ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهـلها...
الحمد لله الذي أضاء القلوب بنور الحق والإيمان، وأرشد العقول إلى الحقيقة بالدليل والبرهان، وحذر من لبس الحق بالباطل وجعله من صفات أهل الطغيان، وأصلي وأسلم على عبده المصطفى العدنان, وعلى آله وصحبه أولي العلم والعرفان، ومن تبعهم بإحسان, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد أنزل الله -سبحانه وتعالى- شريعته غراء واضحة، بيضاء نقية، أوضح فيها الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والخير من الشر، وبيّن فيها كل شيء. ولهذا فإن من أعظم المصائب التي أصبنا بها في هذا الزمان هو اختلاط الحق بالباطل، والتباس الأمور على الناس واشتباهها حتى أصبح كثير منهم لا يميز بين الحق والباطل.
إن الحق أبلج واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، والباطل قبيح مظلم يرى قبحه ويحس بظلمته كل صاحب بصيرة، ولكن كثيراً من الناس اليوم يقول: لا ندري أين الحق فنتبعه؟ وأين الباطل حتى نتجنبه؟ بسبب اللبس العظيم بينهما.
إن الله -سبحانه وتعالى- لا يرضى باللبس بين الحق والباطل ولا يقبله، وإنما يريد الله أن يكون الحق واضحاً لسالكه حتى يتبعه على هدى وبينّه، والباطل واضح بطلانه حتى يهلك متبعه عن بينه، يقول الله في كتابه العظيم: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : 42]، ويقول: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال : 8].
أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام حريصون كل الحرص على التدليس بين الحق والباطل والخلط بينهما؛ حتى تشتد غربة الإسلام، ويتمكنوا من إضلال الأنام، ويتعاونون فيما بينهم في بث الشبهات حول الإسلام، وتشكيك المسلمين في كثير من عقائدهم وثوابتهم حتى يكون الحق باطلاً والباطل حقاً.
يتعاونون في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظاً من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، وبعضهم وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة؟ بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب كما قال الله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام : 112].
إن ربنا -تبارك وتعالى- نهانا عن هذه الصفة المقيتة -صفة لبس الحق بالباطل- فقال: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : 42]. وذكر في آية أخرى أنها صفة من صفات اليهود والنصارى فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران : 71]، وقال عنهم في آية أخرى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : 78].
لقد حذر الله -جل وعلا- من هذا الأمر لأن الحق إذا اختلط بالباطل فإن معنى ذلك أن سبيل المجرمين لن يتميز عن سبيل المؤمنين، وسيبقى الدين مشوهاً عند الناس، ويبقى التلبيس فيه قائماً بسبب اختلاط الحق بالباطل، سواء عن طريق التأويل الفاسد واتباع المتشابه، أو عبر كتمان الحق وإخفائه، أو عبر تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مواقعها.
لقد قص الله -سبحانه وتعالى- علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين ببناء مسجد يظهرون من خلال بنائهم له أنهم يريدون الخير، ولكي يختصروا المسافة على البعيدين من المسجد النبوي حتى تسهل عليهم صلاة الجماعة، ولكن الله -جل وعلا- فضحهم وعرّى باطلهم، وأظهر خبثهم وقصدهم، حتى يكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم، وعبرة في التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع شعارات إسلامية ظاهرها الخير، ومن وراءها الخبث والتحريف وإلباس الباطل بلباس الحق. يقول الله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة : 107].
أظهر الله -جل جلاله- في هذه الآية العظيمة قصدهم الحقيقي من وراء تأسيس هذا المسجد، وأنه لم يبنَ لهدف الخير وتسهيل الصلاة، وإنما بني ليكون مقراً للشر والكيد، يكيدون للإسلام من داخله، وينطلقون من وسطه للإضرار بالمسلمين، والايقاع بينهم، وتفريق كلمتهم، وشق عصاهم، وليكون مأوى لكل محارب لله ورسوله والمؤمنين.
ولذلك هدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأزاله، وأمره ربه -جل وعلا- أن لا يقيم فيه، ولا يصلي داخله، لأنه شر ألبس لباس الخير، وباطل أظهر في صورة الحق، وأمرهم أن يبقوا في مسجدهم الأساسي الذي بني على تقوى الله ورضوانه. (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة : 108].
فعلينا -عباد الله- أن نفهم مكر أعداء الله بنا وكيدهم لنا، وحرصهم على لبس الحق بالباطل ولبس الباطل بالحق، لكي يضيع الدين، ويدرس العلم، وتضيع الثوابت، ويبقى الناس في شك وريب من دينهم. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : 104].
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
أما بعد:
أيها الناس: من صور لبس الحق بالباطل واشتباه الأمور: الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، فبعض الناس يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه، وهذا في الحقيقة مغالط مدلس، بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة، فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها؟!، فلماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا؟!.
ومن صور لبس الحق بالباطل المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح وإظهار سماحة الإسلام أمام أعداء الملة، وقد أوضح العلماء الفرق بين المداراة والمداهنة، وردوا على من يلبس هذه لباس هذه. يقول ابن بطال -رحمه الله-: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك" [فتح الباري، (10/28].
ومن صور لبس الحق بالباطل المنتشرة بين الناس: الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع والاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، وكل هذا باطل وتلبيس وتضليل ردّ الله على أهله فقال: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء : 27].
ومن صور اللبس: التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله، وهذا من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة، وباطنها الكيد والمكر والخداع ، ويحصل من جراء ذلك أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهـلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها.
ومن صور اللبس للحق بالباطل: إعطاء الشرعية للحكام الفجرة الخونة، الذين خانوا الدين والملة، وحرموا الحلال وأحلوا الحرام، ونبذوا شرع الله بالكامل خلفهم ظهريا، ووالوا أعداء الإسلام ولاءً ظاهراً، ثم بعد ذلك نسمع من يلبسهم بلباس ولاة الأمر الشرعيين، ويطبق عليهم الأحاديث التي جاءت بطاعة ولي الأمر وإن جار أو ظلم، والله المستعان. وصدق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ يقول: "وإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" [الترمذي (2155) ].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، ولبس الباطل ثوب الحق، وأتهم الحق بأنه باطل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي