضل والإحسان أن يمن علينا جميعاً بالسعادة في بيوتنا، وأن يصلح لنا زوجاتنا وذرياتنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام.
هذا، وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي