عدم مداعبة الأبناء خلل تربوي

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. حاجة الأولاد للمداعبة .
  2. المداعبة لا تنافي الهيبة .
  3. نماذج من مداعبة الرسول للأولاد .
  4. أثر المداعبة على نفسية الطفل .
  5. رسالة للآباء والأمهات .

اقتباس

فالأولاد الذين لا يلاقون من أهلهم الأنس والانبساط، ولا يستمعون منهم إلى النكت والهزل وروح الفكاهة، يعوضون ذلك بإدمان الجلوس مع غيرهم، وربما يكون من يجالسونهم من رفاق السوء وأهل الشر، أو يقوم هؤلاء الأبناء بقضاء أوقاتهم مع الأفلام المسلية والمقاطع المضحكة التي تمتلئ بها مواقع اليوتيوب والانترنت، ومن هنا يبدأ فساد الطفل وانحرافه...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا أسباب الوداد، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، أحمده -سبحانه- وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو الكريم الوهاب.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، أمرنا بمداعبة الأولاد وحث بقوله وفعله على مداعبتهم والتلطف معهم كما ورد ذلك في السنة والكتاب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.

أما بعد:

عباد الله: نريد اليوم أن نتحدث حول موضوع مهم جداً نشعر أننا مقصرون فيه، ومتساهلون به، مع أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- استخدمه وأمر به، إنه موضوع مداعبة وممازحتهم.

إن أبناءنا -وخاصة الصغار منهم- بحاجة ماسة إلى من يأخذ على أيديهم، ويدخل إلى نفوسهم، ويزيل الهموم والأحزان المعلقة في قلوبهم، وينشر الفرح والانبساط والسعادة في أنفسهم، ويتبسط إليهم ويستعطفهم.

وهذا هو عين ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام بفعله, فقد روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَصِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَثِيرَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَهُمْ صِبْيَانُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَسْتَبِقُونَ فَيُقَبِّلُهُمْ" [فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل (1922 )].

إن هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أهمية مداعبة الأبناء والمزح معهم، والقيام بتسليتهم، فهذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يصف أبناء عمه العباس عندما كانوا صغاراً ويسابق بينهم، فإذا تسابقوا ووصلوا إليه قام بتقبيلهم والانبساط إليهم والمرح معهم -صلى الله عليه وسلم-.

فأين نحن من هذه الأخلاق النبوية العالية؟ بل أين نحن من عشر معشار هذا مع أبنائنا وأطفالنا؟ فلربما نستثقل المزح معهم بالقول والكلام فضلاً عن المزح بالفعل كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبناء عمه.

ولكن صدق الله حينما قال عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : 4] وقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128].

إن بعض الآباء -أصلحنا الله وإياهم- يظن أن استخدام المزح مع الأبناء والقيام بمداعبتهم سيؤدي إلى إسقاط هيبته، والتقليل من قيمته عند أبنائه، ويرى أنه إذا لم يكن جاداً معهم دائماً وأبداً فإنهم سيخرجون عن سيطرته.

وهذا ظن خاطئ وتصور تربوي قاصر، لأن حب المزاح وخاصة لدى الأطفال الصغار جبلة بشرية وطبيعة إنسانية، ومن خلاله يستطيع المربي تقويم أبنائه وتربيتهم، ومعرفة أحوالهم، والاطلاع عما يدور في خواطرهم.

إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم : 43]، أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، فكيف يأتي هذا الأب فيستخدم مع أبنائه أسلوب واحد فقط هو أسلوب الشدة والعنف والبكاء، ويترك المداعبة والمزاح معهم، ثم يدعي أن هذا هو الأسلوب التربوي الأمثل الذي لن يستقيموا إلا به.

إن العكس هو الصحيح فالأولاد الذين لا يلاقون من أهلهم الأنس والانبساط، ولا يستمعون منهم إلى النكت والهزل وروح الفكاهة، يعوضون ذلك بإدمان الجلوس مع غيرهم، وربما يكون من يجالسونهم من رفاق السوء وأهل الشر، أو يقوم هؤلاء الأبناء بقضاء أوقاتهم مع الأفلام المسلية والمقاطع المضحكة التي تمتلئ بها مواقع اليوتيوب والانترنت، ومن هنا يبدأ فساد الطفل وانحرافه.

بل إن بعض الأبناء يتضايقون جداً من أبيهم بسبب شدته عليهم، وعدم مداعبته لهم، وبالتالي يفرحون إذا خرج من البيت أو سافر من عندهم، ويتحينون الأوقات التي يكون فيها غير موجود حتى يأخذوا راحتهم وانبساطهم، فإذا جاء وبمجرد دخوله عليهم لزم كل واحد منهم مكانه ولم يبارحه، وكأنه صار شخصية آخر غير الشخصية التي كان عليها قبل مجيء والده.

إن من عجيب فقه الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه أنه عندما ذكر هذه الآية: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم : 43] أفرد لذلك باباً سماه: (باب التبسم والضحك) وذكر فيه عدداً من الأحاديث التي جاء فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تبسم وضحك.

وفي مسند الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي إِحْدَى صَلاَتَي الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ، أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْريْ صَلاَتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِي: رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ, قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَي الصَّلاَةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ" [ أحمد (28295 )].

فانظروا حتى في الصلاة حينما صعد الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- تأخر -عليه الصلاة والسلام- في سجوده، وبقي ساجداً لم يرفع من سجوده أكراماً له، وحتى لا يخدش مشاعره أو يثير حفيظته بشيء لأنه لازال صغيراً، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في صلاة.

وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَهُوَ يَقُولُ: نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ الْعِدْلاَنِ أَنْتُمَا" [ المعجم الكبير للطبراني (2661 )].

هل تأملتم هذا المشهد؟ وهل فكرتم في هذه الصورة اللطيفة من سيد البشر وأعظمهم خلقاً وتواضعاً -صلى الله عليه وسلم-، يمشي على يديه وركبتيه وعلى ظهره الشريف ابنيه الحسن والحسين وهو يداعبهما يقول لهما: "نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ الْعِدْلاَنِ أَنْتُمَا".

فما أرفعها من أخلاق، وما أجملها من شمائل، وما أعزها من صفات نبوية، يركبهما على ظهره، ويمشي بهما قليلاً من باب المداعبة، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الكرام.

وروى البخاري عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ -رضي الله عنه- قَالَ: "عَقَلْتُ مِنَ النَّبِي  -صلى الله عليه وسلم- مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ" [البخاري (77 )]. أي حفظت في ذاكرتي رشة من الماء رشها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فمه في وجهي "وأنا ابن خمس سنين" أي وأنا حينئذ صبي صغير لم أتجاوز الخامسة من عمري.

هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداعب الأطفال ويمازحهم، فكان يداعبهم -عليه الصلاة والسلام- بالبسمة الحانية، والعبارة المضحكة، والفكاهة المباحة، والفعل المسلي، بل إلى حد أنه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- يمج الماء من فمه الشريف في وجوه الأطفال مداعبة لهم ومزحاً معهم.

ومن عجيب ما يروى أيضاً في هذا الباب ما رواه ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُدْلِعُ لِسَانَهُ لِلْحُسَيْنِ، فَيَرَى الصَّبِيُّ حُمْرَةَ لِسَانِهِ، فَيَهَشُّ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ: أَلَا أَرَى تَصْنَعُ هَذَا بِهَذَا، وَاللَّهِ لَيَكُونُ لِيَ الِابْنُ قَدْ خَرَجَ وَجْهُهُ وَمَا قَبَّلْتُهُ قَطُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ". [صحيح ابن حبان(5596)]

سبحان الله! إن للمداعبة تأثير إيجابي على سلوك الأبناء، وتغير من صفاتهم وسلوكياتهم، وتشعرهم بالرحمة والمودة، وتجعلهم يميلون بسرعة إلى من يداعبهم ويرفق بهم، ولهذا كان الصبي يهش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقبل عليه، ويتجه له عندما يداعبه النبي –صلى الله عليه وسلم- بإخراج لسانه له فيفرح الطفل وينبسط ويضحك عندما يرى حمرة لسانه -صلى الله عليه وسلم-.

فأين نحن من هذه الأخلاق النبوية العظيمة مع أبنائنا وأطفالنا؟ أم أننا لا نعرف إلا القسوة والغلظة التي أنكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على عيينة بن حصن, حيث كان لا يمازح أولاده ولا حتى يقبلهم، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم لا يرحم".

قلت ما سمعتم واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسول الله، الذي أمرنا ربنا بالاقتداء به، والتأسي بهديه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

عباد الله: قد يجهل الكثير من الآباء والأمهات أهمية المداعبة للأبناء على الرغم من أهميتها، ولا يدركون أن نفسيات الأطفال لا تتربى في البداية إلا على هذه الأساليب البارعة، ولا يستقيمون إلا بها، ولا يتم إرشادهم وتوجيههم في بعض الأحيان إلا من خلالها.

لهذا فإن على الأب أن يكسب حب أبنائه، وكذلك الأم تكسب ثقة ومحبة أبنائها، وذلك بالملاعبة والمجاملة والممازحة، وإسماعهم الكلمات المحببة والإيثار والحب وما تبتهج به نفوسهم، كما أمر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الطريقة الصحيحة والأسلوب الأمثل في تنشئة الأطفال، وتربيتهم التربية الصحيحة، ضاربا المثل الأعلى للآباء في كل زمان ومكان؛ ليكونوا على خلق كريم متسامح مع الأطفال، مداعبين لهم ممازحين معهم، ولا يمنعهم ما هم عليه من وقار وهيبة ومكانة من تحقيق ذلك؛ حتى ينشأ الأطفال النشأة النفسية الصحيحة.

وبهذا الأدب الرفيع يجب أن نقتدي، وعلى هذا الحنان والعطف يجب أن نكون, ولا يظل الواحد منا متجهم الوجه مقطبا متزمتا تجاه أبنائه أو سواهم، جاف النفس، لئيم السريرة وكأنهم ليسوا بأولاده، فإن هذا ليس من هدي الإسلام ولا من أخلاقياته التي أمر بها، فإن من لا يرحم لا يرحم كما أخبر بذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على خير مربي وأعظم قائد، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللهم أعنا على تربي أولادنا وطلابنا وممازحتهم والانضباط معهم، وارزقنا الاقتداء بهدي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق ذلك، وجنبنا وإياهم كل شر، ووفقنا وإياهم لما تحب من الهدى والخير.

------

المرجع: 13 خللا في التربية لفضيلة الشيخ محمد المحيسني


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي