قصتان من خيبر

توفيق الصائغ
عناصر الخطبة
  1. خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر .
  2. بعض أحداث الغزوة .
  3. تكليف علي - رضي الله عنه - بالقيادة .
  4. الإخلاص سبيل النجاة .
  5. الشرك والرياء سبيل ميتة السوء وسوء الخاتمة .

اقتباس

ليس هذا الذي استوقفني في خيبر.. إن الذي استوقفني في خيبر حديثتان مهمتان، أولاهما لعبد حبشي أسود كان يرعى الغنم لرجل من يهود رأى الناس يعسكرون رأى الأسلحة بادية فقال: "ما الخطب؟" وهذا الراعي ليس له من شأن العامة شيء لا يهمه أمر السياسة ولا الاقتصاد مبلغ علمه أن يخرج في البكور بالغنم ويعود عليها بالرواح.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه وعلى آله وصحابته وعترته.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: بدون مقدمات أضعكم في قلب الحدث والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد عسكر عسكره، جهز هذا، قدم هذا وهذا أخره، إنه قد خرج مع صحابته -رضوان الله عليهم وصلوات الله وسلامه عليه- في الليل إلى خيبر لهم جؤار يملأ الفضاء؛ يهللون يكبرون يجأرون إلى الله -سبحانه وتعالى- بالدعاء حتى ارتفعت أصواتهم بالدعاء فقال لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- "أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا".

إنهم قد خرجوا والفضاء ممتلئ بتهليلهم بتكبيرهم يجأرون إلى الله -تعالى- وعامر بن الأكوع من دونهم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ***ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

الصحابة كانوا قد احتفوا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- رائدهم الإخلاص وطلبهم الشهادة في سبيل الله -تعالى- نصرة لدين الله -عز وجل- خرجوا مع النبي -عليه وآله الصلاة والسلام- وكلهم يستحضر أن له إحدى الحسنيين؛ إما نصر ينصر الله به أوليائه ويعز به دينه، وإما الأخرى التي تحبون وهي الشهادة.

من في القوم؟ في القوم عليّ وأمثاله وأشكاله ونظرائه، أبو تراب الذي قال عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" هذه عينة عشوائية من جند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين كان نشيدهم ونشيجهم وديدنهم وظاهرهم وباطنهم:

نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم *** والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا *** في مسمع الروح الأمين فكبرا

أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية عليًّا برغم ما في عينه من الرمد:

يا أبا السبطين أحسنت فزد *** فعلكم يا شيخنا فعل الأسد

رمد تفعل هذا في العدا *** كيف لو عوفيت من ذاك الرمد

سار القوم في الليل يغزون خيبر؛ ليشتتوا شمل اليهود الذين لا يجدي معهم في كل واقع وزمان ومكان وظرف إلا أن تُباد بيضاؤهم، وإلا أن تُستباح محارمهم وإلا أن تهدم حصونهم وأن تشرد نسلهم وحرثهم.

خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- وقد أظفره الله -عز وجل- في نهاية المعركة وقد غنم من الغنائم ما غنم -عليه الصلاة والسلام- بل كانت خيبر من أكثر الغنائم التي حباها الله -عز وجل- لنبيه وللمؤمنين.

ليس هذا الذي استوقفني في خيبر.. إن الذي استوقفني في خيبر حادثتان مهمتان، أولاهما لعبد حبشي أسود كان يرعى الغنم لرجل من يهود رأى الناس يعسكرون رأى الأسلحة بادية فقال: "ما الخطب؟" وهذا الراعي ليس له من شأن العامة شيء لا يهمه أمر السياسة ولا الاقتصاد مبلغ علمه أن يخرج في البكور بالغنم ويعود عليها بالرواح.

سأل هذا الرجل ماذا تريدون؟ قالوا: نقاتل الذي يزعم أنه نبي، لم يزيدوا عن هذه الكلمة "نقاتل الذي يزعم أنه نبي".

لكن الله أراد أن تقع الكلمة موقعها بنفس هذا الراعي وقع في نفسه النبوة والنبي، فأراد أن يسأل فحمل غنمه وسرح بها إلى الضفة الأخرى وإلى المعسكر الآخر حتى انتهى بالنبي -عليه الصلاة والسلام- فقال "ماذا تقول؟ ماذا تدعو إليه؟"

قال له النبي -عليه الصلاة والسلام- "أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وألا تعبد إلا الله".

قال له العبد الحبشي: فما لي إن شهدت وآمنت بالله؟ قال: "لك الجنة إن مت على ذلك".

كلمات الدعوة من النبي -عليه الصلاة والسلام- لم تكن محاضرات مطولة ولا أبيات مطولة ولا معلقات، كلمات يعدها العادّ، لكن الله أراد أن تقر في قلب هذا العبد فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

ثم وعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس فجاءه هذا الرجل وقال: "يا رسول الله إن هذه الغنم أمانة عندي" أليست هذه الغنم ليهودي محارب، ألا يستطيع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها وأن تكون من النفل الذي نفله الله إياها؟ لا..

أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسطر سطورا من نور ومن ذهب في الأمانة، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للعبد "أخرجها من عندك وارمها بالحصباء، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك".

ذهبت الغنم، دعوها فإنها مأمورة حتى انتهت إلى صاحبها اليهودي، فلما وقعت بيده واليهود يعرفون النبي -عليه الصلاة والسلام- كما يعرفون أبناءهم، والله يعرفونه باسمه، يعرفونه برسمه، ويعرفونه بخاتم النبوة، وإنهم لمن أعرف الناس به فلما بلغت الغنم اليهودي أدرك أن العبد قد أسلم.

قام النبي في الناس خطيبا وعظ الناس، حضّ الناس، حرّض المؤمنين على القتال فخرج المسلمون تضرب أسيافهم، وكان فيهم هذا العبد الحبشي، فلما وضعت الحرب أوزارها جيء بالعبد جثة هامدة في فسطاط النبي -عليه الصلاة والسلام-، ألقى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرات ثم قال: "أيها الناس لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتي من الحور العين ولم يسجد لله سجدة واحدة".

الله أكبر! إنه الإخلاص بل محض الإخلاص الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته،عن أبي أمامة أن رجلاً جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزى يلتمس الأجر والذكر ما له؟" قال -صلى الله عليه وسلم- "لا شيء" فأعاد ثلاث قال "ما له؟"، قال -عليه الصلاة والسلام- "لا شيء". ثم قال النبي -عليه الصلاة والسلام- "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له وابتُغي به وجهه".

هذه حادثة وقعت في خيبر في أغمار وأخرى على النقيض تمامًا، رجل من المسلمين لم يترك صفًّا من صفوف المشركين لم يترك شاذة ولا فاذة إلا أعمل فيها السيف حتى قال الناس هو..هو، هذا المقدام، هذا الفارس، هذا الشجاع، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر الناس كان له مقالة أخرى ورأي آخر.

لقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الرجل الذي ظاهره الجهاد والذي أبلى بلاءً حسنا والذي ضرب فوق الأعناق وضرب من المشركين كل بنان قال: "أما إنه من أهل النار".

قال الصحابة -رضوان الله عليهم-: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟!

لكن رجلا منهم حكيمًا قال: "والله لا يموت على هذه الحال أبداً"، قال هذا الرجل: فاتبعته وجعلت أجيل فيه النظر حتى اشتدت به جراحاته، وقد أصابته جراحات واستعجل الموت ثم وضع سيفه بين ثدييه فاحتمل عليه فمات، فجاء الرجل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أشهد أنك رسول الله، أشهد أنك رسول الله" قال النبي -عليه الصلاة والسلام- "ما ذاك؟" قال: أرأيت الرجل سار منهم كيت وكيت..

قال النبي -عليه الصلاة والسلام- "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة" جعلني الله وإياكم من أهل الجنة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يا طوبى للمستغفرين..

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 أما بعد: لا أجد أجمل من هذه السانحة التي يجتمع لها المسلمون التي ترق لها القلوب التي يأمر فيها المؤمن بألا يمس حصى وألا يلهو في جمعته لا أجد أسنح ولا أعظم من هذه الفرصة لأدعو الله -تبارك وتعالى- وأسترفع أكفكم بدعاء الله -عز وجل- أن يفرج عن المسلمين.

يا الله يا ذا الجلال والإكرام يا الله يا من ليس لنا إلا هو، يا الله، يا فراج الهم يا منفس الكرب، يا قاضي الحاجات يا مقيل العثرات، يا الله، يا من لا نفزع في الملمات إلا إليك، يا من لا نرجو إلا وجهه الكريم، أنت الله -تعالى- الله وجل الله، أنت من لا يرد السائلين ولا يخيب الطائعين، اللهم أنت مغيث المستغيثين.

اللهم أنت مجيب المستغيثين يا الله ندعوك نرجوك نبتهل إليك نتوسل إليك نرجو ما عندك  يا الله يا الله أتيناك بفقرنا بذلنا بتوسلنا بمسكنتنا بصيحاتنا يا الله يا الله يا الله..

    


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي