لقد أصبحت الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، تلعب دورا كبيراً جداً في سائر مناحي الحياة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وأصبحت تصوغ المجتمعات، وتُمَحْوِر اتجاه التفكير، فلقد أصبحت وسيلة تربوية معتبرة، لا ينبغي إغفالها أبداً. إن الرياضة مطلوبة وواجبة، ولكن العبث مرفوض...
الحمد لله الذي سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل إلينا رسوله الأمين بالهدى ودين الحق، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
عباد الله: لقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يشجع على ترييض أجسام المؤمنين، ويربط ذلك بالإيمان والأهداف الصالحة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا" [ البخاري (2899 )]، وقال: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" [ مسلم (2664) ]، وقال: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَهُوَ لَعِبٌ، لَا يَكُونُ أَرْبَعَةٌ: مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعَلُّمُ الرَّجُلِ السَّبَّاحَةَ" [ النسائي (19741)].
والأحاديث في ذلك كثيرة فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم-، كان يرمي العشرة سهام فلا يخطئ واحدا، وإلى أنه سابق عائشة -رضي الله عنها-، وسبقته وسبقها، وإلى أنه نهى عن اتخاذ ما فيه روح غرضاً للرماة، ولقد كان سبب إسلام أكبر مصارع وقتها واسمه ركانة؛ أنْ صرعه الرسول، -صلى الله عليه وسلم- عدة مرات.
وروي عن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-، أنه قال: "علموا أولادكم الرماية، والسباحة، وركوب الخيل"، وأنه كان يقيم للشباب مسابقات الجري في المدينة.
فالتربية الرياضية البدنية ليست ترفاً، والرياضي رصيد للأمة، وحسبك أن الرياضيين يمتنعون - قسراً- عن كثير من العادات الضارة كالتدخين، ولم يكن اهتمام سيدنا عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه-، بالشباب والأولاد عبثا، فقد دلت الأبحاث على أن شخصية الإنسان الرياضي تكون أكثر نضجاً، ويكون صاحبها أكثر ثقة بنفسه، وغير انطوائي.
وكرة القدم وإن كانت لعبة محدثة ابتكرها الإنجليز، إلا أنه لا يخفى فائدتها على ممارسيها باكتساب القوة والصحة، كما فيها متعة ولذاذة لممارسيها ومشجعيها.
وقد لعبت كرة القدم من حيث لا نحتسب أدواراً كبيرة في إعانة الحق؛ من ذلك أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان مرشح الرئاسة الفرنسي يهاجم الإسلام والمسلمين مهاجمة أدت إلى أنْ كاد يفوز؛ لينفِّذ مخططا خطيرا، وأثناء نشوة انتصاراته، قال: إنه سينزع الجنسية الفرنسية من حامليها من ذوي الأصول العربية، فثارت الجماهير، فكأس العالم وقتها مقبل، وقالوا: إن اللاعب الجزائري الأصل زين الدين زيدان، أهم عندنا من كل ما قلته وتقوله، وأسقطوه في الانتخابات سقطة لم يستطع أن ينهض منها، وإن الله لغالب على أمره، وموهن كيد الكافرين، لا يهدي كيد الخائنين.
ولقد أسلم عدد من اليابانيين، عندما قام لاعب مصري -وإنه لَداعية ملهم،- بالأذان وأداء الصلاة جماعة مع أعضاء فريقه، وهنا قامت التربية بالرياضة وبالقدوة بالدور المنشود، فتساءل بعض الجماهير عمَّا فعلوه، فأخبروهم وعلَّموهم، فأسلم بعضهم لله -عز وجل-، وإن الأذان والصلاة الجماعية والحج، من الأمور التي أدت لإسلام كثيرين، فهي جذَّابة آسرة.
أما التربية بالقدوة، فإن كثيرا من الذين اتخذهم الغربيون نجوماً رياضية يهتدون بها، قد أسلموا لله، ولقد كان إسلام محمد علي كلاي، لاعب الملاكمة الأمريكي الشهير، سببا في اهتداء كثيرين.
وفي كرة القدم، كانت مفاجأة لخمسة وأربعين ألف متفرج، وملايين المشاهدين بالتلفاز، أن سجد اللاعب هنري بميدان هايبري بأوروبا بعد إحرازه هدفاً، لتثير الواقعة ضجة إعلامية، فلقد أسلم اللاعب! ولقد أسلم لله من لاعبي كرة القدم الأوربيين إنيلكا، وفان بيرس لاعب الأرسينال، وريفيري الفرنسي، وغيرهم، ولا يخفى ما في إسلامهم من أثر بليغ على الجماهير.
إن ذوي القلوب الخيرة من لاعبي الكرة سدوا ثغوراً، فقد أنقذ لاعبٌ مسلم مالي اسمه "كانوت"، المسجد الوحيد في برشلونة الإسبانية من الإزالة لانتهاء إيجار الأرض، ومطالبة المالكين بمبالغ فاقت الطاقة، فدفع اللاعب سبعمائة ألف دولار، راتبه لسنة كاملة، واشترى العقار كمسجد، فسعد المسلمون هناك، وقال رئيس هيئتهم: لو لم يفعل ذلك لفقدنا المسجد الوحيد الذي نصلي فيه! ولهذا اللاعب كذلك منظمة ترعى الأيتام.
يمكن إذن لأهل التربية والدعوة، تسخير هذه الرياضة، التي أصبحت الأكثر رواجاً، في خدمة الدين والمجتمع، وأن نجعل من كرة القدم مبعثا للمحبة والوئام والتعارف، فنحوِّل ذاك الخيال إلى حقيقة؛ إضافة إلى عدم الغفلة عن اللاعبين، وتنبيههم لدورهم الرائد.
أما أن تصبح الكرة سبباً للتدابر والتباغض والسباب، لاهية صارفة عن العظائم، فهذا ما ينبغي تصحيحه، وقد اشتعلت الحرب، وتحركت الدبابات والآليات، ونتج عن ذلك عشرات القتلى، مئات الجرحى، بسبب مباراة في كرة القدم! زعمت إحداهما أن الحكَم ظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون!.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر 18: 19]
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيّئاتِ أَعمالِنا، من يهده اللهُ فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأَشهدُ أن لا إِله إِلّا الله، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه.
أَمّا بعد:
أيها الناس: لقد أصبحت الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، تلعب دورا كبيراً جداً في سائر مناحي الحياة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وأصبحت تصوغ المجتمعات، وتُمَحْوِر اتجاه التفكير، فلقد أصبحت وسيلة تربوية معتبرة، لا ينبغي إغفالها أبداً.
إن الرياضة مطلوبة وواجبة، ولكن العبث مرفوض، ولقد قالوا: إن كرة القدم تلعب دورا تربوياً بالتقريب الاجتماعي بين الشعوب، وإذكاء روح التنافس الشريف بينهم، ولمهم في شمل واحد، وإيجاد شيء مشترك يجمع بينهم، ليتعارفوا ويتآلفوا ويتكاتفوا.
إن هناك أولويات يجب أن تُرَتَّب، إذا افترضنا أنه لا بأس من أن تشجع كرة القدم، أما أن يمتد الأمر إلى هدم الأسر وتشريد الأبناء، فهذا ما يحتاج للتوقف، بل وصل الأمر إلى أن نساء تم تطليقهنَّ من أزواجهن بسبب شجار حول مباراة لكرة القدم، ويجُرح مئات المشجعين في بعض المباريات بسبب خلافهم حول نتيجة المباراة، مما يؤدي إلى تدخل الشرطة لفض هذه النزاعات.
ثم إنـي رأيـت بعدُ شـبابا *** وشيـوخا في ثـورة البـركان
قلت مابـالهم؟ فقالوا جماهيـ *** ـر فريق قد حاز كأس الرهان
أوهذا فلاحكم؟ ليتكم كنـ *** ـتم فلحتم في العلم أو في الطعان
لا جماهيـر في المـدارج للجا *** رين خلف الهـوا على الميـدان
أيها الإخوة المؤمنون: إننا -نحن الجماهير- مسؤولون عن هذا الواقع، فإذا كنا نشجع كرة القدم، ونشهد المباريات، فإن هذا لا يعني أبدا أن تصبح شغلنا الشاغل، وهمنا الأكبر، بها نخاصم، ومن أجلها نقاتل، ونعطل مصالحنا، ونطلِّق نساءنا.
إننا، قد نموت أثناء مباراة، وقد حدث هذا في دولنا، توقُّفُ قلبٍ من جرَّاءِ هدف، لقد كان هدفاً قاتلاً حقاً، بل إنه، فضلا عن الذين ماتوا بالسكتة القلبية بعد مباراة ختامية للبرازيل في كأس العالم، انتحر الكثيرون! ما هذا؟ أشيطان جاثم على العقول يديرها كيف شاء؟.
فاسْتبينوا قصْدَ السَّبيلِ، وَجِدُّوا *** فالمعالي مخطوبةٌ للمُجِدِّ
تخيلوا أنه في دولة عربية فقيرة، يعاني أهلها من الجوع، وصل سعر لاعبٍ إلى مليون دولار، مع راتب شهريّ قدره عشرة آلاف دولار، ويقول الرياضيون هناك: إنه قليل الثمن، إن سعر ذلك اللاعب يساوي سعر كل العلماء وأساتذة الجامعات في تلك الدولة، وراتبه يساوي راتب أربعين طبيبا فيها.
وهذه كلها سفاهات تضحك منها العقول السوية, وتستغرب منها الفطر المستقيمة, وقد نهانا ديننا عن ذلك كله فقال: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء 151: 152]، وقال: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام : 141].
يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" [ البخاري (6473 ) مسلم (1715) ].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اصلح شباب المسلمين، واهدهم إلى سواء الصراط، ووفقهم لكل خير، وجنبهم كل شر وضير، واجعلهم قرة أعين للأمة يارب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي