التسليم والانقياد لله رب العباد

عبد الرحمن الجليِّل
عناصر الخطبة
  1. تسليم المسلم لربه وانقياده له .
  2. استجابة إبراهيم -عليه السلام- لأمر ربه وانقياده له .
  3. استسلام إسماعيل -عليه السلام- لطلب إبراهيم وإذعانه له .
  4. تنفيذ إبراهيم -عليه السلام- لأمر الله .
  5. استسلام إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام- لله .
  6. ابتلاء الله لعباده بأوامره .
  7. عدم محبة الله المشقة لعباده .

اقتباس

أيها المسلمون: هذا إبراهيم -عليه السلام-، الشيخ الكبير المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، ولطالما دعا الله وألح عليه أن يهبه إياه، فلما جاءه بعد سنين، جاء غلامًا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد؛ حتى يرى في منامه: أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا صنع؟! إنه لا...

الخطبة الأولى:

عباد الله: إن المسلم الحق، هو: الذي يفوض الأمر إلى الله، ويسلّم الأمر إليه: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

فهو الذي يعلم ما يضرّك وما ينفعك، وما يسعدك وما يشقيك جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهل تنازع الله في أمره أو تعترض عليه في قضائه وقدره؟!

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له *** الأرض تَحمل صخرًا ثقالاً

دحاها فلما استوت شدّها *** جميعًا وأرسى عليها الْجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الْمزن تَحمل عذبًا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة *** أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الريح تصرف حالا فحالا

عباد الله: لقد ضرب لنا القرآن مثلاً عظيما في التسليم لأمر الله، وتفويض الأمر إليه دون اعتراض، أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الطمأنينة والرضا واليقين بموعود الله!.

ولنذكر مثلاً واحدا فيه القدوة والعبرة والأسوة، إنه أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-.

أيها المسلمون: لقد ترك إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ولده إسماعيل في مكة، ولكنه لم ينسه ولم يغفل عنه، بل كان يزوره من حين إلى آخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق؛ لأنها بمثابة الوحي من الله، لذلك عزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله، وهذا ما يقصه الله علينا في كتابه: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى * قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ) [الصافات: 99-112].

يا لله ما أعظمه من إيمان! ويا لله ما أعظمها من طاعة وتسليم!.

وأمرت بذبْحك يا ولدي *** فانظر في الأمر واعقباه

ويُجيب العبد بلا فزع *** افعل ما تؤمر أبتاه

لن أعصي لإلَهي أمرا *** من يعصي يوماً مولاه

واستلّ الوالد سكّينا *** واستسلم ابن لرداه

ألقاه برفق لِجبين *** كي لا تتلاقى عيناه

أرأيتم قلباً أبوياً *** يتلقى أمراً يأباه

أرأيتم ابناً يتلقى *** أمراً بالذبح ويرضاه

أيها المسلمون: هذا إبراهيم -عليه السلام-، الشيخ الكبير المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، ولطالما دعا الله وألح عليه أن يهبه إياه، فلما جاءه بعد سنين، جاء غلامًا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به وصباه يتفتح ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا صنع؟

إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.

نعم، إنها إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يناقش، ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.

كلا، إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان!.

فيا لله العجب ما عظمه من تسليم وانقياد: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].

فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن لأمر ربه الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه.

وفي الوقت ذاته كلمات المؤمن الذي لا يهوله الأمر، فيؤديه في اندفاع وعجلة؛ ليخلص منه، وينتهي ويستريح من ثقله على أعصابه.

والأمر شاق -إي وربي- إنه لشاقّ، وما في ذلك شكّ، فهو لا يطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب منه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب منه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟

يتولى ذبحه، وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يتروّى في أمره، وأن يرى فيه رأيه، إنه لا يأخذ ابنه على غرة؛ لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد، فليكن ما يريد، استجابة وما أعظمها من استجابة!

وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا؛ لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوّق حلاوة التسليم، إنه يحب لابنه أن يتذوّق لذة التطوع التي ذاقها، وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى، فماذا يكون من أمر الغلام الذي يعرض عليه الذبح تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه أبوه: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

إنه يتلقى الأمر، لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا ويقين: (يَا أَبَتِ) في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبَه ومودته مع أبيه: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصافات: 102].

فهو يحسّ ما أحسه من قبل قلب أبيه، يحس أن الرؤيا إشارة، وأن الإشارة أمر، وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحّل ولا ارتياب، ثم هو الأدب مع الله ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].

ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجمًا ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه وأصبره على ما يراد به: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].

يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان! ويا لنبل الطاعة! ويا لعظمة التسليم!

أقول قولي هذا...

الخطبة الثانية:

عباد الله: وينتقل بنا السياق من وراء الحوار والكلام إلى الساعة الحاسمة، إلى تنفيذ أمر الله والذبح: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103].

ومرة أخرى -عباد الله-: يرتفع نبل الطاعة وعظمة الإيمان وطمأنينة الرضا وراء كلّ ما تعارف عليه بنو الإنسان، إنه يمضي فيكب ابنه على جبينه؛ استعدادًا لنحره، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى نهايته، لقد أسلما، فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضا وتسليم وتنفيذ.

وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم، إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، قد يندفع المجاهد في الميدان يقتل ويقتل، ويندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- شيء آخر، ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص!.

إنما هو الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون، لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل.

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- قد أديا، كان قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما، كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح والجسد الذبيح.

والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 104-107].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي