إن الاستغلال السيئ لوسائل التقنية والاستخدام غير الصحيح لبرامج التواصل الاجتماعي أدى إلى نتائج سلبية وعواقب وخيمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن كثيراً من تلك العلاقات التي تعقد بين الذكور والاناث خلف الشاشات؛ تحولت من علاقات وهمية الكترونية إلى علاقات واقعية حقيقية بعد التواصل المستمر...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد:
عباد الله: من فضل الله على الناس في هذا الزمان أن يسر لهم وسائل التقنية، وسهل عليهم برامج التواصل التي يتواصلون بها، ويتصل بعضهم على بعض عبرها (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [يوسف : 38].
والسؤال الذي يضع نفسه علينا هو هل قمنا باستغلال هذه الوسائل في طاعة الله، ونشر الخير، والتواصل مع إخواننا المسلمين، ودعوة غير المسلمين إلى دين الله؟ أم أن استغلالنا لها كان سلبيا وبصورة غير مرضية.
إنها نعمة من الله منّ بها علينا في هذا العصر، وسيسألنا الله على كل نعمه أنعم بها علينا، ومنها هذه النعمة، نعمة التواصل الاجتماعي، فلنعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : 18].
إن المتأمل في واقعنا، والناظر في حال شبابنا، يجد أن كثيراً منهم -وللأسف الشديد- لم يستغل هذه التقنيات في الطاعة والخير، وإنما قاموا باستغلالها في الشر، وجلب المنكر، والهدم، والدردشات التافهة التي لاتسمن ولا تغني من جوع.
بل نرى كثيراً منهم قد استحوذت هذه الوسائل على معظم وقته، فهو يصبح ويمسي مع حاسوبه أو جواله على الفيس بوك، أو التويتر، أو الواتساب، أو النمبز، أو غيرها من برامج التواصل الاجتماعي. حتى أننا نرى بعضهم حتى وهو يسير في الشارع، وفي أثناء مشيه في الطريق أو في السيارة، حاملاً لجهازه يدردش مع هذا، ويتواصل مع تلك، ويضحك على هذه، ويقلد على تلك.
فهذا ولد يخيل للآخرين أنه أنثى، وتلك بنت تضع صورة ولد، وكل منهما يحب أن يلفت الآخرين إلى صفحته أو إلى موقعه بأي شيء، بغض النظر عن كونه جائزاً أو غير جائز، ولهذا فلا مانع لديهم من وضع الصور الهابطة، وإنزال الروابط الهدامة، وإخراج الأفلام الإباحية والصور الملفتة، طالما أنها ستجذب الآخرين نحوهم ونحو منشوراتهم، دون مبالاة بقول الله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء : 36].
أيها المسلمون: إن الاستغلال السيئ لوسائل التقنية والاستخدام غير الصحيح لبرامج التواصل الاجتماعي أدى إلى نتائج سلبية وعواقب وخيمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن كثيراً من تلك العلاقات التي تعقد بين الذكور والاناث خلف الشاشات؛ تحولت من علاقات وهمية الكترونية إلى علاقات واقعية حقيقية بعد التواصل المستمر والتعارف الممل بالطريقة الالكترونية، حيث نجح الشيطان في تحويلها إلى علاقات مترجمة على أرض الواقع.
وكم من قصص ومآسي وعلاقات وصداقات سيئة كانت بدايتها ونقطة انطلاقتها تعارف عبر الفيس بوك، أو التويتر، أو الواتساب، أو غيرها، وكثير من هذه العلاقات تتحول في النهاية إلى تعاسة وجحيم وشقاء، خاصة إذا حان موعد الجد وأتى وقت الصدق؛ فالثقة تكون منزوعة في الغالب بين الطرفين، وكل طرف لا يثق ثقة تامة في الشخص الآخر، ويتوقع منه الخيانة في أي لحظة، بل ربما يكون شاكاً في كثير من المعلومات حول الشخص نفسه، ومكذباً لأكثر الحديث الذي جرى بينهما وغير مصدق به.
فأنى لهم أن يقيموا علاقة جادة تصلح لأمر جاد وفيه مسؤولية عظيمة كالزواج أو غيره، والعلاقة بينهما مجرد علاقة يشوبها التفاهة، والدردشة، والضحك، والكذب، وتضييع الأوقات، وعدم الجدية. وهذا هو الأصل خاصة من طرف الشباب، بعكس البنات فإن كثيراً منهن عاطفيات، تصدق وتثق وتطمئن، ثم تتفاجأ في النهاية بأن هذا الشخص ما هو إلا ذئب بشري وكلب عقور هدفه فقط تمضية الوقت، وقضاء نزوته وشهوته مع تلك الفتاة، والتمتع بحديثها، وصورها، وصوتها.
لذلك تتفاجأ عندما تتيقن أنه قد خطب غيرها، أو تركها وأقام علاقة جديدة مع أخرى، أو قام بتهديدها وفضحها ونشر صورها، وبث المعلومات الخاصة التي أعطته إياها. وفي النهاية أسف وحزن، وانهيار وفضيحة مدوية، وحرق للسمعة، وربما يصل الأمر إلى القلق النفسي، والحيرة والاضطراب في كيفية إخماد الموضوع وكتم الفضيحة، وربما يصل الأمر إلى الاكتئاب والانتحار، والفضيحة والسجن.
هذه فتاة تتواصل مع شاب مجهول، بدأت تتعرف عليه وتثق فيه، وهو يعطيها من كلامه المعسول ووعوده الكاذبة، وعندما طلب منها الحرام أبت ورفضت إلا عبر الطريقة الشرعية بالزواج بها. تعذر الوغد لها بأنه لا يملك تكاليف الزواج، وليس عنده المصاريف اللازمة لزواجه بها، فوعدته المسكينة بأن تذلل له الصعاب وتيسر له الأسباب، وكانت تعمل موظفة في أحد الدوائر الحكومية وعندها رصيد مالي هائل.
وعدته بأنها ستعطيه القسط الأكبر من التكاليف، ومن شدة ثقتها وفرط تعلقها، إن لم نقل سذاجتها وحماقتها، أعطته مبلغاً مالياً هائلاً على أن يجهز نفسه به، ثم يأتي إلى بيت أهلها ليتقدم لها, استلم الغادر المبلغ، وبعدها تتفاجأ الفتاة المسكينة بإغلاقه لكل قنوات الاتصال التي كان يتواصل معها عبرها، أغلق جواله، ولم يرد على رسائلها من صفحاته الالكترونية، وقطع كل شيء. ذهبت إلى مكانه الذي يسكن فيه، فإذا بها تعلم من جيرانه أنه غادر المكان وأخذ معه كل أغراضه، وكأنه قرر أن لا يعود، فعرفت المسكينة أنها ضحية من ضحايا برامج التواصل.
وأخرى وقعت في فخ أعظم من هذا، فإذا كانت مصيبة هذه في مالها، فإن مصيبة تلك في حالها, إنها فتاة عانس، أقامت علاقة عبر الفيس بوك والواتساب مع شاب يقاربها في العمر، إن كان صادقاً في معلوماته التي أدلى بها لها، وبعد فترات من العلاقة والتواصل طلب الزواج بها شريطة أن يراها، فقامت المسكينة فأرسلت له صورة لها وهي بلثامها وبرقعها، فتشنج الكلب وغضب عليها، وتحت ضغطه وتهديداته بقطع العلاقة معها أرسلت له صورة لها وهي سافرة الوجه.
وتتفاجأ الضحية بعدها بإرساله لرابط لصفحة على الفيس بوك باسمها الصريح، وفيه صورتها وهي باللثام، وكتب على الصفحة تهديد مباشر لها بأنها إن لم تفعل له وتفعل فإنه سيقوم بنشر الصورة الثانية لها، وسيعمل للصورة إشارة لتصل إلى جميع أهلها وأقربائها.
وقعت الفتاة في الحيرة، ودخلها الهم والغم الشديد، وأخذت تنوح وتبكي عند من تثق فيهم وتعرفهم من المخلصين، وتسألهم بالله العظيم أن يخلصوها من هذه المحنة وينقذوها من هذه الأزمة، قبل أن ينفذ هذا الشيطان تهديداته فتفضح، ويقوم أهلها بالتصرف القوي معها.
هذه هي النهايات المرة والعواقب الوخيمة لهذه الاستخدامات الطائشة لهذه البرامج وسوء استخدامها. وصدق الله -تبارك وتعالى- إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور : 21]. ويقول-جل وعلا-: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة 168: 169].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: ربما أطلت عليكم في الخطبة الأولى في عاقبة واحدة من العواقب السيئة لوسائل التواصل الاجتماعي، وهي تحول العلاقات من وهم إلى حقيقة؛ لأن هذه النقطة مهمة فأحببت التركيز عليها، لنأخذ حذرنا، وذكرت حولها من القصص الواقعية حتى لا نكون عبرة لغيرنا، فالسعيد من وعظ بغيره.
ومن العواقب السيئة لوسائل التواصل: أنها سهلت على كثير من الشباب والفتيات الوقوع في الشر، وارتكاب المحرمات الظاهرة، كرؤية الحرام، وسماع الحرام، وفعل المحرمات الكبيرة التي تجلب غضب الله، وتوقع العبد في أليم عذابه وشديد عقابه، ومن ذلك مشاهدة الأفلام الإباحية، ورؤية الصور الجنسية، والتعلق المقيت بصور المردان والنساء، والمخنثين والمخنثات.
وهذه ظاهرة مقيتة وشهيرة في ذلك العالم الوهمي، ومن يتابع إحصائيات مواقع البحث الالكتروني سيجد أن أكثر الكلمات التي يتم البحث عنها من قبل العرب هي كلمات جنسية وعبارات إباحية، الهدف من البحث عنها مشاهدة الرذائل والتمتع بالحرام المحض الذي يعمي البصر والبصيرة. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...) [النور 30: 31].
عباد الله: إن الكلام حول العواقب السيئة لبرامج التواصل سيطول، وما مضى فيه كفاية لمن كان له قلب، وفيه ذرة من غيرة، وحرص على دينه وسمعته وعرضه، فكيف إذا علمنا أن كثيراً من هذه الوسائل أصبحت أبواقاً لنشر الأكاذيب، وبث الأراجيف، وتبادل الاشاعات الكاذبة، والأخبار المزيفة، سواء في المجال السياسي، أو في الجانب الاجتماعي، أو في غيرهما من الجوانب، مما زاد من الوهن والهزيمة النفسية لدى الكثيرين.
إن علينا أن نربي أبناءنا على الحياء من الله ومراقبته، وننمى فيهم الوازع الديني، ونقوم بتوعيتهم بالمخاطر المترتبة على سوء الاستخدام لهذه التقنيات المعاصرة، حتى لا ينزلقوا في المزالق والمخاطر لهذه الوسائل. وأن نقوم بصرف طاقاتهم، وتوجيه جهودهم في تسخير هذه التقنية للدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة, فإن لها ثمارًا يانعة، وأجرًا باقياً -بإذن الله-.
كما يجب علينا التثبت من الأخبار والأحكام قبل الإرسال، وكم من خبر تداوله الناس، فأمسى شائعة لا حقيقة لها، وكم من ذِكر أو دعاء أو قصة موضوعة لا أصل لها، أو بدعة منكرة! ولربما تداولت الأيدي هذه الرسالة، وانتشرت في الآفاق، فتحمل المرء جزءًا من تبعاتها؛ بسبب تسرعه واندفاعه. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور : 19].
فإياكم -ياعباد- الله ومنح الثقة بشكل مطلق خاصة للشاب الصغار و الفتيات، وبالذات في من قد يستخدم هذه الوسائل والبرامج بشكل سلبي، بل لا بد من وضع حدود وضوابط لهم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" [ ابن ماجة (2341)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فبدأ بنفسه وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم اجعلنا ممن اغتنم وسائل التقنية في الخير ونشره، وجنبنا شرورها وأضرارها يارب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي