في عام 1327هـ حل الجوع الشديد بأهل نجد, حتى سميت تلك السنة بسنة الجوع, فأكل الناس العشب وأوراق الشجر, بل أكلوا حتى البرسيم المخصص للبهائم, فلما جاء الصيف أُصيب من أكل البرسيم بأمراض فماتوا, وحدث بعض كبار السن أنه كان هناك صبية يتسولون على أبواب الدور, فلم يعطهم أحد شيئاً, فلما طلع الصباح وجدوهم موتى في الطرقات, وأكل الناس ذاك العام الكلاب والميتات.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70- 71].
أما بعد: منذ زمن بعيد .. كانت جزيرة العرب مضرب المثل في الجوع وشظف العيش, صحراءٌ قاحلة, ودرجات حرارة مرتفعة في الصيف, وبرد قارس بالشتاء, يُضاف إلى ذلك شح في الموارد الطبيعية التي تلزم لحياة الكائنات الحية.
ولو رجعنا إلى الوراء, واستعرضنا صفحات التاريخ لوجدنا هذه الحقيقة ماثلة أمامنا كرأي العين.
فهذه كتب السيرة تنقل لنا عدة قَصص عن جوع النبي -صلى الله عليه وسلم-, وهو القائد الأعلى للمسلمين في زمنه, حتى قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "كان يمُرُّ بآلِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هلالٌ ثُمَّ هلالٌ لا يُوقَدُ في بيوتِهم شيءٌ من النَّارِ لا لخبزٍ ولا لطبيخٍ, قالوا: بأيِّ شيءٍ كانوا يعيشونَ يا أبا هُرَيرةَ؟ قال: الأَسْودانِ: التَّمرُ والماءُ, وكان لهم جيرانٌ من الأنصارِ -جزاهم اللهُ خيرًا- لهم منائِحُ.. يُرسِلونَ إليهم شيئًا من لبنٍ".
وفي حفر الخندق اشتكى الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أصابهم من الجوع، وكشف بعضهم عن حجر ربطوه على بطونهم ليملأ مساحة المعدة فيحس الإنسان بالشبع, فكشف لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حجرين.
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-ما قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فذكر ما فُتح على الناس فقال: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَلْتَوِي يَوْمَهُ مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ» (رواه مسلم), والدقل: رديء التمر.
لم يكن الجوع في جزيرة العرب مقتصرًا على عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بل استمر إلى ما بعد ذلك.. ففي زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أواخر سنة 17هـ حلت بالمسلمين مجاعة عظيمة في عام سمي بعام الرمادة, وقيل: إن سبب تسميته بذلك لاسوداد الأرض من شدة القحط حتى أضحت كالرماد, أو لأن ألوان الناس اسودت من الجوع كالرماد، وقيل غير ذلك.
وقد أخرج الطبري من خبر عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمُقفِر".
وقال الحافظ ابن كثير: "وقد رُوِّينا أن عمر -رضي الله عنه- عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السُّؤَّال سألوا فلم يُعطَوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون".
واحتشد الناس من خارج المدينة وقدموا إليها يطلبون العون, حتى قيل: إنه خيّم في أطراف المدينة حوالي ستون ألفاً من العرب لا يجدون إلا ما يقدم لهم من بيت المال أو من أهل المدينة المنورة, وذُكِر أن عمر كان يولم لهم كل ليلة, حتى حضر في وليمة واحدة أكثر من عشرة آلاف.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ذُبحت الأطفال من الجوع, وأُكلت الجيف, وبيع العقار برغيفين, واشترى مُعِزُّ الدولة كَرَّ دقيق بعشرين ألف درهم.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عم القحط وأكلت الميتة, وروى ابن الجوزي -رحمه الله- أن ثلاثة لصوص نقبوا دارًا ليسرقوها فوُجِدُوا عند الصباح موتى, أحدهم على باب النقب, والثاني على رأس الدرج, والثالث على الثياب المكورة.
وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الوباء والجوع حتى أكل الناس بعضهم بعضًا, وبيع اللوز والسكر بوزنهما دراهمَ, وخرج أحد الوزراء فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها, فصُلبوا, فأصبح الناس لا يرون إلا عظامهم تحت خشبهم وقد أُكِلُوا.
بل إلى وقت قريب جداً كانت جزيرة العرب مضرب المثل في الجوع وشظف العيش, وكان أهل هذه البلاد يرحلون إلى الهند والعراق والشام ومصر والسودان والصومال وغيرها طلبًا للقمة العيش, بل كان بعض آبائنا يشتغل مقابل طعام يومه وكسوة مرة أو مرتين في العام.
وفي عام 1327هـ حل الجوع الشديد بأهل نجد, حتى سميت تلك السنة بسنة الجوع, فأكل الناس العشب وأوراق الشجر, بل أكلوا حتى البرسيم المخصص للبهائم, فلما جاء الصيف أُصيب من أكل البرسيم بأمراض فماتوا, وحدث بعض كبار السن أنه كان هناك صبية يتسولون على أبواب الدور, فلم يعطهم أحد شيئاً, فلما طلع الصباح وجدوهم موتى في الطرقات, وأكل الناس ذاك العام الكلاب والميتات.
تُمزِّقُهمْ نُيُوبُ الجُوعِ حتَّى*** يَكادُ الشَّيخُ يَعثُرُ بِالعِيالِ
يَشُدُّونَ البُطُونَ على خَوَاءٍ *** وَيَقتَسِمُونَ أَرْغِفَةَ الخَيالِ
وتَضْرِبُهمْ رِياحُ المَوتِ هُوجاً *** وَفي أَحْداقِهِمْ نَزْفُ اللَّيالِي
ونَامُوا في العَرَاءِ بِلا غِطاءٍ *** وسَارُوا في العَرَاءِ بلا نِعَالِ
كأَنَّ البِيدَ تَلفِظُهمْ، فَتَجْرِي *** بِهِمْ بِيدٌ إلَى بِيدٍ خَوَالِ
يَسِيلُ لُعابُهمْ لَهَفاً، وَتَذْوِي *** عُيونُهُمُ على جَمرِ السُّؤالِ
كان الفقر خيمة كبيرة مخيفة منصوبة على أرض نجد وعلى رؤوس أهلها، ومع الفقر والجوع، مرض وجهل، وعزلة موحشة عن العالم، فلم يكن العالم يشعر بهم، أو يرسل لهم أيّ مساعدات, حتى في المجاعات الطاحنة التي مات فيها ألوف، والأوبئة الفتاكة التي أهلكت الكثير من أهل نجد، في ذلك الزمان، كان العالم يهملهم تماماً ويعتبرهم مجرد بدو متفرقين في صحراء لا يعيش فيها حتى الضب إلا بجهد.
وقد انتشرت وثيقة من إحدى الصحف من عام 1353هـ فيها تبرعات أهالي السودان لأهالي المدينة المنورة, كما حَدَّث بعض الدعاة أنه زار الصومال فوجد فتوى عمرها مائة وعشرين سنة تقريبًا فيها تجويز إخراج زكاة أهل الصومال لأهالي نجد من الجوع الذي أصابهم آنذاك.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-..كان كل ذلك حقبة ماضية .. فانقلب الحال بحمد الله –تعالى-, وأصبحت كثيرًا من تلك الصحاري القاحلة مدنًا عامرة, وأصبحت خيرات الأرض تُجبَى إلى هذه الصحراء من كل مكان, وأصبحت الأطعمة التي لم يكن يعرف العرب اسمها أو رسمها تأتي لهم إلى أرضهم، وصرنا نشاهد فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء.
وتحول أولئك الأعراب الفقراء الذين كانوا بالأمس يقتتلون على لقمة العيش تحولوا إلى حياة الرفاهية والترف, وصارت البيوت تغص بأنواع الأطعمة والأشربة والملابس, وبعد أن كنا نسافر إلى أصقاع الأرض طلبًا للقمة العيش أتى أهل تلك الديار إلينا طلبًا لذات اللقمة, وامتلأت البيوت بالخدم والحشم بعد أن كان أسلافنا إلى وقت قريب يعملون خدمًا في البيوت.
أيها الإخوة .. إن كل ذلك نعمة من الله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53].. وليس بيننا وبين الله –تعالى- عهد ولا ميثاق أن تستمر هذه النعمة, ونعود كما كنا أو أشدَّ!
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ: بالشكر تدوم النعم, وقد ورد الشكر في خمسين آية من كتاب الله -تبارك وتعالى-, قال الفيروز آبادي -رحمه الله تعالى-: "الشكر أعلى منازل السالكين", وأخرج مسلم في صحيحه وأحمد واللفظ له عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -عز وجل- يوم القيامة: يا بن آدم! حملتك على الخيل والإبل, وزوجتك النساء, وجعلتك تَرْبَع وتَرْأَسُ فأين شكر ذلك؟".
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يترجم الشكر عمليًّا في حياته ولا يكتفي باللفظ باللسان, فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم أو ليصلي حتى تَرِم قدماه أو ساقاه, فيقال له فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن النعمة موصولة بالشكر",
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما من عبد يشرب الماء القَرَاح فيدخل بغير أذى ويُخرِج الأذى إلا وجب عليه الشكر", وقال يونس بن عُبيد -رحمه الله- لرجل يشكو ضيق حاله: "أيَسُرُّك ببصرك هذا مائة ألف درهم؟" قال الرجل: لا, قال: "فبيديك مائة ألف درهم؟" قال: لا, قال: "فبرجليك مائة ألف؟" قال: لا, فذكره نعم الله عليه, فقال يونس: "أرى عندك مِئين الألوف وأنت تشكو الحاجة!!".
علامة شكر المرء إعلان حمده *** فمن كتم المعروف منهم فما شكر
إن هذه النعم التي بين يدينا زائلة لا محالة.. إن لم نحفظها ونقيدها بالشكر, إن ما يحصل من كثير من الناس من عدم حفظ هذه النعم لهو أمر يندى له الجبين, ومؤذن بخطر عظيم.
كانت سبأ أشد تنعماً منّا فكفرت بأنعم الله، وظلموا أنفسهم, فأزال الله عنهم هذه النعم، وجعلهم أحاديث ومزّقهم كل ممزق, وما زال التاريخ يحكي لنا قصصًا عن أناس لعبوا بالنعمة فما رعوها, فأزالها الله تعالى من بين أيديهم, وأبدلهم بعد الغنى فقرًا, وبعد العز ذلاً.
إن ما يحصل من كثير من الناس من عدم اكتراث بالنعم, وإلقاء بقايا الأطعمة في سلال القمامة, أو في الأرض, دون حفظ لها لهو نذير شر وبلاء على عموم الناس.
إن الله تعالى يقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، وقال بعض السلف: "النعم وحشية فقيدوها بالشكر".
تعود أن لا تلقي ما يبقى من طعامك أياً كان .. أعط ما يصلح للأكل غيرك .. وقدم الباقي للحيوانات.
عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ" رواه مسلم.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة مسقوطة "أي: ساقطة"، فقال: "لولا أن تكون صدقة لأكلتها" رواه البخاري.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند أبي داود: "من كان عنده فضل زاد؛ فليعد به على من لا زاد له". قال راوي الحديث: "حتى ظننا أنه لا حقَّ لأحد منا في الفضل".
أيها الإخوة .. بالشكر تدوم النعم.. ويقول ربكم -تبارك وتعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته أزمان
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي