أحاط سبحانه بكل شيء علمًا، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تختلف عليه اللغات، يسمع داعيًا، ويجيب سائلاً.. ليس لقدرته حدّ، ولا لقوته منتهى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.. ما تعلق به كسير إلا جبره، ولا مريض إلا شفاه، ولا مبتلى إلا عافاه، ولا مظلوم إلا نصره، ولا محتاج إلا كفاه، قوله الحق، وخبره الصدق، وحكمه العدل، إذا أراد شيئًا قال له كن فكان.
الحمد لله المتصف بصفات الكمال، المتفرد بنعوت الجلال والجمال، لا ندّ له ولا مثيل، ولا شبيه له ولا نظير، له الأسماء الحسنى والصفات العلا..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، أعلم الناس بربه، وأقومهم بحقه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، وجميع من اهتدى بهديه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن ضرورة العباد إلى معرفة ربهم وطاعته فوق كل الضرورات، إنها فوق الضرورة إلى الطعام والشراب والهواء، إنها ضرورة إلى أصل تلكم الضرورات ومصدرها، ضرورة إلى واهبها ومعطيها ومانحها.
إنها الغذاء لأرواح الناس، والصلاح والاستقامة لأمورهم، والأنس والطمأنينة لقلوبهم، (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
ولا عجب أن كان النبي –صلى الله عليه وسلم– يدعو ربه ويعلمنا أن ندعو فيقول: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"، فمن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضيعة وخسران، وذل وحيرة وخذلان.
كل الخلائق إليه مفتقرة، الجن والإنس والملائكة، الطير في الهواء، والأجنة في الأرحام، والزرع والنبات والحوت في الماء.
إنه الله "الصمد" الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها.
إنه الله "الحي القيوم" الذي به حياة الكائنات وقوامها.
ما ذُكر اسمه في قليل إلا كثَّره، ولا عند همّ وكرب إلا فرّجه؛ ففي الحديث: "ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا".
لذا أمر تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى فقال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]، وفي الحديث: "إن لله تسعًا وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة"، من أحصاها: بأن حفظها وعقل معناها، وعمل بمقتضاها، ودعا الله بها دخل الجنة.
أمرنا سبحانه بطلب معرفته، وتحصيل العلم بعظمته، فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19].
العلم بالله تعالى: أصل العلوم والخيرات كلها، والجهل به سبحانه: أصل الفتن والبلايا والمحن والرزايا، ومن جهل بالله ونسيه، أنساه مصالح نفسه فكان من الهالكين، يقول تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر: 19].
أي شيء عرف مَن لم يعرف الله؟! وأيّ علم حصل لمن فاته العلم بالله؟!
أرشدنا سبحانه إلى طريق معرفته بتأمل آثار أسمائه وصفاته فقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 244]، نعلم – عباد الله- أن الله يسمعنا ويرانا، ويعلم سرنا ونجوانا، يقول تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].
سمع يونس في بطن الحوت في ظلمات ثلاث إذ ناداه (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]، فاستجاب له ونجاه (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [لمائدة: 98].
تأمل عظمته تعالى وجبروته وقدرته وأليم عذابه وشدة عقابه في هلاك الأمم الظالمة؛ مما أرشد إليه حيث قال: (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد: 10]، فيستشعر العبد بذلك قدرة الله عليه، إذا دعته قدرته إلى ظلم أحد من الناس، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
وتأمل رحمته التي وسعت الخلائق كلها، تجدْها حتى في الدابة ترفع رجلها مخافة أن تطأ وليدها.
وعلى هذا فقس تأملاتك لآثار أسماء الله وصفاته، تعرف بذلك عظمته، وجلاله وجماله وقدرته.
عباد الله، وبمكابدة العبادة، ومجاهدة النفس على الطاعة والاستقامة، يحصل العبد معرفة الله، قال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، وقال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19].
أحاط سبحانه بكل شيء علمًا، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تختلف عليه اللغات، يسمع داعيًا، ويجيب سائلاً.
ليس لقدرته حدّ، ولا لقوته منتهى، هو العزيز الجبار، والقوي القهار، لا مفر منه إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين وخير الفاصلين، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لما رفع، ولا رافع لما خفض، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ما تعلق به كسير إلا جبره، ولا مريض إلا شفاه، ولا مبتلى إلا عافاه، ولا مظلوم إلا نصره، ولا محتاج إلا كفاه، قوله الحق، وخبره الصدق، وحكمه العدل، إذا أراد شيئًا قال له كن فكان.
يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسطها بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
طلب موسى رؤيته فقال له تعالى: (لَنْ تَرَانِي) [الأعراف: 143] أي: لن تتحمل رؤيتي بقواك الدنيوية الضعيفة، فأراه الله برهان ذلك فقال له: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 143].
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 182].
الخطبة الثانية
الحمد لله...
بحسب معرفة العبد بربه وطاعته له، يكون إيمانه وتقواه، وتعظيمه لربه، ومحبته له وخشيته وخوفه ورجاؤه؛ فمن كان بالله أعرف، كان منه أخوف، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
بحسب معرفة العبد بربه وطاعته له، يكون ذكره لربه وشكره له وصبره وتوكله ورضاه.
بحسب معرفة العبد بربه وطاعته له، يكون هناؤه وطمأنينته وسعادته في الدنيا والآخرة.
بحسب معرفة العبد بربه وطاعته له، يكون حفظه وعزه وغناه.
يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 2- 4].
فاللهم ارزقنا معرفتك وطاعتك، وتعظيمك وخشيتك ومحبتك..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي