والدعاء من أقوى الأسباب في حصول المطلوب، ودفع المكروه، ولكن قد يتخلف عنه أثره لأسباب: إما لضعفه في نفسه، بأن يكون الدعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله تعالى وقت الدعاء. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والاستعجال، وتراكم الذنوب على القلب، والغفلة ونحو ذلك. والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل أو يخففه...
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخليله وصفّيه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: يوقن العبد المسلم أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الحي القيوم، الملك الذي يملك كل شيء، الغني وما سواه فقير، يعطي ويمنع، ويكرم ويهين، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، يسأله من في السموات ومن في الأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء من عطائه وفضله وكرمه -سبحانه وتعالى-.
إن الله -تبارك وتعالى- هو الملك العظيم الحي القيوم، الذي لا ينام ولا ينبغي أن ينام؛ يجيب السائلين, ويسمع الذاكرين, ويغفر للمستغفرين, ويتوب على التائبين, وسع سمعه جميع المسموعات، ووسع بصره جميع المخلوقات, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" [أخرجه مسلم (179)].
أيها الإخوة: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الناس فقراء كما قال –سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، فالخلق كلهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه: فقراء إلى الله في خلقهم، فلولا خلقه لهم لم يوجدوا, فقراء إلى الله في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح, فقراء إلى الله في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة, فقراء إلى الله في جلب المنافع لهم، وصرف النقم والمكاره عنهم. فقراء إلى الله في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم, فقراء إلى الله في تألههم لله، وحبهم له، وعبادتهم إياه.
فالخلق كلهم فقراء إلى الله بالذات، فلو لم يوفقهم لهلكوا، ولولا توفيقه لم يصلحوا، والله وحده له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته, وقد أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بسؤاله تارة, وبسؤال أهل الذكر تارة, فنسأل الله الهداية، وكل ما نحتاجه من خيري الدنيا والآخرة كما قال -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60].
أيها الإخوة: لا بد لكل عبد من وسيلتين مساعدتين على إجابة الدعاء، لا يكاد يُرَدّ معهما الدعاء: توسل إلى الرب بأسمائه وصفاته, وتوسل إليه بعبوديته, فالداعي بذلك حقيق بالإجابة كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: "يَا مُعَاذُ: وَالله إِنِّي لأَحِبُّكَ وَالله إِنِّي لأَحِبُّكَ, فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" [صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (771)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (533)].
عباد الله: وأفضل الدعاء ما جمع بين التضرع والخفية، وإخفاء الدعاء أكمل إخلاصاً، وأعظم إيماناً، وأبلغ في التضرع والخضوع والخشية، وأعظم في الأدب والتوقير والتعظيم لله -عزَّ وجلَّ-، وأبلغ في جمعية القلب، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، وقد أمر الله عباده أن يسألوه كل شيء من خيري الدنيا والآخرة، فهو الغني الذي خزائنه مملوءة بكل خير، ولا ينقص عطاؤه مما في خزائنه مثقال ذرة: (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [يونس: 68].
أيها الأحبة: إن الله -تبارك وتعالى- خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، وسع الخلق كلهم بخلقه وعلمه ورزقه، وفضله ورحمته وإحسانه، كما قال -سبحانه- في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ" [أخرجه مسلم (2577)].
فالخالق -جلَّ جلاله- وتقدست أسماؤه ولا إله غيره إذا اشتكى إليه أحد، أو أنزل حاجته به، أو استغفره من ذنوبه، أيده وقواه وهداه، وأعطاه وأغناه، وسد فاقته وحاجته، فهو -سبحانه- وحده الذي يجيب المضطر الذي أقلقه الكرب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه.
وهو -سبحانه- الذي يكشف السوء من شر وبلاء وفتنة ومصيبة، وهو الذي خلق الخلق، ومكنهم في الأرض، وأمرهم بالرزق: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]، أفلا يستحي الإنسان أن يسأل غير الله، والله قد أمره بسؤاله، وتكفل بإجابة دعائه قال -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60]، والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله وازدراه، ثم أعرض عنه ونساه -وإن قضى له بعض حاجته-، فما أعجب حال هؤلاء، وما أضل عملهم وسعيهم، وما أشد خسارتهم: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213].
إن الله وحده هو الغني الحميد، وسؤال المخلوق للمخلوق هو سؤال الفقير للفقير، وتعلق الغريق بالغريق، والرب -سبحانه- كلما سألته كرمت عليه، ورضي عنك وأحبك والمخلوق كلما سألته هنت عليه، وأبغضك ومقتك وقلاك، وقبيح بالعبد الذي كفاه سيده أن يتعرض لسؤال العبيد مثله، وهو يجد عند مولاه كل ما يريد: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 189]. وسؤال الناس ما في أيديهم محظور في الأصل، ولا يباح إلا لضرورة كإباحة الميتة للمضطر.
عباد الله: والدعاء سلاح المؤمن يستخدمه وقت الحاجة كالبطاقة. فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دعا حين ألقي في النار فأنجاه الله. ويونس -صلى الله عليه وسلم- دعا ربه في بطن الحوت فأنجاه الله. وأيوب -صلى الله عليه وسلم- دعا ربه حين مسه الضر فكشف الله ضره.
والله -عزَّ وجلَّ- أعطانا الإيمان نستفيد منه في الدنيا في قضاء الحاجات، والدعاء في الأصل ينبغي أن يكون لقضاء الحاجات الدنيوية والأخروية، وكل حاكم عنده سلاح مادي، ولكنه يتوقف أمام دعوة الأنبياء؛ لأنه مخلوق مع مخلوق عاجز، والداعي معه قدرة الله -عزَّ وجلَّ-، ومعيته التي تغنيه عما سواه.
ودعاء المسلم ينقسم إلى قسمين: الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تعبد الله بما تقتضيه أسماؤه وصفاته، فالرحيم مثلاً يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها. والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله بالتوبة والاستغفار. والقريب يدل على القرب، وذلك يقتضي أن تتعرض للقرب منه في الصلاة وغيرها. والسميع يدل على السمع، وذلك يقتضي أن تعبد الله بمقتضى السمع، فلا تُسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك, وهكذا في بقية الأسماء.
الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدم أسماء الله -عزَّ وجلَّ- بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله -عزَّ وجلَّ-، كأن تقول: يارحمن ارحمني, ويارزاق ارزقني، وياغفار اغفر لي, وهكذا.
وأكمل أنواع الطلب: ما تضمن حال الداعي, وحال المدعو, والسؤال بالمطابقة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [أخرجه البخاري (834)، ومسلم (2705)].
والمأمور به شرعاً سؤال الله تعالى، والرغبة إليه، والتوكل عليه وحده في جميع الأمور كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" [أخرجه أحمد (2669) وصححه الألباني]، وسؤال الخلق ما يستطيعونه من الحاجات في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، وقد بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- طائفة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
أيها الإخوة: وأنفع الدعاء طلب العون على مرضاة الله، وأعظم ما يسأل العبد ربه الهداية إلى الصراط المستقيم. ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، عَلّم الله -عزَّ وجلَّ- عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم الإقرار بعبوديتهم وتوحيدهم له كما قال -سبحانه-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 2-6].
أيها الإخوة: وأسباب إجابة الدعاء كثيرة أهمها: الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ-, وأن يبدأ بحمد الله تعالى, ثم الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أول الدعاء وآخره, وحضور القلب أثناء الدعاء, وخفض الصوت بالدعاء, والاعتراف بالذنب, والاستغفار منه, والاعتراف بالنعمة وشكر الله عليها, والإلحاح في الدعاء, وتكريره ثلاثاً, وعدم استبطاء الإجابة, والجزم في الدعاء مع اليقين بالإجابة, وعدم الاعتداء في الدعاء، وأن لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم.
ومنها: أن يكون مطعمه ومشربه وملبسه حلال, ولزوم التضرع والخشوع, والطهارة من الحدث والخبث, ورفع اليدين إلى المنكبين وبطونهما نحو السماء، وإن شاء قنع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة, واستقبال القبلة أثناء الدعاء, والدعاء في الرخاء والشدة, والدعاء بالأدعية التي هي مظنة الإجابة كما ثبت. فهذه ثلاثون سبباً لا بدَّ من العلم بها، والعمل بمقتضاها؛ ليتم حصول المطلوب للعبد عند سؤاله لربه، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.
والدعاء من أقوى الأسباب في حصول المطلوب، ودفع المكروه، ولكن قد يتخلف عنه أثره لأسباب: إما لضعفه في نفسه، بأن يكون الدعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله تعالى وقت الدعاء. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والاستعجال، وتراكم الذنوب على القلب، والغفلة ونحو ذلك. والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل أو يخففه.
عباد الله: وإذا حصل الدعاء، فالله يعطي للعبد أحد خمسة أشياء: إما أن يعطي السائل حالاً, أو يؤخره ليكثر المسلم من البكاء والتضرع, أو يعطيه شيئاً آخر أنفع له من سؤاله, أو يدفع به عنه بلاء, أو يؤخره إلى يوم القيامة أحوج ما يكون إليه العبد. والله -سبحانه- هو الغني لذاته، الكريم لذاته، له الجود كله، يحب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه.
فأحب خلقه إليه وأفضلهم عنده أكثرهم سؤالاً له، وهو -سبحانه- يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه، وأعطاه من خيري الدنيا والآخرة، فكم سائل لله في العالم العلوي والسفلي؟, وكم من سؤال سئل؟, وكم من دعوة أجابها؟, وكم عثرة أقالها؟, وكم من رحمة أنزلها؟, وكم من كربة كشفها؟, وكم من جبار قصمه؟, وكم ذليل أعزه؟, وكم مريض شفاه؟, وكم جاهل علمه؟, وكم فقير أغناه؟, وكم سائل أعطاه؟, وكم من ضال هداه؟ فسبحانه ما أعظمه، وسبحانه ما أكرمه: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: وجميع الخلق يسألون الله مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف: فمنهم من يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب؛ لرغبته عنها، وقصر همته على الدنيا. ومنهم من يدعو الله ويسأله لمصلحة الدارين كما قال -سبحانه-: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200-202].
وكل من هؤلاء وهؤلاء لهم نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم الله حسب نياتهم وأعمالهم جزاءً دائراً بين العدل والإحسان، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه. وإجابة الله -عزَّ وجلَّ- دعاء من دعاه ليست دليلاً على محبته له ورضاه عنه إلا في مهمات الدين، ومطالب الآخرة.
عباد الله: وللدعاء مع البلاء ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه ويدمغه.
الثانية: أن يكون الدعاء أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء.
الثالثة: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وأفضل أحوال الدعاء حالة إقبال القلب على الله -عزَّ وجلَّ-.
عباد الله: والاعتداء في الدعاء محرم لا يجوز قال -سبحانه-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف: 55].
والاعتداء في الدعاء له صور: كأن يسأل العبد ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات. أو يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء والمرسلين. أو يسأل ما أخبر الله أنه لا يفعله لمنافاته الحكمة كأن يسأل ربه تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يطلعه على الغيب، أو يهب له ولداً من غير نكاح، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله.
ومن الاعتداء رفع الصوت بالدعاء، وأن يعبد الله بما لم يشرعه، أو يثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، أو يدعوه غير متضرع إليه. ومن الاعتداء أن يدعو مع الله غيره، فهذا أعظم المعتدين عدواناً، فإن أعظم العدوان الظلم والشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها. فكل سؤال يناقض حكمة الله, أو يتضمن مناقضة شرعه وقدره وأمره, أو يتضمن خلاف ما أخبر به, فذلك كله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله.
ومن دعا الله أجابه، وليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله. فالله -سبحانه- يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي.
وكثير من الناس يدعو دعاءاً يعتدي فيه، أو يشترِط في دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح مرضي لله، ويكون بمنزلة من أملي له، وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله يسارع له في الخيرات قال -سبحانه-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون: 55، 56]، فلا يغتر العبد بما يعطَى من الأموال والبنين وهو معرض عن ربه، منهمك في معاصيه، فذلك استدراج، به هلاكه وخسارته: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
عباد الله: ويمنع إجابة الدعاء أمور أيضا منها: أكل الحرام, الاعتداء في الدعاء, غفلة القلب, وضعف اليقين, واللبس الحرام, وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والظلم.
عباد الله: هل يليق بالإنسان فضلاً عن العاقل، فضلاً عن المسلم أن يسأل غير الله الغني الحميد، ويقف بباب المخلوق العاجز الهزيل الضعيف؟ فما أجهل وما أسفه من أعرض عن العلي العظيم، الغني الكريم، وتعلق وتضرع أمام العاجز الفقير: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر: 38].
إن كل من سأل أو دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك ظالم ضال، والعيان يصدق هذا، فإن المخلوقين إذا اشتكى إليهم الإنسان فضررهم أقرب من نفعهم؛ لما فيهم من الظلم والجهل والحسد. فما أضل من يترك سؤال ربه ويدعو سواه: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) [الحج: 12، 13].
اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي