أعني على نفسك بكثرة السجود

خالد القرعاوي
عناصر الخطبة
  1. همة عالية وطموح كبير .
  2. سبل مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة .
  3. السُّجودُ من أفضلِ الحَسَنَاتِ وأجلِّ القُرُبَاتِ .
  4. فضائل السجود في القرآن والسنة .
  5. سُجودَنا للهِ عنوانُ الرِّفعَةِ والإِبَاءِ .
  6. مَنظَر السَّاجِدِينَ يَغيظُ الأعداء .
  7. أقربَ ما يكونُ العَبدُ من رَبِّه وهو سَاجِدٌ .
  8. أحكام السجود وسننه وآدابه .

اقتباس

إذا أثقلتْكَ ذُنُوبُكَ وأحاطت بك خطاياكَ وأقعدَتكَ همومُكَ فعليكَ بكثرةِ السُّجودِ للهِ تعالى، فَعَن ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قالَ: سألتُ رَسُولَ اللهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً». وصدَقَ اللهُ العظيمُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله شرحَ صدورَنا بالإسلامِ، وهدى بصائِرَنا بالقرآنِ, جعلَ الصلاةَ راحةَ قلوبِ الأخيارِ, نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، ذُو العزَّةِ والقهرِ والاقتدارِ، ونشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، المصطفى المُختارُ, صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه الأطهارِ.

أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ اتَّقوا اللهَ رَبَّكم, وأدُّوا فَرضَكم تَفُوزوا بِمغْفِرِةِ رَبِّكم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 217- 219].

أيُّها المُؤمِنُونَ: كُلٌّ منَّا يَرغَبُ بِمُرافَقَةِ الْحبِيبِ في الجنَّة؟! أتُرِيدُ الطَّريقَ إلى ذلِكَ؟ استَمع إلى رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِىِّ -رضي الله عنه- حيثُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لي: «سَلْ».فقلتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ». قُلتُ: هُوَ ذَاكَ يا رسولَ الله. قَالَ: «فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.

الله أكبرُ عباد الله: إنِّها الْهِمَّةُ العَالِيةُ, والطُّمُوحُ الكبيرُ! بِمُرافَقَةِ الحبيبِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ! فَلِمَ خصَّ النبيُّ السُّجودَ؟ وما السِّرُّ الأعظَمُ فيه من بين سائِرِ العباداتِ؟ وكيفَ تَسجدُ الْمَخلُوقاتُ كلُّها للهِ تعالى؟

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس) [الحج: 18].

قال ابنُ كثيٍر -رحمهُ الله-: "أيْ: أنَّ الْملائِكةَ في أقطارِ السَّماواتِ, والحيواناتِ في جميعِ الجهات من الإنسِ والجنِّ والدوابِّ والطَّيرِ كُلُّها تَسجدُ للهِ -تعالى-. وإنِّما خصَّ الشَّمسَ والقمرَ والنُّجومَ بالذِّكر لأنَّها عُبِدتْ من دونِ الله، فبيَّن أنَّها هيَ تَسجُدُ لِخَالقِها وأنَّها مَربُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ للهِ, وَكَثِيرٌ منَ النَّاسِ يَسجُدُ للهِ طائِعَاً مُختارَاً مُتعبِّدَاً للهِ بذلك, وكثيرٌ ممنْ امتنعَ واستكبرَ عن السُّجودِ لله حقَّ عليهِ العذابُ".

وفي الحديثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ"، وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَقَرَأَ النَّبِيُّ سَجْدَةً، ثُمَّ سَجَدَ»، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ».

إخوةَ الإيمان: والسُّجودُ من أفضلِ الحَسَنَاتِ وأجلِّ القُرُبَاتِ؛ لأنَّهُ يمثِّلُ حَالةَ خُشُوعٍ وخُضُوعٍ وعُبودِيَّةٍ لله في أكملِ صورِهَا، ولهذا صار لِلمؤمنينَ سِيمَا فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ, ومعناها كما قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما-: السَّمتُ الحسنُ، وقالَ مجاهدٌ –رحمه الله-: يعني الخشوعُ والتَّواضعُ.          

فلنأخذ يا رعَاكُمُ اللهُ منْ كتابِ اللهِ ومن سُنَّةِ المصطَفَى ما يُعِيْدُ لنا تَعظِيمَ السُّجُودِ في قُلُوبِنا، وليَظهَرَ ذالِكَ على جَوَارِحِنا. فَقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى أنَّ السُّجُودَ صِفَةٌ مُلازِمَةٌ للأَنبِياءِ والهُداةِ والمُصلِحينَ: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58]. بَينَمَا مَنْ خَلَفُوهُمْ في العَمَلِ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ! فَمَا أَشَّدَ المُفَارَقَةَ، ومَا أَبعدَ الشَّبَهَ بينهم!         

 ومِن مَزَايا مُحمَّدٍ وأصحابِهِ أنَّكَ: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]، وفي الحديثِ عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ : «إنِّي أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعونَ، إنَّ السَّمَاءَ أطَّتْ -أي: ثَقُلَتْ مِنْ كَثْرَةِ الملائكةِ- وحُقَّ لها أنْ تئِطَّ؛ ما فِيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا وَمَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجدَاً للهِ. واللهِ، لو تعلمونَ ما أعْلمُ لضحِكْتُم قليلا ولبكَيْتُمْ كثيرًا، وما تلذذتُم بالنِّسَاءِ على الفُرُشاتِ».       

  

أيُّها المؤمنُ: إذا أثقلتْكَ ذُنُوبُكَ وأحاطت بك خطاياكَ وأقعدَتكَ همومُكَ فعليكَ بكثرةِ السُّجودِ للهِ تعالى، فَعَن ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قالَ: سألتُ رَسُولَ اللهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»، وصدَقَ اللهُ العظيمُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 97- 99].

ليس ذلك فحسبُ بل إنَّ أهلَ السَّجُودِ وإنْ أُدخلوا النَّارَ فلا تَمَسُّ مَواضعَ سُجُودِهم, في البخاريِّ أنَّ رسولَ الله قال: «إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ المَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ، مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ».

قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: "والسُّجودُ سِرُّ الصلاةِ ورُكنُها الأعظمُ، وخاتمةُ الرَّكعةِ وما قبلَه كالمقدِّماتِ له"، فَشُرِعَ فيهِ سبحانَ رَبِّي الأَعلى ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ويزيدُ سُبحَانَكَ الَّلهمَّ ربَّنا وبحمدك اللهم اغفر لي. أو سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكةِ والرُّوح.

أقول ما سمعتم، وأَستَغفِرُ اللهَ فاستغفروه، إنَّه هوَ الغَفورُ الرَّحيم.            

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله المطَّلعِ على أسرارِ القُلوبِ, نَشهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لهُ علاَّمُ الغُيُوبِ, ونشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ الله ورَسُولُه قُرَّةُ عَينِهِ في الصَّلاةِ. صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وبارَكَ عليهِ، وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يومِ المآبِ.

أمَّا بعدُ: فيا عبدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ تعالى، وكُن من السَّاجِدِينَ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 217- 219]، واحذَر طَريقَ الهَالِكينَ، الذينَ إذا (قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) [الفرقان: 60]، فهؤلاءِ (لَا يُؤمِنُونَ * وإذا قُرئَ عليهمُ القُرآنُ لَا يَسجُدُونَ) [الانشقاق: 20- 21]، وكُن من الفَائِزينَ المُفلِحينَ, الطَّائِعِينَ لأَمْرِ القائِلِ: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم: 62].        

ثُمَّ اعلموا أيها المُؤمنونَ: أنَّ سُجودَنا للهِ عنوانُ الرِّفعَةِ والإِبَاءِ! فالسَّاجدُ يَضَعُ أشرفَ شيءٍ منه وأعلاه يَضَعُهُ أَسفَلَهُ خُضُوعَاً بين يَدي رَبِّه الأَعلى, وَتَذَلُّلاً لِعَظَمَةِ الْمَولى! ولهذا يَغتَاظُ الكُفَّارُ والمُنَافقونَ من السَّاجِدينَ للهِ تعالى! ألا ترونَ إلى سَحَرَةِ فِرعونَ أوَّلَ ما تَبَيَّنَ لَهم الحَقُّ أَلْقَوا بِأنفُسِهم سُجَّدًا وقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ, رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ, فَغَضِبَ فِرعونُ مِن سُجُودِهم للهِ وَتَوَعَّدَهُم بالقَتْلِ والصَّلبِ والعَذَابِ الأليم! ولكنَّ الإيمانَ قَد رَسَخَ في قُلُوبِهم، وَذَلَّت جِبَاهُهم لِرَبِّ العَالَمينَ فَتَثَبَّتهم الرَّبُّ على الحَقِّ المُبِينِ.

حتى كُفَّارُ قُريشٍ غاظَهم وأحرَقَ قُلُوبَهم سُجُودُ النَّبيِّ للهِ رَبِّ العالَمينَ بينما هم يَسجُدُونَ لِلحجارَةِ والأصنامِ والطِّينِ! فَشَكَوا ذالِكَ لأبي جَهلٍ فقالَ: وهَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَوا نَعَمْ. فَقَالَ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ!

أرأيتم يا مُؤُمنونَ كيفَ أنَّ مَنظَرَ السَّاجِدِينَ يَغيظُ الأعداءَ! فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّى لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمَّا اقتَرَبَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَاتَّقَى بِيَدَيْهِ, فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟! فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَوْ دَنَا مِنِّى لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضوًا».

اللهُ أكبرُ عبادَ اللهِ: وَلِهذا صَارَ العَبدُ أقربَ ما يكونُ من رَبِّه وهو سَاجِدٌ! فهو يقولُ: سبحانَ ربي الأعلى، فذِكْرُ علوِّ اللهِ هنا أنسبُ أن يُثنيَ على الله بعلوِّ القهر وعلوِّ القَدْر, وعلوِّ المكانِ وعلوِّ الذَّاتِ والصِّفَاتِ، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 18].

فهنيئاً لك يا مؤمنُ: يَومَ أنْ سَجَدْت لله وحده. بَينَما النَّصارى يَسجُدُونَ لِلصُّلبَانِ, وآخرونَ لِلنِّيرانِ, وقَومٌ للأَبْقَارِ والأَحجَارِ والأشجَارِ، وأنتَ أكرمَكَ مَولاَكَ بأنْ سَجَدَّتَّ للرَّحِيمِ الرَّحمنِ!

أَيُّها المُؤمنُ: ها أنتَ تَعَرَّفتَ على حِكم السُّجُودِ, فَتَعَرَّف على أحكامِهِ. وَحَاسِب نَفسَكَ, وَتَفَكَّر فيه حتى يَكُونَ سُجُودُكَ عِبادَةَ رُوحٍ وَقَلْبٍ، لا عَمَلَ عَادَةٍ وَتَقلِيدٍ !

فمن الأحكامِ: أنَّ الواجِبَ أنْ تسجُدَ على الأعضَاءِ السَّبعةِ كما أُمِرَ النَّبيُّ بذلك حين قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَلاَ الشَّعْرَ».

ومن كمالِ السُّجودِ وواجبَاتِهِ أنْ يَأخُذَ كلُّ عُضوٍ من البَدَنِ حَظَّه من الْخُضُوعِ والطُّمَأنِينَةِ، وأنْ يَرفَعَ المُصَلِّيَ بَطْنَهُ عن فَخِذَيهِ وَفَخِذَيهِ عن سَاقَيهِ، ويُجَافِي ويُبعِدُ عَضُدَيهِ عن جَنْبَيهِ، ولا يَفْرِشْهُمَا على الأرض. ويجعلُ أصابعَ اليَدَينِ والقَدَمَينِ نَحوَ القِبلَةِ, ولا يَرفَعُ عُضوَاً مِنْ أعضَائِهِ حَالَ سُجودِهِ، لا يَدَاً، ولا رِجْلاً، ولا أَنْفَاً، ولا جَبهَةً، كمن يضعُ رِجْلا على رِجْلٍ، فإن فَعَلَ ذلك في جميعِ حالِ سُجُودِهِ فسُجُودَهُ لا يصحُّ منهُ؛ لأنَّه نَقَصَ عُضوٌ من الأَعضَاءِ لَم يَسجُدْ عَليهِ!

ومن الأحكام: تحريمُ قراءةِ القرآنِ حالَ الرُّكُوعِ أو السُّجُودِ لقولِ النَّبيِّ : "إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا»، ويَحرمُ بَسطُ وَفَرْشُ الذِّراعينِ على الأرض حالَ السُّجودِ! لِقَول رَسُولِ اللَّهِ : «اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ».

 يا مؤمنونَ: كَثرَةُ السُّجودِ للهِ مِفتَاحُ كَنْزٍ عَظِيمٍ، وسَبَبٌ لِمُرَافَقَةِ الْحَبيب في الْجَنَّةِ، فلا تُحْرَمُوه ولا تُضيِّعوهُ..

كثرةُ السُّجودِ للهِ سِلاحٌ في الدُّنيا وَزَادٌ لِلآخِرَةِ..

إذا حَزَبَتكَ الأمورُ فافْزَعْ إلى السُّجودِ..

إذا بُشِّرتَ بِخيرٍ فاسجُدْ للهِ تعالى فقد «كان رَسُولُ اللهِ : إذا بُشِّرَ بِأَمْرٍ يَسُرُّهُ سَجَدَ لِلهِ».

وإذا حلَّت بكَ الْمَنِيَّةُ وأنتَ من السَّاجِدِينَ اطمَأَنَّ قَلبُكَ وَعَلاكَ السُّرورُ، وَرُجِيَ لَكَ خيرٌ كثيرٌ! «وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ».

فاللهم اجعلنا مُقيمي الصَّلاةِ ومن ذُرِّيَاتِنا رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءْ, اللهم أصلح القلوبَ والأعمالَ, أَصْلِح مَا ظَهَر منا وَمَا بَطَنَ، واجعلنَا مِنْ عِبادِكَ الْمُخلِصِينَ, والْمُخلَصِينَ, اللهم ثَبِّتنَا على دِينِكَ وصِرَاطِكَ الْمُستَقِيمِ, اللهم أصلح حَالَنا وأَحسِنْ مَآلَنا، وارزُقنا قُلُوباً خَاشِعَةً، وألسُنَاً ذَاكِرَةً, وَعَمَلاً مُتقبَّلاً، اللهمَّ إنِّا نَعُوذُ بِكَ مِن الرَّيَاءِ والنِّفَاقِ وسيئِ الأخلاقِ. واجعلنا لِنِعَمِكَ من الشَّاكِرينَ!     

رَبَّنا اغفر لَنا ذُنُوبَنا وإسرَافَنا في أمرنا وثَبِّت أقدامَنا وانصرنا على القومِ الكافِرِينَ. اللهمَّ أصلحْ وُلاتَنَا وهيئ لِهُم بِطَانةً صَالحةً نَاصِحَةً واجعلهم رَحمةً على رعاياهم يا ربَّ العالمينَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي