يا من يريد الطلاق! اصبر، فإن الصبر جميل، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل؛ يا من يريد الطلاق! إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أياماً، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعواماً؛ يا من يريد الطلاق! انظر إلى عواقبه الأليمة، ونهاياته الجسيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدِّد شملها، وتفرّق قلبها، بسبب ما جناه الطلاق عليها.
أيها المسلمون: حديثي معكم اليوم عن كلمة طالما أبكت العيون، وروَّعَت القلوب، وشتت الأُسَر، ومزَّقَت الشمل؛ يا لها من كلمةٍ صغيرةٍ! لكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، هل تعلمون ما هي هذه الكلمة؟ إنها كلمة: الطلاق!
كم فرّقت هذه الكلمة بين أزواج وزوجات، وروَّعَت قلوب أبناء وبنات. أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولاً صلباً، يُهدَم به صرح أسر وبيوتات؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ لا غرابة في ذلك لو عُلم أن تلكم الكلمة هي كلمة: الطلاق!
إنها كلمة أبكت عيوناً، وأجهشت قلوباً، وروَّعَت أفئدة؛ إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب؛ إنها كلمة ترتعد الفرائص بوقعها؛ لأنها تقلب الفرح ترحاً، والبسمة غُصّة.
إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، والجحيم والألم الذي لا يطاق.
فلله! كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطَّعَت من أواصرَ للأرحامِ والمحبِّين، وكم فرّقَتْ مِن شملٍ للبنات والبنين.
يا لها من ساعةٍ حزينةٍ! يا لها من ساعةٍ عصيبة أليمة، ولحظة أسيفة! يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها، وودَّعت أولادها، وفارقت زوجها، ووقفت على باب بيتها، لتُلقي آخر النظرات، على بيتٍ مليءٍ بالذكريات! يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
أيها المسلمون: ألا ما أعظم إنعام الله –تعالى- على المسلم بالزواج ، إنه منةٌ من أجلِّ مِنَن الله، جعله الله آيةً شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته؛ لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، ولكن ما إن يتنكب الزوجان، أو يتنكب أو أحدهما صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظُم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزيناً كسيراً، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويكبر الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء، ويشمت الحُسَّاد، وبعدها يتفرَّق شمل المؤمنين، وتتقطَّع أواصر المحبين.
أيها المسلمون: لقد كثُر الطلاق اليوم؛ هل تعلمون لماذا ؟ كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الزوج الذي يرعى الذمم، وعندما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً، ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلة حزينة باكية، مُطَلَّقَةً ذليلة.
كثُر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيَّعوا الأمانة والمسئوليات، وضيعوا حقوق الزوجات والبيوتات، والأبناء والبنات.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثُر الحُسَّاد والواشون؛ كثُر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يغفر الزلة، ويستر العورة والهنة، حينما فقدنا زوجاً يخاف الله، ويتقي الله، ويرعى حدود الله، ويحفظ العهود والأيامَ التي خلت، والذكرياتِ الجميلةَ التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات، الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقةَ اللسان، طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاّجة إلى الأسواق، إلى المنتديات واللقاءات، مُضَيِّعَة لحقوق الأزواج والبنات؛ يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ!!
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير؛ والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير، وجليل وحقير؛ حتى ينتهي الأمر إلى حالة مختنقة من الفتنة والشقاق تنتهي بالطلاق والفراق.
إن مثل هذه التدخلات الأسرية في الحياة الزوجية هي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال الآباء والأمهات يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج؟!
الخطبة الثانية
لقد كثُر الطلاق اليوم لما فُقِدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبَّان غفلةِ تقهقُرٍ عن مصدر التلقِّي من كِتَابٍ وسُنَّة، والحياة الزوجية -أيها المسلمون- حياة اجتماعية، ولا بُدَّ لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة.
إن الرجل أحق بالرئاسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك، وإنَّ ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لَمِن الانحراف الصرف، والضلال المبين.
ومع ذلك فإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد عبودية واسترقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجلّ؛ وكلٌّ من الزوجين بشَرٌ تام، له عقل يفكِّر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل، قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228]؛ كما أن قوامة الرجل لا تعني استغناءه عن زوجته، فالله -عز وجل- يقول: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187].
أيها المسلمون: الطلاق مصيبة عظيمةٌ. فيا من يريد الطلاق! اصبر، فإن الصبر جميل، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل؛ يا من يريد الطلاق! إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أياماً، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعواماً؛ يا من يريد الطلاق! انظر إلى عواقبه الأليمة، ونهاياته الجسيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدِّد شملها، وتفرّق قلبها، بسبب ما جناه الطلاق عليها.
إذا حدثتك نفسك بأن الطلاق حل تخرج به من المشاكل فلا تطعها حتى تستخِر الله، وتنزل حوائجك بالله، استشر العلماء، وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه، وخذ كلمة منهم تثبتك، ونصيحةً تقوّيك.
فإن ثبت اضطرارك إلى الطلاق فخذ بسنة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-، طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ، فتلك حدود الله، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[البقرة: 229]، وإذا طلقتها فطلِّقْها طلقةً واحدةً، لا تزد.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، طلقتُ امرأتي مائة تطليقة. فقال -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ حَرُمَت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً".
أيها المسلمون: اللجوء إلى الطلاق كاللجوء إلى بتر عضو من الجسم، فهو الحل الأخير للضرر الذي يصيب أحد الزوجين أو كليهما، ومن حكمة الله –تعالى- أن جعل الطلاق ثلاث مرات، قال تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]، سأل أبو رزين الأسدي النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- قائلاً: سمعت الله يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) فأين الثالثة؟ فقال – صلى الله عليه وآله وسلم -: "أو تسريح بإحسان" (رواه أبو داود).
الطلاق يكون حراماً إذا كان لغير سبب أو ضرورة، فالزواج نعمة، والطلاق من غير حاجة إليه فيه ضرر على الزوج والزوجة، ونبينا – صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "لا ضرر ولا ضرار".
ونرى اليوم -مع الأسف!- بعض الرجال ممن لم يُقدّر إكرام الله له، بجعل الطلاق بيده، يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائجَ وخيمةٍ عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن يُنزل أحداً على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق، بل ربما مازح بعض زملائه بالطلاق، أو راهن بالطلاق، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه، متزينة له، معدة طعامه، فيُروّعها ويقول لها احتجبي عني، والحقي بأهلك، فقد طلقتك!
وربما ثار فيطلق ثلاثًا بلفظ واحد متكرر، غير آبِهٍ لذلك، ولا مهتم أنه طلق طلاقاً بدعيّاً، ناسياً أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه، وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويعبثون ببراءة في جنبات البيت، وتذكر ما كان غائباً عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عضَّ أصابع الندم، وذرف دموع الحسرة والألم، وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها، ويتتبع الآراء الضعيفة، مذلاً نفسه، مضيِّعاً وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها المسلمون: إن الله -عز وجل- لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام، إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟ وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها ؟ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عليْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228].
إن النسيم لا يهبّ عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع؛ وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوعُ وَهْمٍ، ومن العقل توطينُ النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]؛ وقال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر" (رواه مسلم).
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدَاً كُلَّ عَثْرَةٍ *** يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي