الدنيا مبنية على إقبال وإدبار، ورغبة في الشيء ثم رغبة عنه، وتطلُّع إلى غيره.. فكأن ما في الدنيا بمنزلة لُعَب الأطفال يتسلى بها الطفل، ثم سرعان ما يتركها، ويرمي بها، وربما كرهها فجعل يحطمها ويكسر فيها.. إنه لا غنى للإنسان بعد ذلك من شيء يبقى بعده، ويقدمه بين يديه (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد: فتشتاق النفوس في ظل هذه المتغيرات في هذه الدنيا التي بُنيت على التقلبات والتحولات، فجديدها يبلى، وحيها يفنى، ولا باقي إلا ما أريد به وجه الله –تعالى-.
تشتاق نفسه إلى الباقي الذي يجده أحوج ما يكون إليه، يجده محفوظاً له عند الله وما عند الله خير وأبقى.
أيها الإخوة: قد يُعجب الإنسان ببيت بناه أو اشتراه، أو سيارة ملكها، أو استراحة أقامها، بل يُعجب الإنسان بثوب أو نعل لبسه، و"الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا أو نعله حسنًا، والله جميل يحب الجمال"، ولكن إعجابه سرعان ما يخبو، وتعلقه بما أعجب به رويداً يتلاشى.
وما ذاك إلا لأن الدنيا مبنية على إقبال وإدبار، ورغبة في الشيء ثم رغبة عنه، وتطلُّع إلى غيره.
فكأن ما في الدنيا بمنزلة لُعَب الأطفال يتسلى بها الطفل، ثم سرعان ما يتركها، ويرمي بها، وربما كرهها فجعل يحطمها ويكسر فيها.
إنه لا غنى للإنسان بعد ذلك من شيء يبقى بعده، ويقدمه بين يديه (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46].
إنه الباقيات الصالحات ذكرها الله في كتابه مرتين، وأثنى عليها ثنائين (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46].
أما أنها خير ثواباً فثوابها موفور وأجرها عظيم مشكور، وهي خير أملاً فخير آمالك التي تمني بها نفسك هو في الباقيات الصالحات.
و(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم: 76]، وهي خير مردًا، أي: عاقبة، فعاقبتها خير وينقلب صاحبها إلى خير.. فاجتمع في الباقيات الصالحات خيران.
خير الحال، فهو يعيش على آمال صادقة، لثقته بوعد الله، وتصديقه بموعوده. وخير مآلاً؛ لأن ما ينتظره عند الله لا يصفه واصف ولا يحيط به حد (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، هذه حقيقة الباقيات الصالحات.
وهي كل عمل صالح يبقى بعد صاحبه، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُهْدِيَ لَنَا شَاةٌ مَشْوِيةٌ، فَقَسَّمْتُهَا كُلهَا إِلَّا كَتِفَهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ : "كُلُّهَا لَكُمْ إِلَّا كَتِفَهَا".
رَوَاهُ الترْمِذِيّ وصححه الألباني بِلَفْظٍ: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النَّبِيّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ- "مَا بَقِيَ مِنْهَا؟" قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: " بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا"، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَصَدّقُوا بِهَا إِلَّا كَتِفَهَا.
وقد خص النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأعمال أعمالاً يسيرة على من وفَّقه الله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خُذوا جنتكم، قالوا: يا رسول الله أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن جنتكم من النار. قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات وهن الباقيات الصالحات" (رواه الحاكم والنسائي وصححه).
أربع كلمات فالكلمة الأولى "سبحان الله" تنزيه لله عما لا يليق به تنزيه لله في الربوبية (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) [المؤمنون: 90]، تنزيه في الألوهية "من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
تنزيه في الأسماء والصفات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، ومن تنزيه الله ألا يظن العبد بربه إلا خيراً، فأحكامه عادلة وأخباره صادقة، أفقر فلاناً لحِكَم عظيمة، واستوفى عُمر فلان لحِكَم بالغة.
فمن ظن بربه خلاف ذلك لم يسبِّح ربه ولم ينزِّه خالقه، وإن نطق لسانه بأبلغ عبارات التسبيح وأجمع ألفاظ التنزيه؛ إذ لا بد من توافق القلب واللسان.
الكلمة الثانية: وصف الله بأكمل الصفات وأتمها "الحمد لله"، فهو محمود -عز وجل- على كمال صفاته ومحمود على سابغ نعمه ووافر فضله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، ولا طاقة للعبد بشكر نعم الله فهي نعم لا تحصى وآلاؤه تترى.
إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته" (رواه أبو داود وهو حديث حسن).
فالموفَّق من كان حمد الله على لسانه واعترافه بفضل الله مستقر بجنانه، وإذا أتته نعمة من أحد فإنه يعلم أن ذلك مِن الله، وهذا الأحد هو وسيلة وآلة صرَف الله قلبه لك فأحسن إليك، والله يقلب القلوب والأبصار.
الكلمة الثالثة من الباقيات الصالحات كلمة التوحيد "لا إله الله"، أفضل ما قاله القائلون وذكر به الذاكرون، ومن كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة.
ورابع الكلمات الصالحات الباقيات "الله أكبر" الله أكبر في ذاته وفي صفاته؛ وسع كرسيه السموات والأرض، فكل كبير فهو دون الله، وكل عظيم فهو تحت قدرة الله. ولذلك شُرع التكبير في الأذان لمناسبة العلو: علو الصوت والمكان، وعلو معنى ما يقوله، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا.
فهذه الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يضرك بأيهن بدأت"، بارك الله..
أيها الإخوة: إن الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها ضعيف في بدنه، ضعيف في إدراكه وتصوراته، فهو يريد كل شيء، ولا يستطيع أن يدرك إلا بعضاً من شيء، ثم هذا الشيء الذي أدركه لم يدركه على أتم صفة فيه وأعلى درجة منه.
وكلامنا هو في الإرادات الباقية التي تنفع صاحبها ويُسَرّ بلقياها، ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استقيموا ولن تحصوا"، وقال: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون"، قضيتان يلفت إليهما كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلن تطيق كل عمل، وما تطيقه لن تحصيه، أي: لن تُتمه على وجهه؛ ولأجل هذا الخلل في بنية الإنسان اقتضت حكمة الله التخفيف على عباده (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل: 20].
إذن هي سُنة إلهية تنبَّه لها الصحابة -رضي الله عنه-، فسألوا عن أفضل الأعمال وعن أحبها إلى الله وأقربها إليه.
ثم تبع هذا تفاوت الناس في أخذهم من هذه الأعمال، فمِن الناس مَن فتح الله له باباً من الأعمال الصالحة فهي ديدنه، ومنهم من فتح له بابين وثلاثة وأكثر فهو ينقل نفسه بين رياض هذه الأعمال، وفي كل واحد من هؤلاء خير، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير".
فقوي الإيمان على خير وهو في علية الناس وكتابه في عليين، وضعيف الإيمان هو الآخر على خير بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والله تعالى يقول: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [البقرة: 221]، ومع ذلك هو مُطالَب أن يزيد في إيمانه، وأن ينشط في نفسه، وأن يلحق بالسابقين من إخوانه "احرص على ما ينفعك واستعن بالله"..
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة: 10- 11]، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
إنَّ المسلم حينما يدرك أنه لن يستوعب كل أبواب الخير، وإن حصَّل جملة منها، فإنه يستمسك بالباب الذي فُتح له على حدِّ ما يروى عن عمر -رضي الله عنه-: "مَن بُورك له في شيء فليلزمه".
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي