وقفات مع فريضة الحج

عمر القزابري
عناصر الخطبة
  1. بعض أسماء مكة وأسباب تسميتها بذلك .
  2. عظمة مكة ومكانتها .
  3. خطر أكل أموال الحجاج وبعض صور ذلك .
  4. بعض أحوال الملبيين والمحرمين .
  5. بعض أسرار الحج ومقاصده .
  6. معالم بناء الشخصية الإسلامية في الحج .

اقتباس

كما أن للحج آدابا ظاهرة، فإن له آدابا باطنة، دقيقة، وأسرارا بديعة دقيقة؛ من راعاها، ووقف عندها؛ انفتحت له أبواب تذوق حلاوة الحج. ففي الإحرام والتلبية: إجابة نداء الله -عز وجل-. وفي دخول مكة: تذكر الانتهاء إلى حرم الله، وفي مشاهدة البيت: إحضار عظمة البيت في القلب، وتقدير مشاهدته؛ لرب البيت، لشدة تعظيمه إياه. وفي الطواف بالبيت: تشبيه بالملائكة المقربين الحافيين حول العرش، الطائفين حوله.. وفي الالتصاق بالملتزم: طلب القرب حبا وشوقا للبيت، ولرب البيت، يتجلى ذلك في ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلا ووهما، الباطن تقدسا لا عدماً، وسع كل شيء رحمةً و علماً، وأسبغ على أوليائه نعما عماً، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عرباً وعجماً، وأزكاهم محتداً ومنمى، وأرجحهم عقلاً وحلماً، وأوفرهم علماً وفهماً، وأقواهم يقيناً وعزماً، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، وزكاه روحاً وجسماً، وحاشاه عيباً ووصماً، وآتاه حكمة وحكماً، وفتح به أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، فآمن به وعزره، ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسماً، وكذب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه وسلم صلاةً تنمو وتنمى، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

معاشر الصالحين: تتعلق الرقاب، وتذوب القلوب، وتتشوق النفوس، كلما هبت نسائم ذي الحجة إلى تلكم الديار، ديار الهدى، ومهبط الوحي، وموضع خطو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

إلى ذكرى الخلة الإبراهيمية، وموطن الدعوة المحمدية، ديار الأحباب، ومنازل الصالحين، وذوي الألباب، مكة أو بكه، أو البلد، أو القرية، أو أم القرى.

فأما مكة، فقال الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ)[الفتح: 24].

وفي تسمية مكة بهذا الاسم أربعة أقوال:

أحدها: أنها مسافة يأتوها الناس من كل فج عميق، فكأنها هي التي تجذبهم إليها، من قول العرب: أمتك الفصيل ما في ضرع أمه، أي جذبه وامتصه.

والثاني: أن من قولهم مككت الرجل، إذا أردت تخوفه، فكأنها تمكك من ظلم فيها، أي تهلكه، وأنشدوا:

يا مكة الفاجر مكي مكا *** ولا تمكي مذحجا وعكا

وأجمل من ذلك قول الله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25].

والثالث: إنها سميت بذلك لجهد أهلها.

والرابع: لقلة الماء بها.

أما: "بكة" بالباء، ففي تسميتها ببكة ثلاثة أقوال:

أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس.

والثاني: تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها، فما قصدها جبار إلا قصمه الله، قاله ابن الزبير.

والثالث: لأنها تضع من نخوة المتكبرين، قاله اليزيدي.

وأما اشتقاق بكة، فمن البك: يقال بك الناس، بعضهم بعضاً.

وأما تسميتها "ببلد" فقد قال الله -عز وجل-: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)[البلد: 1].

والبلد في اللغة: "صدر القرى".

وأما تسميتها بالقرية، فقال الله -عز وجل-: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].

وذلك أن الله عذب كفار مكة بالجوع سبع سنين، حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة.

والقرية اسم لما يجمع جماعة كثيرة من الناس، وهو اسم مأخوذ من الجمع، يقال: "قَريْت الماءَ في الحوض إذا جمعته فيه".

ويسمى ذلك الحوض مقراة.

وأما تسميتها بأم القرى؛ فقال الله -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى)[الشورى: 7].

يعني مكة.

وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال:

أحدها: أن الأرض ديحت من تحتها، قاله ابن عباس، وقال ابن قتيبة: لأنها أقدمها.

والثاني: لأنها قبلة يؤمها جميع الناس.

والثالث: لأنها أعظم القرى شأناً.

والرابع: لأن فيها بيت الله -عز وجل-.

ولما اقتضيت العادة أن بلد الملك وبيته هو المتقدم على الأماكن سمي: "أم"؛ لأن الأم متقدمة.

مكة قبلة الدنيا، ومجمع المسلمين تتعين على من أراد زيارتها أن يعرف قدرها، وأن يتهيأ لها بالروح قبل البدن، ويستعد لها في وجدان، إذ أن الرحلة إليها هي رحلة أرواح، قبل أن تكون رحلة أشباح، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لو أن رجلا هم بقتل رجل عند البيت، وهو بعدن أبين أذاقه الله عذابا أليما".

وقال الضحاك: "إن الرجل يهمه الخطيئة بمكة، وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه، ولو لم يعملها".

وقال مجاهد: "تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات".

وسئل الإمام أحمد بن حنبل: هل تكتب السيئات أكثر من واحدة؟ قال: لا، إلا بمكة لتعظيم البلد.

وقال إبراهيم النخاعي -رحمه الله-: "كان يعجبه -أي السلف- أن لا يخرجوا حتى يختموا القرآن" أي فيها.

وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة الحاد بظلم".

وهنا لا بد لي من وقفة تأكيد لإخواننا الذين يقومون على شئون الحجاج من أصحاب الوكالات وأعوانهم ومساعديهم، والذين نظن فيهم الخير الكثير، وأسأل لهم التوفيق في هذه المهمة الخطيرة.

نعم -أيها الأحباب-: لا بد لمن تصدى لهذا الأمر: أن يعلم أنه يتعامل مع وفد الله، وضيوف الله، وأن مجرد التفكير في الإساءة إليهم، هو ذنب عظيم، يعرض صاحبه للعقوبة العاجلة في الدنيا قبل الآخرة.

فقد رأينا وسمعنا بعضا مما يحصل لبعض الحجاج من تضييق عليهم، وكذب عليهم، ونهب لأموالهم بغير حق، ووعدهم مثلا بأن الفندق قريب من الحرم، ثم بعد ذلك يفاجئون بأنهم بعيدون عن الحرم.

فهذا جرم عظيم، من أراد أن يتكسب، وأن يحصل على الأموال، فليحصل عليها من الحلال، لا من عرق الحجاج، ولا من الاستغلال لعدم معرفتهم بتلك الديار، ولا الاستغلال لشوقهم، وحسن نيتهم.
 

ويدخل في هذا الأمر أصحاب الفنادق هناك في تلكم المشاعر، والمكلفون بالإجراءات، ومنها المطارات سواء في الذهاب، أو الإياب، وأصحاب النقل وغيرهم.

كل هؤلاء عليهم أن يتذكروا أنهم يتعاملون مع وفد الله، وضيوف الرحمن.

وللجميع نسوق هذا الحديث العظيم المرعب؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث الذي بين فيه ما عرض عليه من صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، قال: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت، مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به"[رواه مسلم].

وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ، الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ مُتَّكِئًا عَلَى مِحْجَنِهِ فِي النَّارِ، يَقُولُ: أَنَا سَارِقُ الْمِحْجَنِ"[رواه النسائي].

فصاحب المحجن هذا جمع بين إثمين عظيمين: إثم السرقة، وإثم التعدي على ضيف الرحمن -سبحانه وتعالى-.

نعم، فالحاج والمعتمر، وفد الله -تعالى-، كما عنون ابن خزيمة في صحيحه، قال: "باب فضل الحاج إذ الحاج من وفد الله".

وعنون ابن حبان في صحيحه، قال: "ذكر البيان بأن الحاج والعمار، وفد الله -جل وعلا-".

وأورد الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "وفد الله -عز وجل- ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر".

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لو يعلم المقيمون -أي المقيمون هناك في مكة- ما للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون، حتى يقبلوا رواحلهم؛ لأنهم وفد الله -تعالى- من جميع الناس"[رواه البيهقي].

وقد بين صلى الله عليه وسلم: أن سرقة الحاج إثم وعار، فعن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال على المنبر: "غفار غفر الله لها،‏ ‏وأسلم ‏ ‏سالمها الله،‏ ‏وعصية‏ ‏عصت الله ورسوله‏"[رواه البخاري].

قال ابن حجر في الفتح معلقا: "

قال ابن حجر في فتح الباري: "إنَّ بَنِي غِفَار كَانُوا يَسْرِقُونَ الْحَاجّ فِي الْجَاهِلِيَّة فَدَعَا لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أنْ أسْلَمُوا لِيَمْحِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَار فرغم أنّ "الإسْلامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ" من الذنوب والآثام مهما كبرت وعظمت، ويَجُبُّ: أي يُزِيِلَ عينه ويمحو أثره كأنّه لم يكن، إلاّ أنّ استغفار النبي -صلى الله عليه وسلم- لقبيلة غِفَارٍ بعد إسلامها فيه إشارة واضحة على عِظَمِ الذنب وفداحة الإثم الذي آتوه، وهو سرقة الحَاجّ الذي آتى بيت الله الآمن"

وبيان أن ذلك إثم وعار يلحق فاعله بقيت لنا مع صاحب المحجن وقفة، فهذا الذي كان يسرق الحجاج، رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجر أمعاءه في النار، فلماذا أمعاءه دون سائر أعضاء جسده؟

لأن أمعاءه هذه كانت في الدنيا مستقر المال الحرام الذي كان يسرقه من الحجاج، ومنها نبت لحمه، وصحه بدنه، وقويت أعضاءه.

واستمع إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جندب بن عبدالله -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلاَّ طيبا، فليفعل"[رواه البخاري].

وكما يطلب ممن يقوم بأمور الحجاج عدم سرقتهم، فإنه يجب على الحاج: أن لا يسرق الناس هنا من أجل أن يحج -هداهم الله- وهذا مشاهد ومعلوم، يأكلون أموال الناس بالباطل، وينهبون ويستدينون، فلا يرجعون الأموال إلى أصحابها، ويحتالون في الحصول على الأموال بالكذب، والتمويه والتدليس، فإذا جاء الحج رأيتهم أول الذاهبين، فهؤلاء ما عرفوا حرمة ربهم، ولا حرمة بيت ربهم، ولا حرمة أخوتهم الإسلامية.

ولله در القائل:

إذا حججت بمال أصله سحت *** فما حججت ولكن حجت العير

لا يقبل الله إلا كل خالصة *** ما كان من حج بيت الله مبرور

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى ذاته تشريفاً له وإكراماً وصوناً.

والصلاة والسلام على سيد الحجاج تقوى وبركة ويمنى، سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن على الهدى سار، والنهج تبنى.

معاشر الكرام: إنه لا يليق أبدا بمن أراد الحج على شاكلة الذين ذكرنا آنفا الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وربما أكلوا أموال الناس بصورة الالتزام لا بحقيقته، فكثيرون هم الذين يغرون الناس بشكلهم وبسمتهم، حتى إذا ما بدت لهم الفرصة، وثبوا وثوب الذئاب على حقوق الغير: (أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)[الأنعام: 31].

وفي أمثال هؤلاء يقول يحيى بن حكم الغزال -رحمه الله- وهو من كبار شعراء الأندلس:

ومراءٍ أخذ الناس *** بسمت وقطوب

وخشوع يشبه السقم *** وضعف في الدبيب

قلت هل تألم شيئاً؟  *** قال: أثقال الذنوب

إنما تبني على الوثبة  *** في حين الوثوب

ليس من يخفى عليه  ***  منك هذا بلبيب

إن الحاج العارف بحق الله، وبحرمة البيت هو الذي يتملكه الوجل والخوف منذ أن يعرف أنه سيقصد بيت الله الحرام، فتراه مترقبا خائفا وجلا؛ فقد حج علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فلما أحرم، واستوت به راحلته، اصفر لونه، وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك لا تلبي؟ أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك، فلما لبى أغشى عليه.

ولما حج جعفر الصادق، فأراد، تغير وجهه، فقيل له: ما لك يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: "أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب".

وقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: كُنْتُ مَعَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، فَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى سِرْنَا مِيلا، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ، وَقَالَ: "يَا أَحْمَدُ، أَوْحَى اللَّهُ -تعالى- إِلَى مُوسَى -عليه السلام-: مُرْ ظَلَمَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا يَذْكُرُونِي، فَإِنِّي أَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي مِنْهُمْ بِاللَّعْنَةِ، وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ، بَلَغَنِيَ أَنَّ مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ -أي من غير الحلال- ثُمَّ لَبَّى، قَالَ اللَّهُ -عز وجل-: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْكَ، فَمَا آمَنُ أَنْ يُقَالَ لَنَا ذَلِكَ".

وقال أبو عبد الله بن الجلاء: "كنت بذي الحُليفة، وشاب يريد أن يحرم، فكان يقول: يا رب، يا رب أريد أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن تجيبني: ب "لا لبيك ولا سعديك" وجعل يردد ذلك مراراً، ثم قال: لبيك اللهم لبيك، مد بها صوته وخرجت روحه".

هذا، وكما أن للحج آدابا ظاهرة، فإن له آدابا باطنة، دقيقة، وأسرارا بديعة دقيقة، من راعاها ووقف عندها انفتحت له أبواب تذوق الحلاوة حلاوة الحج.

ففي الإحرام والتلبية إجابة نداء الله -عز وجل-، وفي دخول مكة تذكر الانتهاء إلى حرم الله، وفي مشاهدة البيت إحضار عظمة البيت في القلب، وتقدير مشاهدته؛ لرب البيت، لشدة تعظيمه إياه.

في الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين حوله، وما القصد طواف الجسم فحسب، بل طواف القلب بذكر الرب.

وفي الالتصاق بالملتزم، طلب القرب حبا وشوقا للبيت، ولرب البيت، يتجلى ذلك في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه، المتضرع في عفوه عنه، المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه.

وفي السعي بين الصفا والمروة مضاهاة تردد العبد بفِناء الملك ذهابًا ومجيئًا إظهارًا للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة؛ كالذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى، يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى.

وفي الوقوف بعرفة، ورؤية ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات، تذكر اجتماع الأمم في عرصات القيامة، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول، وفي تذكر ذلك إلزام القلب الضراعة والابتهال إلى الله -عز وجل-، ورجاء الحشر في زمرة الفائزين المرحومين، وتحقيق الرجاء بالإجابة، فالموقف شريف، والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق، بواسطة القلوب النقية.

ولا ينفك الموقف عن طبقات من الصالحين، وأرباب القلوب، فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة، والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله -سبحانه- أيديهم، وامتدت إليه أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين، بهمة واحدة على طلب الرحمة، فلا تظنن أنه يخيب أملهم، ويضيع سعيهم، ويدخر عنهم رحمة تغمرهم.

وفي رمى الجمار انقياد للأمر، وإظهار للرق والعبودية، وقصد رمي وجه الشيطان، وقصم ظهره.

وفي زيارة المدينة ومشاهدتها: تذكر أنها البلدة التي اختارها الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعل إليها هجرته، وأنها داره التي شرع فيها فرائض ربه -عز وجل-، وسننه، وجاهد عدوه، وأظهر بها دينه إلى أن توفاه الله -عز وجل-.

ثم إذا دخلت مسجده، تذكر أن أول موضع أقيمت في فرائض الله تلك العرصة، وأنها تضمنت أفضل خلق الله حياً وميتاً صلى الله عليه وسلم.

يعيش الحاج متقلب بين هذه المعاني، وتلكم الأسرار، ترتقي روحه إلى أعلى مقامات القرب، المتمثلة في المغفرة المتحققة، لمن حج البيت، متحليا بشروط الإقبال، تاركا وراءه كبرياءه وغروره، فإذا رجع الحاج رجع، وقد ترسخت في قلبه تلك المعاني والقيم، فعاش بها بين أهله ومجتمعه، ناشرا لها، داعيا له.

فالحاج -أيها الأحباب-: له أثر عظيم في بناء الشخصية الإسلامية، ومن أول معالم هذا البناء: الأخلاق الفاضلة، فترك الرفث والفسوق والجدال في الحج تدريب وتعويد على ترك الأخلاق السيئة في سائر أوقاتك، فالذي يرجع بعد الحج، مصرا على سوء الأخلاق، متصفا بالغلظة والجفاء والتعنيف مع الزوجة والأولاد، والناس كافة، فهذا لم يستفد من مدرسة الحج، مدرسة الأخلاق الراقية الفاضلة.

ومن معالم البناء كذلك: ترك التكبر، هذا الداء الذي من أفتك الأدواء، فالحج أول ما يعلمك محاربة هذا الداء، والتخلص منه يتمثل ذلك في الإحرام الذي يساويك بالناس، حتى لا يتميز غني عن فقير.

وفي تنقلك بين المشاعر، واختلاطك بالناس، وافتراشك الأرض، واقتصارك على المتيسر من الطعام.

الحج دعوة إلى التخلص من كبرك، بمقتضي أصلك الترابي، ومعادك الترابي.

ومن معالم هذا البناء: تعويدك على الصبر من خلال اختلاطك بالناس، وصبرك على آذاهم، ومن خلال الالتحام عند المرافق، وكل ذلك من أجل بناء شخصيتك، ورفع عود خلال الخير فيك.

فالحج ليس مباهاة ولا مضاهاة ولا رحلة تبختر، أو ترفه.

الحج رحلة الأشواق، الحج رحلة الروح إلى عوالم الطهر والنقاء، والعفة والصفاء.

الحج رحلة التدريب على كبح جماح النفس الأمارة.

الحج رحلة البذل والعطاء، والإنفاق والسخاء.

الحج رحلة السلام رحلة الحج والوئام.

ليس الحج أين حللت، وفي أي فندق نزلت، ولكن الحج كيف حللت؟ وكيف نزلت؟

الحج دعوة للتحرر، التحرر من القيود المعوقة التي أحالت دنيانا إلى ظلام، التحرر من موقع الاقتدار لا تحرر عبيد الشهوة، ودعاة الإغواء.

الحج دعوة لوصل الخيوط بين المسلمين، ورفع الحواجز، وتخطي العوائق التي أراد من خلالها الأعداء إضعاف الأمة.

فشتان شتان بين ما أراده الله لهذه الأمة من خلال مدرسة الحج، وبين واقعها المهتري المعوج.

فيا له من تناقض بين قلوب مجتمعة، متآلفة في عرفة، ومسلم يعاني وأخوه ما عرفه!.

هكذا الحج -أيها الأحباب-: يحقق من خلاله المسلم هذه المكاسب العظيمة، خصوصا المكسب الروحي، وترتفع من خلاله موجة الإيمان في قلب المسلم، فيحس بشحنة إيمانية أقوي من أي شحنة.

ولما كان الحج بهذه المنزلة، وهذه المرتبة، كان الجزاء عليه عظيما، قال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"[رواه البخاري ومسلم].

اللهم أصلح أحوالنا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي