إن ثقافة المقاومة هي المحرّك الأساس في وعي الجماهير ونبضها، وارتقاء شعوبها بالمسئولية، وقدرتها على الفعل والمبادرة، القادر على عزل الخطاب الانهزامي الذي يتناقض مع وعي الأمة وضميرها وروحها، ويراهن على هزيمتها؛ فهي تعزّز فكرة النظام والوجود والحياة والبقاء والاستمرار، وتتحدى أجواء الانعزال والصمت والتخاذل.
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه الإنسان وحيثما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وخلفائه الراشدين الهادين المهدين من بعده سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة الأحبة: لا شك أن ثقافة المقاومة قضية جوهرية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهي قضية كل مواطن حر على أرض العروبة والإسلام، يأبى أن تغتصب أرضه وحقوقه وتُدنَّس مقدساته كما يأبى الظلم والضيم والاضطهاد لأمته بكل أشكال ذلك.
ويأبى أن تستباح دماء أهله وبني جلدته، وتُدمر بيوتهم، ويُقتل شبابهم ونساؤهم، وتُشرد أطفالهم، نعم ويحاصرون في ديارهم من كل الجوانب ومن كل النواحي وتُقطع عنهم أبسط حقوقهم الإنسانية في الغذاء والدواء والمأوى والكساء.
ذلك أن ثقافة المقاومة هي المحرّك الأساس في وعي الجماهير ونبضها، وارتقاء شعوبها بالمسئولية، وقدرتها على الفعل والمبادرة، القادر على عزل الخطاب الانهزامي الذي يتناقض مع وعي الأمة وضميرها وروحها، ويراهن على هزيمتها؛ فهي تعزّز فكرة النظام والوجود والحياة والبقاء والاستمرار، وتتحدى أجواء الانعزال والصمت والتخاذل.
فلا بد أن يتكون لدى كل إنسان إحساس بالوعي وروح شامخة بثقافة المقاومة بمعناها الشمولي، فليس من إنسان إلا وله دور في الدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته حتى يتخذ مكانًا لائقًا له بين الأمم.
ولا يمكن أن نعترف بمثقف إلا إذا أضاف إلى ثقافته واهتماماته المعرفة الكاملة بقضايا أمته وبالأبعاد السياسية والاجتماعية، وبالأحداث التي تحيطها والتحديات التي تواجهها وإلا عُدَّ مِن مدّعي الثقافة.
والمثقف المقاوم هو الذي يحاول جاهدًا تجديد وتحديث آليات ثقافة المقاومة بفروعها المتعددة، وبأشكالها المتنوعة، ومنح المقاومة عمقًا ومعنى عالميًّا وإنسانيًّا، مستندًا إلى القوانين الدولية التي تبيح له حق المقاومة بأشكالها كافة.
إن المقاومة ليست فقط بالسلاح وحده، بل هي أيضًا في الفكر والثقافة لتأكد وحدة المفهوم، وتنوع أساليبه وتكامله في الممارسة العملية، سواء بالسلاح أو بالكلمة.
ولتعزيز فكرة المقاومة وتأصيلها وتعميقها وتطويرها لا بد من توسيع قاعدتها شعبيًّا، وعلى مستوى النخب الثقافية والسياسية في مجتمعنا.
وإذا لم نتسلح بثقافة المقاومة سنفقد مقومات وجودنا، ذلك أن المقاومة بالفكر وبالثقافة والمقاومة بالسلاح والعتاد ضرورتان متلازمتان ومتكاملتان لا تغني إحداهما عن الأخرى، فالأولى بذرة للثانية، والثانية ثمرة للأولى، وأحيانًا كثيرة تكون أولهما حصانة لثانيتهما ومجالها الحيوي للتحقيق الانتصار.
إن العدو لن يهبك حقوقك طواعية، لا بد للحق من قوة تعيده إلى أصحابه، ولا بد لاسترداده من جهد وجهاد وبذل وتضحيات.
فالمقاومة هي أساس لاسترداد الحقوق، فإن قصرت بالإعداد لذلك ستظل الأمة مسلوبة الحقوق إلى أن تستعيد عافيتها، وتأخذ بأسباب النصر، والأمة التي تتقاعس عن واجباتها ستظل في ذيل الأمم وفي آخر الركب.
والمتدبر للقرآن الكريم يجد صورة المقاومة والتضحية واضحة بين ثنايا مفرداته من ذلك قول الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج:60].
هذا إيذان بأن من رد عدوان المعتدي وقاوم الظلم والظالمين جديرٌ بأن يمنحه الله النصر، وأن الله -تبارك وتعالى- مع هؤلاء المجاهدين في صبرهم وردهم لعدوان الظالمين، وهم -أيها الإخوة- هم محل إكرام الله وعفوه ومغفرته.
واستخدام القرآن الكريم لهذه المفردة اللغوية (عَاقَبَ) يثبت نمطًا مهمًّا من أنماط ثقافة المقاومة، وما أصدق هذه الآية الكريمة في أبطال المقاومة في غزة؛ إذ نصرهم الله -تبارك وتعالى- وقد عاقبوا بمثل ما عوقبوا به.
وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
وهنا استخدم القرآن الكريم لفظة (الدفع) وهي من مفردات المقاومة، إن الدفع يكون بين ظالم معتدٍ وبين مظلوم مقاوم لاسترداد حقه السليب، وهذا الدفع هو صمام الأمان للأمة جميعًا لما فيه من جهد ومشقة وتضحيات.
فعندما تتعرض الأمم للعدوان والاحتلال وللظلم وللقهر، نعم حينما يتهدد الأمة ذلك ويتهدد وجودها الإنساني والحضاري، وتستلب حقوقها ومقومات حياتها، وتصبح كرامتها في خطر حينئذ تحتاج أن تنزع عنها هذا العدوان وتدفع عنها هذا الظلم وأن تعاقب بمثل ما عُوقبت به، وأن تتصدى للتحديات التي تهدد وجودها.
إن تعزيز ثقافة المقاومة من أعظم الضرورات، ويبنى على الإيمان بالحق وبالعدل، وإن الظلم لا يدوم أبداً، كما يبدأ من تنوع مخزون الأمة الحضاري والثقافي وتاريخها الحافل بالصمود وبالتضحيات، وبإرادتها التي لا يمكن أن تنكسر رغم الدمار والقتل والخراب واستباحة الأوطان.
فثقافة المقاومة هي حاجة استنهاض إنساني تتوجه ضد كل اعتداء، وعلى الإنسانية جميعًا وضد الاحتلال والاستيطان وضد أنظمة التمييز أو الفصل العنصري، ضد التوغل والاستغلال الاقتصادي، ضد اللأخلاقية والإباحية المهينة لكرامة الإنسان، ضد اضطهاد الأطفال والنساء وسائر الدعاة وحرمانهم من الحياة الكريمة.
وما مقاومة الاحتلال إلا وجه من وجوه ثقافة المقاومة، وإن لثقافة المقاومة مجموعة من الصور المجالات للتعبير عنها نجدها في فنون الأدب والشعر الذي يستوجب الهمم ويقوي العزائم.
ولأدب المقاومة عند العرب جذور موغلة بالقدم وعميقة وراسخة في تاريخنا العربي ومن ذلك قول ابن الرومي:
ولي وطن آليت إلا أبيعه *** وألا أرى غيري له الدهر مالكًا
وأحد كليات ثقافة المقاومة المتجددة في الأدب، والذي استمر دفعه الإبداعي حتى الآن نجدها في صرخة الشاعر:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب *** فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
وهذا أيضًا نجده عند الشاعر الفلسطيني الشهير عبدالرحيم محمود -رحمه الله تعالى-:
سأحمل روحي على راحتي *** وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتان *** ورود المنايا ونيل المنى
ومن صور ثقافة المقاومة في الإعلام بوسائله المتعددة المرئية والمسموعة والمقروءة كما أن أبرز وأعظم دور لثقافة المقاومة نجده من منابر المساجد وتوجيه العلماء.
ولا ننسى كم كان للمنبر الإسلامي من أدوار مهمة خلال تاريخنا، وإحياء الثورات ضد الظالمين والمستعمرين حتى غدت المقاومة ضد الاحتلال وضد كل مشاريع العدوان على أمتنا ومقدساتها أكثر عمقًا وشمولاً وفاعلية وأثرًا من المحيط إلى الخليج حتى نالت البلاد المحتلة استقلالها وعزتها وكرامتها.
كما نجده أيضًا -أيها الإخوة- في الأسرة ودورها التربوي والتوجيهي والديني من خلال حديث الآباء والأمهات لأولادهم عن المقاومة.
وأيضًا نجده في مؤسسات التربية والتعليم التي يجدر بها أن تجعل من خلال ثقافة المقاومة في المناهج الدراسة وتفعيل هذه الثقافة أصلاً في تلك المناهج.
أقول قولي هذا وأستغفر الله..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي