حفظ الأوقات من الضياع

محمد أكجيم
عناصر الخطبة
  1. نعمة الحياة والعمر .
  2. عناية الإسلام بالوقت .
  3. كفران نعمة الحياة والعمر .
  4. محاسبة الإنسان على فترات عمره يوم القيامة .
  5. لكل وقت شواغله وأعماله ومفاجأته .
  6. أزمنة الفراغ يَضِيع فيها جزء من الأعمار .
  7. الرابحون في الإجازة الصيفية .

اقتباس

يخيَّل لبعضنا أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من الأكدار والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغَ منه في ماضي أيام الشباب، وهيهات هيهات، كلما كبر عمر الإنسان كبرت مسئولياته، وزادت علاقاته، وضاقت أوقاته، ونقصت طاقاته، فالعاقل من يغتنم ساعاته الحاضرة، ولا يتعلق بالغائب المجهول، فلكل وقت شواغله وأعماله ومفاجأته.

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله، أقسم بالزمان تعظيمًا لشأنه، ولفتًا لأنظار المؤمنين إلى عالي مكانته ورفيع قدره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وجميع من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن من عظيم نِعَم الله على العباد، نعمةَ الحياة التي وهبهم إياها، إنها زمن الفرصة والإمكان للتزود بالباقيات الصالحات، وتدارك الهفوات قبل الفوات وقبل الممات.

 امتن الله بهذه النعمة على عباده ليشكروه عليها، فقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].

أقسم بها -سبحانه– في مطالع سور عديدة من كتابه الكريم، تعظيمًا لشأنها، فقال تعالى: (وَالْعَصْرِ) [العصر: 1]، وقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1- 2] في أقسام أخرى على هذا المنوال.

عباد الله، إنه لم يعرف التاريخ دينًا عظَّم شأن الوقت وبالَغ في الوصية به، والتأكيد على الحرص عليه والاهتمام به كدين الإسلام.

شرع العبادات، وحدّد لها أزمنة، ووقَّت لها أوقاتًا، تربيةً للمسلمين على ضبط أوقاتهم وحفظ أعمارهم؛  ذلك أن من تعود الوفاء بوعده مع الله في لزوم أداء الصلوات في أوقاتها، جدير به أن يحفظ أوقاته، ويفي بمواعيده الأخرى بتوفيق من الله تعالى.

شرع الإسلام العبادات في أزمنة محددة معينة متعاقبة، إرشادًا للمسلمين إلى الحرص على استغلال أوقاتهم في عبادة الله التي خلقهم الله لها، وخلق الزمان لهم لأجلها.

بل بلغت عناية الإسلام بالوقت أن أرشد النبي –صلى الله عليه وسلم– إلى الحرص على استثماره في أشد المواقف وأصعبها؛ حيث قال: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ".

عباد الله، إن عمر الإنسان محدود، وأجله مكتوب، وما أسرع ما يمضي وينقضي، يقول تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس: 45]، وقال سبحانه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61]، وإن من جهلنا بقيمة الوقت أننا نفرح بمغيب شمس كل يوم، ولا ندرك أنه نهاية يوم من أعمارنا لن يعود أبداً، فما الإنسان إلا بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.

  إنا لنفرحُ بالأيام ِ نقطعها *** وكلَ يوم ٍ مضى يدني من الأجل

إن من كفران نعمة الحياة والعمر، أن يمضي على الإنسان يوم لا يستفيد منه نموًّا في علمه، ولا زيادة في إيمانه وتقواه لربه، فرضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: "ما ندمتُ على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسُه نقَصَ فيه أجَلي، ولم يزدد فيه عملي".

العمر أمانة بين يدي الإنسان، يسأله الله عنها يوم القيامة، أحفظها أم ضيعها؟! أعمرها بعبادة الله، أم شغلها بمعاصي الله.

وإن أخص مراحل الإنسان بالسؤال عنها والمحاسبة عليها يوم القيامة، مرحلة شبابه، مرحلة قوته وقدرته على الاستكثار من الأعمال، الصالحات أو السيئات، واجب على من يمتعه الله بها أن يغتنمها قبل ضياعها وفواتها، قبل السؤال عنها والحساب عليها يوم القيامة، يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه".

إن مسؤوليتنا اليوم عن أوقاتنا لتزيد أمامَ اللهِ بما أنعم به من وسائل حديثة قرَّبت المسافات، واختصرت الأوقات، ووفّرت الكثير من الجهد والوقت، لم يكن الناس يتوفرون عليهما فيما مضى من الزمان.

عباد الله، يخيَّل لبعضنا أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من الأكدار والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغَ منه في ماضي أيام الشباب، وهيهات هيهات، كلما كبر عمر الإنسان كبرت مسئولياته، وزادت علاقاته، وضاقت أوقاته، ونقصت طاقاته، فالعاقل من يغتنم ساعاته الحاضرة، ولا يتعلق بالغائب المجهول، فلكل وقت شواغله وأعماله ومفاجأته.

ولهذا نبَّه نبينا -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمرّ" (رواه الترمذي في سننه).

إن المرء لا يعرف قيمة الوقت الذي أنعم الله به عليه حق المعرفة، إلا حين  يفجؤه الموت، ويتمنى ساعتها أن يمد له في عمره ليستدرك ما فات ويصلح ما أفسد وأضاع، (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].

الخطبة الثانية

الحمد لله...

موسم الإجازة الصيفيَّة من أزمنة الفراغ التي يَضِيع فيها جزءٌ من أعمار كثير من الناس دون فائدةٍ تَعُود عليهم، كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم– بذلك حيث قال: "نِعْمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصحَّة والفراغ" (رواه البخاري).

والرابح في إجازته: مَن عمرها بالنافع المفيد، فاكتسَب علمًا؛ حَفِظ آية، أو عَلِم حديثًا، أو تعلَّم حِرفة، أو أتقَن مِهنة، أو قرَأ كتبًا نافعة.

 الرابح في إجازته: مَن يجعَل لأقاربه وذَوِي رَحِمه منها نصيبًا.

الرابح في إجازته: من يسهم في مشروع خيرٍ يَخدم مصلحة  المسلمين، ويَرفع راية الدِّين.

الرابح في إجازته: مَن استصحب مراقبة الله، وأخلص النية لله؛ ليجعل من عاداته عبادات، وأسفاره طاعات لله وقربات.

الرابح في إجازته: من يتفقد أبناءه فيحرص على ترشيد أخلاقهم، وتقوية ما قد يكون في تحصيلهم العلمي من ضعف في مواد تحول دون تفوقهم ونجاحهم في دراستهم.

على الأسرة أن تستشعر واجبها تجاه أبنائها في تعويدهم على الاهتمام بالوقت وتنظيمه منذ الصغر، تعودهم على النوم والاستيقاظ في مواعيد محددة, تعودهم الالتزام بما يقطعونه على أنفسهم من مواعيد ومواثيق, تعطيهم القدوة في كيفيه تنظيم الوقت وحسن تدبيره وإدارته.

عباد الله، وليس معنى الحرص على الوقت والحفاظ عليه، أن يحرِم الإنسان نفسَه من رغباتها التي  فطرها الله عليها، وإنما الاستغلال الأمثل للوقت: أن يعطي المسلم نفسَه حظَّها من الرَّاحة، ومن الشَّهوات المباحة بما لا إثم فيه، خاصة بعد فترات من الجد والعناء، فذاك أدْعى لتجدد نشاطِها وعدم فتورها؛ أما الغلو فلا يؤدي إلا الملل والانقطاع عن صالح القول والعمل.

يكفينا قدوة في استثمار أوقاتنا أحسن استثمار، واستغلالها أحسن استغلال، جدًّا واجتهادًا، راحة واستجمامًا، رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي بلغ من نقاء حياته وطهرها وصفائها وخلوصها لعبادة الله، أن أقسم الله بها حيث قال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر: 72].

ألا فاتقوا الله -عباد الله- واعرفوا لأوقاتكم شرفها، ولأعماركم شأنها وخطرها، فاغتنموها بالإيمان والطاعة، ولا تمتهنوها بالغفلة والإضاعة.

فاللهم وفقنا لاغتنام أوقاتنا وأعمارنا فيما تحبه وترضاه، وجنبنا صرفها فيما تبغضه وتأباه. اللهم أصلح لنا ديننا الذي به عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي