مظاهر الانقياد والاتباع في عبادة الحج

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. استسلام المسلم وانقياده لله .
  2. في الحج تتجلى مظاهر الانقياد .
  3. تأكيد النبي على أمر الانقياد في الحج .
  4. الحج تربية على معاني العبودية .
  5. مظاهر الاتباع والانقياد في الحج. .

اقتباس

ففي السعي بين الصفا والمروة أسرار ومعان كثيرة لا يعلمها إلا الله، وما على العبد إلا الانقياد والتسليم لله، إذ لا معرفة للنفوس بهذا، ولا اهتداء للعقول إلى معرفة كثير من تلك الأسرار، فلم يبقَ إلا الامتثال للأمر من حيث أنّه أمر واجب الاتباع فقط. فلماذا السعي سبعاً مع أن الطواف كان سبعاً؟ ولماذا يهرول في مكان ويمشي في مكان داخل المسعى نفسه؟. لماذا فضل الله يوم عرفة بالذات؟...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزاً وحصناً، وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، والصلاة والسلام على محمد نبي الرحمة وسيد الأمة، وعلى آله وصحبه الطيبين أتباع الحق، وسادة الخلق.

أما بعد:

عباد الله: إن المسلم لا يسمى مسلماً إلا عندما يستسلم لله وينقاد له، ويكون عبداً حقيقاً لله، خاشعاً ذليلاً له، لا يعترض على أوامره، ولا يرد قوله، ولا يخالف شيئاً مما جاء به. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب : 36]، ويقول: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء : 65].

أيها الناس: إن من أعظم العبادات التي تتجلى فيها مظاهر الاتباع والانقياد لله ورسوله هي "عبادة الحج". بل ما من عبادة من العبادات يتجلى فيها الانقياد التام، والمتابعة المطلقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كالحج؛ فالحاج يتقلب في مناسك متنوعة، ويتنقل بين مشاعر متعددة، لا يعقل لكثير منها معنى، سوى الامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حرص حرصاً عظيماً في حجته المباركة على التنبيه على أمر الاتباع والانقياد له في الحج، وأمر صحابته الكرام وأمته من بعدهم على أن يأخذوا مناسك الحج عنه ويتنبهوا لها، وينظروا إليه في كيفية أدائها؛ حتى يكون حجهم من بعده -صلى الله عليه وسلم- حجاً نبوياً صحيحاً بوفق ما أراد الله، وعلى منهج سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. يَقُولُ جَابِرً بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" [مسلم (1297)].

عباد الله: إن الحج يربي العبد على معاني العبودية والاستسلام والانقياد لشرع الله، فالحاج حينما يؤدي أعمالاً غير واضحة المعاني، ويفعل أفعالاً لا يدري في معظم الأحيان ماهي الحكمة منها، فإن ذلك يكون أعظم دافع له على التسليم لله والانقياد له. فلو سأل الحاج نفسه لماذا مكة؟ ولماذا اختارها الله لأن تكون محلاً لبيته العتيق مع أنها لا تعدو أن تكون وادياً كغيرها من الوديان بل إن من الوديان ما هو أجمل منها وأنضر؟. وما السر في المواقيت الزمانية للحج لماذا اختار الله تلك الأشهر الثلاثة -شوال وذو القعدة وذو الحجة- للحج؟ ولماذا اختار أياماً معينة من ذي الحجة وجعلها أيام الحج لماذا لم يكن غيرها؟.

يخرج الحاج من بيته فيحرم للحج هنا يأمره الشارع أن يخلع ملابسه التي عليه ويلبس ثياب الإحرام فلماذا لا يؤدي الحج في ثيابه المعتادة؟ ولمَ أمر بخلعها ولبس ملابس الإحرام؟ ولماذا تكون ملابس الإحرام بيضاء؟ ولماذا أمرنا بلبسها بطريقة الاضطباع المعروفة؟ لماذا هذا كله هنا يقف المسلم منقاداً لله مستسلماً له. ويعلن الحاج انقياده واستسلامه حين الإحرام فيقول: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ, إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ. وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ" فهذا إعلان صريح ومكرر للاستسلام لله.

إن معنى كلمة "لبيك" تعني: أننا طائعون لك ياربنا، مقيمون على هذه الطاعة التي هي طاعة خالصة لك، ليس لأحد سواك فيها شيء، فنحن نعبدك وحدك ولا نعبد أحداً غيرك، ونحن نتبع شرعك الذي جاء في كتابك، أو بلغه لنا رسولك في سنته, نحل ما أحل ونحرم ما حرم، ونعتقد صواب ما جاء فيه، وبطلان ما خالفه، ونتابع رسولك في كل شؤوننا وأمورنا، ونحن مقيمون على ذلك مستسلمون له، لا نغادره طرفة عين.

ولا حظوا كيف تكررت كلمة لبيك في التلبية عدة مرات، مما يعني إعلان التسليم الكامل المطلق لدين الله وشرعه ونهج رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكأن الحاج يقول: استجابة متكررة لك يا رب، فلبيك استسلاماً وخضوعاً وانقياداً لك مرة بعد مرة.

أيها الناس: يؤمر الحاج بالتقشف والزهد، وتجنب الزينة في بعض المواضع، فلا يحل له أن يتطيب، ولا أن يتزين، ولا أن يمس شيئاً من شعره بقص أو حلق، ويكون ذلك في حالة الإحرام، لكن ذلك كله يجوز له فعله بعد أن يتحلل من إحرامه، فلماذا قبل الإحرام يجوز له التطيب والتزين وبعد الإحرام لا يجوز؟ ولماذا حرمت عليه محظورات معينة فقط دون ما سواها؟ هنا يأتي درس التسليم والانقياد لله -تبارك وتعالى- فالآمر بالتزين قبل الإحرام هو الله، والناهي عن التزين بعد الإحرام هو الله، وما على العبد المطيع لله إلا أن يقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة : 285]، ويقول: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران : 7].

والحاج عندما يطوف حول الكعبة يعلم أن هذه عبادة من العبادات، أمر بها بهذه الطريقة أن يطوف حول الكعبة سبعة أشواط، مبتدئاً طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة،  فيحاذي بجميع بدنه جميع الحَجَر بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحَجَر، ثم يبتدئ طوافَه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجر ويدور بالبيت، فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، ثم يفعل كذلك، حتى يتمم سبعاً.

فما السر في هذه الطريقة؟ وما السر في العدد سبعاً؟ لماذا لم يكن أكثر أو أقل؟ ولماذا يستلم الحجر الأسود ويقبله؟ لماذا لا يقبل غيره من المواضع والأماكن في الكعبة نفسها؟ كل هذه الأسئلة الأصل في جوابها هو التسليم والانقياد لله -تبارك وتعالى- وليس من الضروري أن يعرف الإنسان الجواب عنها؛ لأن الله أمره بهذا فقال: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : 29]، وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر الانقياد والاتباع في هذه العبادة العظيمة -عبادة الحج- وهذه الشعيرة العظيمة -شعيرة الطواف-.

ومن هنا نعلم سر التسليم المطلق والانقياد الكامل في قول عمر-رضي الله عنه- للحجر عندما أراد تقبيله، فقال مخاطباً له : "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ". [البخاري (1597)]. وعند البخاري أيضاً أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ لِلرُّكْنِ: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ" [البخاري (1605)]. يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع فـي أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه" [فتح الباري (3/463)].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الحمد لله الذي جعل حج بيته العتيق خامس أركان الإسلام، وجعله سبباً لمغفرة الذنوب والآثام، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: إننا نعلم مما تقدم أن الحج كله ما هو إلا معنى من معاني الاستسلام لله، ومظهراً من مظاهر الانقياد له -جل جلاله وعز كماله- فمعظم الشعائر التي تؤدى فيه تعطي دلالة واضحة على التسليم؛ لأنها غير معقولة المعنى وحكمها خافية علينا.

ففي السعي بين الصفا والمروة أسرار ومعان كثيرة لا يعلمها إلا الله، وما على العبد إلا الانقياد والتسليم لله، إذ لا معرفة للنفوس بهذا، ولا اهتداء للعقول إلى معرفة كثير من تلك الأسرار، فلم يبقَ إلا الامتثال للأمر من حيث أنّه أمر واجب الاتباع فقط. فلماذا السعي سبعاً مع أن الطواف كان سبعاً؟ ولماذا يهرول في مكان ويمشي في مكان داخل المسعى نفسه؟. لماذا فضل الله يوم عرفة بالذات؟ ولماذا اختار جبل عرفة للوقوف عليه مع أنه جبل كسائر الجبال؟ ولماذا اختار يوم التاسع؟ ولماذا كان الوقوف في وقت معين دون سواه؟.

يرمي الحاج الجمرات فما سر الرمي ولماذا بسبع حصوات؟ ولماذا يتكرر العدد سبعا في الطواف والسعي وفي الرمي أيضاً؟ ولماذا كان الرمي في أيام مخصوصات معدودات دون سواها من الأيام؟ كيف يأخذ الحاج الحجر في الرمي ليرميه ويأخذ الحجر عند الكعبة ليقبله فياسبحان الله حجر يرمى وحجر يقبل ما السر في ذلك؟ إنها قمة العبودية والانقياد لله.

لو تأملنا في كثير من شعائر الحج لوجدنا أنها شرعت اتباعاً لإمام المستسلمين سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فـالنحر والسعي بين الصفا والمروة والشرب من زمزم وغيرها، كلها كانت مظاهراً من مظاهر الاتباع لخليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- الذي كان مستسلماً لله منقاداً له في كل شيء.

لقد أكد سيدنا إبراهيم -عليه السلام- معاني الاتباع لله والتسليم له في مواطن كثيرة، فحينما ألقي في النار استسلم لله وقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" وحينما أمر أن يأتي بأهله إلى الوادي المكفهر الذي سماه الله (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم : 37] رضي بذلك وقبل به وتركهم هناك، وعندما أمر بذبح ولده وفلذة كبده إسماعيل استسلم وأطاع.

وهكذا الحاج يجب أن يكون حاله في الاستسلام لله والانقياد له كحال أبي الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الذي قال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:128]. واجعلنا مسلمين لك، أي: مستسلمين لشرعك، خاضعين لأحكامك، ولولم ندرك الحكمة من ورائها، فإن هذا هو مقتضى التسليم والانقياد للواحد الأحد -جل جلاله وعز كماله-.

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم تقبل من الحجاج حجهم، واغسل ذنوبهم، ونقهم من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأعدهم إلى أهلهم سالمين غانمين فائزين، وبلغنا كما بلغتهم حج بيتك الحرام يا أرحم الراحمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي