والمأذون فيه شرعًا في هذا الباب هو: التبرك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- في حياته، وقد ثبتت بذلك الروايات الكثيرة أن الصحابة تبركوا بشعره وببصاقه، وسؤره ووَضوئه وعرقه، وما استعمله من آنية أو ملابس؛ لما جعل الله فيه من البركة مما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، مع الاعتقاد أن واهب هذا الخير ومعطيه، هو رب السماوات والأرض، وأن هذا لا ينفع إلا المؤمنين بالله المتبعين لرسوله.
أيها الإخوة: إن من القواعد المقررة في الشريعة، والتي ينبغي للمسلم معرفتها: أن أي قربة أو عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسين:
أولهما: الإخلاص لله -تعالى-.
والثاني: المتابعة للنبي-صلى الله عليه وسلم.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
وثمة قاعدة أخرى، وهي: أن العبادات الأصل فيها المنع، حتى تثبت مشروعيتها بالدليل الصحيح؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"[رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
إذا تقررت هاتان القاعدتان واتضحتا، فنقول: إن من المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس مسألةَ التبرك بالأشخاص، أو الجمادات، أو الأمكنة، أو الأزمنة.
وقد ترتب على ذلك بدع ومحدثات ما أنزل الله بها من سلطان، بل لقد ترسخت وتجذرت عندهم، حتى غدت من الدين الذي يدينون لله به، وذلك لعمرو الله من تلاعب الشيطان بهم، وإيقاعه إياهم في حبائله وشراكه، يقول تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103- 104].
أيها الإخوة: إن التبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا بما ورد في الشرع الإذن فيه!,
والمأذون فيه شرعًا في هذا الباب هو: التبرك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- في حياته، وقد ثبتت بذلك الروايات الكثيرة أن الصحابة تبركوا بشعره وببصاقه، وسؤره ووَضوئه وعرقه، وما استعمله من آنية أو ملابس؛ لما جعل الله فيه من البركة مما يستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، مع الاعتقاد أن واهب هذا الخير ومعطيه، هو رب السماوات والأرض، وأن هذا لا ينفع إلا المؤمنين بالله المتبعين لرسوله.
وهذا النوع من التبرك قد انتهى بوفاته، أو كاد حيث بقي شيءٌ من ثيابه وشعره عند بعض الصحابة والتابعين فترة من الزمن، ثم كما هو معلوم مرت سنوات وقرون، وجرى ما جرى فيها من تغير الأحوال وتبدل الأمور، فأصبح من المستحيل إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين!.
ناهيك عن فشو الكذب في نسبة الأحاديث إليه عند كثير من الناس، فضلاً عن نسبة الآثار والبقايا.
وثمة أمر مهم متعلق بما سبق، فقد يقال: هل يقاس غيره من الصالحين عليه في التبرك بذاته أو آثاره؟
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- خاصة لما جعل الله في جسده وما مسه من البركة.
وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين:
1- لأن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك مع غير النبي –صلى الله عليه وسلم- ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
2- لسد ذريعة الشرك؛ لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، فوجب المنع من ذلك" ا. هـ.
لكن يجوز التبرك بالصالحين بمجالستهم حيث تحصل فيه أنواع من البركة؛ كالانتفاع بعلمهم، والاستماع إلى وعظهم ونصحهم، والانتفاع بدعائهم، وتحصيل فضل مجالس الذكر لمن جالسهم، وإن لم يكن منهم، وهذا من أعظم ما ينبغي الحرص عليه من البركة.
أما التبرك بالأماكن التي مشى فيها النبي –صلى الله عليه وسلم- أو جلس فيها أو أمسكها بيده، أو صلى فيها اتفاقًا، أو تحنث فيها قبل البعثة فلم يثبت مشروعية التبرك بها، أو الصلاة فيها قصدًا أو زيارتها، لا في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد خلفائه الراشدين، وبعد نزول الوحي على النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يصعد إلى غار حراء، ولم يطلب من أصحابه فعل ذلك.
وقد جاء إلى مكة فاتحًا ولم يقل لأصحابه: انظروا إلى المكان الذي كنت أتحنث فيه، أو اذهبوا إلى غار ثور لتروا أين اختبأت ليلة الهجرة!.
ولم يفعل ذلك الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، بل لقد قطع عمر بن الخطاب الشجرة التي في الحديبية التي تمت البيعة تحتها حينما رأى الناس يتبركون بها، ونهى الناس عن تحري الصلاة في مكان صلى به النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو عائد إلى المدينة، وقال: "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعًا، من أدركته الصلاة في هذا المسجد -أي: المكان الذي صلى فيه النبي- فليصل، ومن لا فليمض ولا يعتمدها".
أيها الإخوة: ومن الأخطاء الواقعة في هذا الباب: التبرك بقبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وشد الرحال إليه، وكم تحصل من أمور منكرة كمن يطلب الدعاء، أو الشفاعة منه، أو يؤدي بعض العبادات عند قبره؛ كالدعاء وقراءة القرآن، أو يتمسح بالقبر أو يقبله، أو يتعمد استقباله في الصلاة، ونحو ذلك.
قال النووي -رحمه الله-: "يكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يُبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يُغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك؛ فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم.
ولقد أحسن السيد الجليل الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قوله: "اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين".
ومن خطر بباله: أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟!" ا. هـ.
وفي النهي عن هذه الأمور وما شابهها وردت أحاديث كثيرة؛ منها:
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
وعن عطاء بن يسار -رضي الله عنه-: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: "لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشي أو خُشي أن يتخذ مسجدًا".
ومن التبرك الممنوع: التبرك بليلة مولد الرسول –صلى الله عليه وسلم- حيث يعتقد فيها طائفة من الناس البركة، بل بلغ الأمر بأحدهم أن قال: "ما من مسلم قرئ في بيته مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا دفع الله عنه القحط والبلاء والحزن والغرق والآفات، والعاهات والبليات والنكبات، والبغضاء والحسد واللصوص، فإذا مات هون الله عليه جواب منكر ونكير وكان في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وذكر هذا الهراء كاف في بيان بطلانه، ناهيك عما يحصل من أهل البدع وأرباب الطرق الصوفية من التبرك بليلة الإسراء والمعراج، وذكرى الهجرة وغير ذلك، وكل ذلك من التبرك الممنوع ولا شك.
أيها الإخوة: لقد انصرف كثير من الناس إلى التبرك الممنوع، وتركوا أبوابًا من التبرك المشروع، والتي منها التبرك بذكر الله -تعالى-؛ كالتسمية في ابتداء الأقوال والأفعال كما ورد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غير ذلك من أنواع الذكر الأخرى المقيدة والمطلقة المبثوثة في كتب السنة والصحاح، وهي من أعظم ما ترجى بركته، ويحظى قائلها بغفران الذنوب، ودخول الجنة، وتفريج الكربات، وكثرة الرزق والذرية، والشفاء من الأسقام والأمراض، إلى غير ذلك من البركات لمن وُفق للقيام بذكر الله على الوجه الشرعي الثابت.
فما كان منه مطلقًا في كل وقت فنقوله مطلقًا في أي وقت، وما كان منه مخصوصًا بعدد معين أو مكان معين أو زمان معين، فيبقى كما قيد دون زيادة ولا نقص.
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا للطاعة والاتباع، ويجنبنا المعصية والابتداع.
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن التبرك بالأماكن التي ثبتت بركتها بالقرآن والسنة لا يكون إلا بالكيفية الثابتة الصحيحة، فثمة أماكن مباركة؛ كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، ثم سائر المساجد المبنية بما يوافق الشرع.
ولا يكون التبرك بها إلا بما هو مشروع وثابت، فيكون بالصلاة فيها والطواف بالكعبة، وحضور مجالس الذكر فيها، وحفظ القرآن ومدارسته، وطلب العلم الشرعي، وليس بالتمسح بالأحجار، أو التراب، أو تقبيل الشبابيك والأبواب.
والتبرك بالكعبة يكون بالطواف حولها، والاتجاه إليها في الصلاة والدعاء، وليس بالتمسح بثوبها، أو بشيء منها.
ولا يستلم غير الركنين اليمانيين؛ كما ثبت في السنة الصحيحة.
ومن البقاع المباركة: مكة والمدينة والشام، وتحصل البركة لمن سكنها إذا قام بحقوقها ورعاية حدود الله وشرعه في تعامله مع ساكنيها.
أما من تعدى وطلب التبرك بها كأن يتمسح بترابها، وأحجارها وأشجارها، فإنه مأزور غير مأجور؛ لأنه سلك في التبرك مسلكًا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء الراشدون ولا الصحابة -رضي الله عنهم-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة، ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه؛ غير الحجر الأسود والركن اليماني".
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "التمسح بالمقام أو بجدران الكعبة، أو بالكسوة كل هذا أمر لا يجوز ولا أصل له في الشريعة ولم يفعله النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما قبل الحجر الأسود واستلمه واستلم جدران الكعبة من الداخل لما دخل الكعبة وألصق صدره وذراعيه وخده في جدارها، وكبر في نواحيها ودعا.
أما في الخارج فلم يفعل شيئًا من ذلك فيما ثبت عنه...".
ثم قال: "أما كونه يتعلق بكسوة الكعبة أو بجدرانها أو يلتصق بها، فهذا شيء لا أصل له ولا ينبغي فعله لعدم نقله عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا عن الصحابة -رضي الله عنهم-، وكذلك التمسح بمقام إبراهيم أو تقبيله؛ كل هذا لا أصل له، ولا يجوز فعله؛ لأنه من البدع التي أحدثها الناس.
أما سؤال الكعبة، أو دعاؤها، أو طلب البركة منها؛ فهذا لا يجوز، وهو دعاء لغير الله، فالذي يطلب من الكعبة أن تشفي مريضه أو يتمسح بالمقام يرجو الشفاء منه فهذا لا يجوز، بل هو شرك -نسأل الله السلامة-" انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
أيها الإخوة: وثمة أزمنة مباركة خصها الله -تعالى- بزيادة فضل وبركة، فمن تحرى الخير فيها، وقام بما شرع له فيها؛ من عبادة ناله الخير والبركات العظيمة، ومنها: شهر رمضان، وليلة القدر، والثلث الأخير من الليل، ويوم الجمعة، ويوما الاثنين والخميس، والأشهر الحرم، وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة.
وأما من خصص شيئًا من الأزمنة بزيادة عبادة أو قربة بدون دليل شرعي فهو مبتدع ضال -عياذًا بالله-.
أيها الإخوة: أختم خطبتي بذكر بعض الأطعمة المباركة؛ ومنها:
زيت الزيتون: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة".
واللبن: فإنه طعام وشراب مبارك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن".
وكذلك: تمرة عجوة المدينة؛ صح في الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر".
وكذلك: العسل شراب فيه شفاء للناس، وماء زمزم ماء مبارك، وطعام طعم، وشفاء سقم، وهو لما شرب له، وفي الحديث: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم".
وماء المطر ماء مبارك، قال الله -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) [ق: 9].
وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- والصحابة يتعرضون بأجسامهم وثيابهم وآنيتهم للمطر؛ لأنه ماء مبارك حديث عهد بربه.
أيها الإخوة: وحتى يحصل المسلم على البركة من هذه المشروبات والمأكولات عليه التقيد بما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته قولا وعملاً، وأن يكون معتقدًا أن كل ذلك بفضل الله ورحمته، فيحمده تعالى على ما أنعم به عليه، ويسأله أن يبارك فيه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي