بالقِصَاصِ تُحْقَنُ الدماء، ويَنْزجرُ ويَرتَدِعُ به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه مقتولٌ إذا قَتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا خاف بذلك غيره وانزجر.. وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ, الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ.
الحمد لله الذي شرعَ الُحدُود حِكمةً منه وعَدْلاً، ودَّل عبادَه إلى ما فيه أمنُهم رحمةً منه وفضلاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شرعَ القِصَاصَ لردع المجرمين, وأوجب فيه العدل ليسود الأمنُ والرِّضا بين المؤمنين, وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالهدى والرحمة، الْموعودُ هو وأتباعُه بالرفعةِ والعزَّة, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه, والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, فالتقوى هي الأساسُ في حماية المجتمعِ من الفتن, وصيانته من الجرائم والْمحن.
أمة الإسلام: سنقفُ مع آيةٍ من كتاب الله تعالى, بهَرتِ العلماء والمفسرين, وكثيرٌ منهم يأتي بعجائبَ لم يأتِ بها غيرُه.
هي قولُه تَعَالَى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة: 179] وَهذه الآيةُ تَعْلِيلٌ لِمَشَرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ, وَبَيَانٌ لِحِكْمَتِهِ وغايَتِه..
والمعنى: وفي شَرْع الْقِصَاصِ لكم, وهو قتل القاتل, وأخذُ الحقّ من الجاني والمعتدي, حكمةٌ عظيمةٌ لكم، وهي بقاء الأنفسِ وصِيانتُها؛ لأنه إذا عَلِمَ القاتلُ أنه سَيُقتل تراجعَ عن صنيعه، فكان في ذلك حياةُ النفوس.
قال بعضُ السلف: جَعَلَ اللهُ تعالى الْقِصَاصِ حياة، فكم من رجلٍ يُريد أن يَقتُل، فيمتَنِعَ مخافةَ أنْ يُقتل.
فبالقِصَاصِ تُحْقَنُ الدماء، ويَنْزجرُ ويَرتَدِعُ به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه مقتولٌ إذا قَتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا خاف بذلك غيره وانزجر.
وتأملوا كيف نكَّر تعالى: "الحياة" فقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ولم يقل: الحياة؛ ليُفيدَ التعظيم والتكثير, أي: فبالقِصَاصِ حياةٌ عظيمةٌ للناس, وأمنٌ وأمانٌ واطْمِئْنان.
وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ, الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ.
والْقِصَاصِ يشمل أمرين: الدماءَ والجروح, فمن قتلَ يُقتصُّ منه بالقتل, ومن جرح أو آذى, يُقتصُّ منه بجرحه وأذيَّته.
"ثُمَّ إِنَّهَا فِي إِيجَازِهَا, قَدِ ارْتَقَتْ أَعْلَى سَمَاءٍ لِلْإِعْجَازِ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ كَلِمَةً فِي مَعْنَاهَا عَنْ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ, يَعْجَبُونَ مِنْ إِيجَازِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الطَّاقَةَ لَا تَصِلُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ غَايَتِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ". (تفسير المنار: 2/114).
وشتَّان بينها وبين الآية الكريمة, والفرقُ بينهما كما بين السماء والأرض.
والفرق بينهما من وجوه:
الأول: أنَّ الآية أَخْصَرُ في حروفها, فَإِنَّ الْمَلْفُوظَ هُنَا فِي الْآيَةِ عَشَرَةُ أَحْرُفٍ, وَهُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا.
الثَّانِي: أنها أبلغُ في معناها؛ إِذْ فِي كُلِّ قِصَاصٍ حَيَاةٌ, وَلَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا أَدْعَى لِلْقَتْلِ, فإذا قتلَ رجلٌ آخر ظلماً وانتقاماً, فإنَّ هذا القَتْل لن ينفي القتل ويُوقفه, بل سيزيده بانتقام أولياء الدم منه.
الثالث: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُفِيدُ إِلَّا الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ، وَالْآيَةُ تُفِيدُ الرَّدْعَ عَنِ الْقَتْلِ وَعَنِ الْجَرْحِ وَغَيْرِهِمَا، فَهِيَ أَجْمَعُ لِلْفَوَائِدِ, وهناك فروقٌ كثيرةٌ لا يسعُ المقام لذكرها.
فَسُبْحَانَ مَنْ عَلَتْ كَلِمَتُهُ، وَبَهَرَتْ آيَتُهُ, وأعجَزَ كلامُه, وعظُم بيانُه.
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ *** وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ *** طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفَأَ الْقِنْدِيلَا
الْآيَةُ -معاشر المسلمين- عَلَى كَوْنِهَا أَبْلَغَ، وَكَلِمَتِهَا أَوْجَزَ، قَدْ أَفَادَتْ حُكْمًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ وَبُلَغَائِهِمْ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْعُقُوبَةِ, وَصِيَانَةُ النَّاسِ مِنِ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِالْقَتْلِ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ أَوْ يَنْتَفِيَ, فَهُوَ يَصْدُقُ بِاعْتِدَاءِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ، وَالْإِسْرَافِ فِي قَتْلِ رِجَالِهَا, لِتَضْعُفَ فَلَا تَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ الثَّأْرِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ قَتْلَنَا لِعَدُوِّنَا إِحْيَاءٌ لَنَا، وَتَقْلِيلٌ أَوْ نَفْيٌ لِقَتْلِهِ إِيَّانَا، وَأَيْنَ هَذَا الظُّلْمُ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ؟!
فَالْآيَةُ الْحَكِيمَةُ قَرَّرَتْ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْقِصَاصَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهَا; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا, يَرْتَدِعُ عَنِ الْقَتْلِ, فَيَحْفَظُ الْحَيَاةَ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالدِّيَةِ لَا يَرْدَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ سَفْكِ دَمِ خَصْمِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ الْإِيقَاعِ بِعَدُوِّهِ. (تفسير المنار: 2/116).
هَذَا, وَإِنَّ دُوَلَ الْغرب والشرق, وفي مُقدِّمتهمُ اليهودَ الصهاينة, تَجْرِي عَلَى سُنَّةِ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ, فِي جَعْلِ الْقَتْلِ لِأَعْدَائِهَا وَخُصُومِهَا أَنْفَى لِقَتْلِهِمْ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ شَأْنُهُمْ مَعَ الضُّعَفَاءِ, فَأَيْنَ هِيَ مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَاوَاتِهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنَامِ؟!
فهذه دولةُ بني صُهيون, يَقْتُلون ويجرحونَ الآلاف من شعب غزَّة؛ لأنَّ ثلاثةً من بني جِلْدَتهم قُتِلوا, فيقتصُّون من شعبٍ بأكمله, هذا والقاتل لم يُعرف حتَّى الآن!!
فشتان بين عدل الإسلام, وجورِ وظلمِ أدْعياءِ حُقوقِ الإنسانِ.
ولو كانوا يعلمون أنهم إذا اعْتَدوا وقَتَلوا, سيُعتدَى عليهم ويُقتصُّ منهم, لما تجرَّؤوا على الدماء البريئة, والأرواحِ المسكينة.
إن الخوف من العقوبة - معاشر المسلمين- هو الذي يصنع التوازن بين معسكرات العالم، وهو الذي يصنع التوازن في الأفراد أيضًا.
فالذي جرَّأ اليهودَ والرافضةَ على دماء الأبرياء, هو أَمْنُهُم من العقوبة والقِصَاص, وإلا فلو كانت هناك قُوَّةٌ تُوازي قوَّتهم, وتقفَ أمامهم, لَما أقدموا على سفك الدماء, وذبحِ الأبرياء.
فما أعظم تشريعَ الإسلام, حينما شرَعَ القِصاصَ على أهل الإجرام.
وهنا وفقةٌ مع الذين يتشدَّقون ويقولون: "إنَّ القِصَاصَ وحشيةٌ وإهدارٌ لآدمية الإنسان، ونسألُهم: لماذا أَخَذَتْكُم الغيرةُ لِأَنَّ إنساناً يُقْتَصُّ منه بحق, وقد قَتَل غيرَه بالباطل؟ كيف تَغضبون لمعاقبة قاتلٍ بحقٍّ، ولا تتحركون لمقتل بريء؟.
وفي إنزال العقاب بالمعتدي خضوعٌ لمنهج الله، وفي رؤيةِ هذا العقاب من قِبَل الآخرين, هو نشرٌ لفكرةِ أنَّ المعتديَ ينال عقاباً، ولذلك شَرَعَ الحقُّ العقابَ والعلانيةَ فيه, ليستقرَّ التوازنُ في النفس البشرية". (تفسير الشعراوي: 183).
والإسلام - يا أمة الإسلام- أمرَ بالقِصَاصِ على الجميع, دُون شفاعةٍ أو مُحاباةٍ لأحد, وهو بهذا يُؤسِّس مبدأ العدل في المجتمع, وهو السبب الأساسُ في شيُوع الأمن والاسْتقرار.
فالْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مِن أشرافهم, حاولوا الوَسَاطةَ واسْتثناءَها لِشرفِها ومكانتِها, فقَامَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس خطيباً وقَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ, أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا. متفق عليه.
"فأخبرهم أنَّ سبب هلاكِ مَن قَبْلَنا في دينهم وفي دُنياهم: أنهم يُقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء، ويَتركون الأقوياء والأغنياء، فتَعُمُّ فيهمُ الفوضى ويَنْتَشِرُ الشرُّ والفساد، فيَحِقُّ عليهم غضبُ الله وعقابُه.
ثم أقسم صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- لو وقَع هذا الفعلُ مِن سيدةِ نساءِ العالمين ابنتِه فاطمة- أعاذها الله من ذلك- لنفَّذَ فيها حكمَ الله تعالى". (تيسير العلام: 1/ 670).
فالحديث صريحٌ بأنَّ شَرَفَ الجاني لا يُسْقِطُ الحدَّ عنه، وأنَّ أحكام الله تعالى يَستوي فيها الشريف والوضيع, وأنَّ العدلَ في كل شيءٍ هو الأمان من العقوبةِ, وضمانٌ من زوال النعمة وذهابِ السُّلْطة.
وإننا نحمد الله تعالى, على نعمة تطبيق الشرع في القِصاص من القاتل, وكم سمعنا ونسمعُ من جرائم القتل والسرقة, وخاصةً في هذه الأيام, فقد تنوَّعتْ جرائمُ الْمُفسدين, وابتكروا أفعالاً شنيعةً يَنْدَى لها الجبين, ومع قلَّتها والحمد لله, إلا أنَّ الْقِصَاصَ قلَّل منها, وَرَدَعَ آلافَ الجرائمِ التي من الْمُمكن أنْ تقع؛ حقًّا: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
فنعمةُ تطبيق الشريعةِ تطبيقاً شاملاً على الجميع: نعمةٌ لا تُوازيها نعمة, ولا تُعادلها فضيلة, فبِهِ يسودُ العدل, ويأمنُ الناسُ على أعراضهم, ويَكُفُّ الْمُجرمون عن كثيرٍ من جرائمهم.
نسأل الله أنْ يُثَبِّتَنا على دينه, ويُوفقنا لتطبيق شَرْعه, إنه سميعٌ قريب مجيب.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا منَّ علينا بالأمن والأمان, وَوَفَّقَنَا لسلوك طريقِ أهلِ الإيمان, وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَتَمَّانِ الْأَكْمَلَانِ, عَلَى مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ, تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى لِلْإِنْسَانِ.
وبعدُ يا عباد الله, إنَّ الفتنَ تُحاك علينا مِن كلِّ جانب, فأصحابُ الْمُخدِّرات يتربصون بشبابنا, وأهلُ العلمنةِ يسهرون اللياليَ لزرعِ الفُرْقة فينا, وبثِّ سُمُومهم وضَلَالَاتِهِم في مُجتمعاتِنَا, والرافضةُ وأهلُ الأهواء والغلوّ, يَنْتَظِرُون الفرصةَ لِزَعْزَعَةِ أَمْنِنَا, وتدميرِ اقْتِصدِنا ورخائِنا. فالواجبُ علينا أنْ نُوحِّدَ الصفَّ في صدّ هذه الفتن, والوقوفِ في وجهِ هذه الْمِحَن.
ولْنَدَع الشائعاتِ التي لا نعلم مصدرها, والأقاويلَ التي لا مُسْتندَ لها, فإنَّ الإنسان قد يأثم على نشرها أو تصديقها, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». رواه مُسلم.
نسأل الله تعالى, أنْ يحفظ علينا وعلى بلاد المسلمين الأمن والإيمان, والسلامةَ والاطمئنان, إنه جوادٌ كريم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي