التربية بالقصص

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. من مميزات القصة .
  2. فوائد قصص القرآن   .
  3. مميزات قصص القرآن .
  4. استغلال الأعداء للقصص في إفساد المسلمين .
  5. أثر هذه القصص في مجتمعاتنا .

اقتباس

وحتى ترى بعينيك الدور الخطير لمثل تلك القصص فانظر إلى مجتمعاتنا، إن تعسر الزواج، والبطالة، وتفشي الجرائم، وما إلى ذلك من مشكلات، إنما هو نتاج مسلسلات الماضي السحيق، التي مجدت التحرر، وسفَّهت تعدد الزوجات، وبذرت عقدة الدونية في النساء، وحطَّت من قدر المهن البسيطة التي هي أساس الإنتاج، ورسَّخت لخَلق الطبقية والعنصرية، وأعطت الفاسدين دروساً ووسائل لارتكاب الجرائم...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل القرآن نوراً لا يُطفأ مصباحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، ومنهجاً لا يضلُّ سالكه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تُهدم أركانه، وشفاء لا تُخشى أسقامه، وعِزَّاً لا يُهزم أنصاره، وحقَّاً لا يُخذل أعوانه.

الحمد لله القائل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : 3]، وأشهد ألا إله إلا الله جعل القرآن معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الذي أوتي القرآن ومثله معه -صلى الله عليه وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: إن الناس -كل الناس- يحبون سماع القصص، فالقصص تسحر النفوس، وتستثير الخيال، فيتتبَّع مشاهدها المواقف، ويتخيل أنه داخلها بكيانه، فيتفاعل معها بوجدانه، ويقيس شخوصها بميزانه، فيوافق هذا، ويستنكر على ذاك، وتلك فطرة جُبل عليها الناس، ولهذا فقد استغل أهل التربية تلك الوسيلة، لما لها من دور كبير، وأثر بليغ، ونفع عميم.

ولأجل ذلك، فإنك تجد أن القرآن الكريم، والسنة المطهرة، متوسِّعيْن في استخدام القصة، بكل ألوانها، فمرة يذكر القصص التاريخية، ومرة يحكي القصص الواقعية، ومرة يصور الأحداث المستقبلية التي قد تقع في أي لحظة من الزمان.

يقول الله -تبارك وتعالى- مبيناً المنهج القرآني في جانب القصص وأثر القصة التربوي على النفوس والقلوب: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : 3]، ويقول -جل وعلا-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف : 111]. وأمر الله النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : 176].

إن الناس ينفرون عادة من وسائل التربية، كالوعظ والعقوبة، لكن أسلوب القصص وسيلة تربوية ساحرة يعشقها الناس، بل وينفقون الأموال لتحصيلها، بل إنها وسيلة تمكِّنك من أن تجعل أولادك يطلبونها منك، ويحملونك على تربيتهم بها, فلابد لنا من الاهتمام بها؟.

أيها المسلمون: إن في القصص القرآنية تثبيت للفؤاد، وحث على الصبر، وإيضاح لحسن العاقبة المترتبة عليه، وفي قصص القرآن أيضا تبيين لمنهج الدعوة وفقهها، وأن على الداعية البلاغ المبين، وليس عليه بالنتائج وتحقيق النصر أو عدمه، بل عليه بالاحتساب والصبر مهما تكون النتيجة، وأن يفقه ترتيب الأولويات ويقدم الأهم فالأهم، ومعالجة القضايا مهما كبرت بالحكمة والروية والمحافظة على الأصول.

وفي القصص القرآنية حث على مكارم الأخلاق، والتثبت في الأحكام على الناس، وتعلم الشجاعة، وتقبيح المساوئ والتنفير منها وغير ذلك الكثير.

والسنة المطهرة ملآى بالقصص، من ذلك: قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وقصة الذي قتل مائة نفس، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع، وقصة أصحاب الأخدود، وغير ذلك الكثير.

وينبغي الإشارة إلى أن القصة تتميز بأنها تتضمن وسائل تربوية أخرى، كالقدوة والموعظة والعقوبة وكل تلك القصص يمكن للمربي، بعد إفادته منها، تبسيطها وتقديمها للناشئة، شفاهة أو كتابة.

أيها الناس: إن القصة فن محبب للنفوس، لذا تفرعت منها اليوم فنون تُدرَّس، فالقاصُّ شخصٌ موهوب، يكتسب بالتعلُّم والتدرُّب ما يقوِّي موهبته، ليخرج عمله مقبولاً سائغاً, ومن تلك الفنون فن الحوار، وطريقة السرد، والتنغيم، وقوة العرض والتصوير، واختيار اللحظة الحاسمة لتوجيه العبرة، وغير ذلك من فوائد القصص وآثارها.

وإنك لتجد القصة في القرآن الكريم جمعت بين بلاغة القرآن وتلك الفنون، فكانت أبلغ ما يتلقاه القارئ من تعبير قصصي.

إن القرآن ليس في أصله كتاب قصص، وإنما استخدم القصة للغايات التي تنزل من أجلها، وراعى فنها بدقة، مما يجعل يد المربين طليقة في استخدام هذا الفن، بشرط أن تكون القصة نظيفة.

وليس المقصود بنظافتها أن لا تعرض النفس إلا شريفة، فصحيحٌ أن القرآن الكريم اختار للقدوة نفوساً مستعلية، تغري بالارتفاع، وتحث على الاتِّباع، واختار من نفس المنحرف اللقطة التي تبين سواد قلبه، فيحذر المرء من سوء عاقبته، لكنه في القصص التي تتسع للعرض والتحليل، يعرض النفس كاملة بما فيها من ضعفٍ، ولا يجعل من لحظة الضعف بطولة تستحق الإعجاب، كما تفعل بعض الفنون المتأثرة بالتفسير الحيواني للإنسان، إنما يُسرع ليُسلِّط الضوء على لحظة الإفاقة، فلحظة الإفاقة هذه، في حقيقتها، هي الإنسان السوي.

كذلك فعل القرآن الكريم عندما عرض الفتنة التي وقع فيها موسى ويوسف وداود وسليمان، (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص 30: 35].

ومن النقاط البارزة في القصص القرآني أنه يمر على ذكر الفاحشة دون توصيف ولا تفصيل، بل يمر عليها عابراً لينطلق إلى الأهداف العليا، كتمتع الناس بحقوقهم، وإقامة الحق والعدل بينهم، فهذا هو ما يستحق التوقف وإعمال الفكر، أما لحظة الجنس فلا تستحق الوقوف عندها بأكثر من مجرد الذكر.

ومن الواجب اتباع هذا المنهج في طريقة عرض الفاحشة، لتلتقي مطالب الفن ومطالب التصور الإيماني دون تعارض أو نزاع؛ لأن الإسلام يستفيد من القصة في التربية دون أن يخرج عن أهدافه الأصلية، أو يحوِّل الفنَّ إلى خطب وعظية سطحية. يقول الله –تبارك وتعالى- في محكم التنزيل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : 62].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد :

أيها المسلمون: لقد منّ الله علينا بدينه الحنيف، المتسق مع الفطرة، المشْبِع للرغبات الإنسانية التي أودعها الله في البشر، ومن ذلك ميلهم للقصص والحكايات، فينبغي علينا الحرص على سد هذا الفراغ عند أنفسنا وأهلينا وأولادنا بتعليمهم قصص القرآن وحكايات أهل الإسلام.

ولنعلم أن أعداء ديننا الحنيف قد وقفوا لنا بالمرصاد، فما وجدوا سبيلا نافذاً إلينا إلا اتخذوه، فصارت القصص والحكايات تعيش معنا في عقر دارنا، فالأفلام والمسلسلات، للصغار والشباب والكبار، وهناك قنوات متخصصة تعمل ليل نهار، تبث سموما مدروسة مدسوسة بعناية قد لا يدركها الكثير منا ولا ينتبه لشرها وسمومها.

كما أنهم يتعمدون -وخاصة في القصص التي تبث للكبار- تشويهاً متعمداً للتاريخ، وفصلاً للناس عن ماضيهم العريق، ورسم صورةٍ قبيحة عن المجتمعات الإسلامية القديمة وأسلاف الأمة.

وثمة قصص تمجد الفاسقين، وتضفي عليهم لوناً من الأمور التي يعشقها الناس، كالنضال والكفاح، تلك الأمور التي لا يقوم بها إلا النبلاء من ذوي الهمم العالية،  فيقبل الناس على إنتاجهم، ويختلط عندهم الحابل بالنابل، كل تلك القصص التي تلعب هذا الدور الخطير تبث بشكل مثير وخاصة في شهر رمضان الفضيل.

يجلس الواحد منا ببراءة مع أسرته يتلقى تلك السموم, التي ولا شك ستحدث تغيراً اجتماعياً, إذا لم تجد من يتنبه لها ويتابعها ويسلط الضوء على مقاصدها.

فليس الأمر أمر عُريٍ وحسب، وحتى ترى بعينيك الدور الخطير لمثل تلك القصص فانظر إلى مجتمعاتنا، إن تعسر الزواج، والبطالة، وتفشي الجرائم، وما إلى ذلك من مشكلات، إنما هو نتاج مسلسلات الماضي السحيق، التي مجدت التحرر، وسفَّهت تعدد الزوجات، وبذرت عقدة الدونية في النساء، وحطَّت من قدر المهن البسيطة التي هي أساس الإنتاج، ورسَّخت لخَلق الطبقية والعنصرية، وأعطت الفاسدين دروساً ووسائل لارتكاب الجرائم، وخبَّرت البنات وزيَّنت لهن التحرر من القيم بالطرق التي ينخدعن بها.

والمصيبة أن قطاع الأطفال اليوم داخل ضمن المرمى المستهدف، والأطفال هم رجال الغد، وموضع الآمال، ومن سيمتلكون بيدهم مقاليد الأمور والأعمال، فيبثون لهم القصص التي يغلب عليها طابع الفزع والرهبة، والتي تورثهم العُقَد والجبن، وتهديم الشخصية.

ومنها ما يحتوي على القصص المنافية للأخلاق، ومثلها القصص الجاسوسية، ومنها القصص التي تمجد قوى الشر، وتثير عليها العطف، ومنها القصص التي تعيب الآخرين، وتسخر منهم، وتعنى بتدبير المقالب، بل أحيانا تُدبَّر المقالب للضعاف والعُمْيان.

هذه الألوان من القصص تجدها في(طرزان)، و(سوبرمان)، و(جراند آيزر)، و(توم آند جيري) وغيرها، ولقد أوردت وسائل الإعلام خبر انتحار طفل قفز قفزة الموت تأثراً بواحد من تلك القصص؛ وأنا وأنت اليوم لا نزال نعيش بوجداننا قصصاً قرأناها في صبانا.

فالأمر جد خطير وداهم، يحتاج التعامل معه لحكمة وصبر وأناة وتعقُّل، ويمكن سد فراغ الأطفال في هذا الجانب بوسائل أخرى مفيدة، لأن المنع المباشر لا يجدي.

ومن تلك الوسائل التي ينبغي علينا أن نشغل أولادنا بها مذاكرة الدروس المدرسية، واصطحابهم للمساجد، والخروج معهم للتنزه، وإكثار الألعاب الإلكترونية، وانتهاز الفرص لنحكي لهم القصص البناءة، وتحديد موعد ثابت لذلك أيضاً، وجلب القصص المفيدة لهم، مرئية أو مقروءة، وغير ذلك من الوسائل التي تشبع رغبتهم في اللعب ومشاهدة القصص. قال الله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم : 6].

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لوقاية أنفسنا وأهلينا من ناره، وأن يعيننا على أنفسنا وتربية أولادنا وطلابنا، وأن يرحمنا برحمته الواسعة في  الدنيا والآخرة، إنه سميع قريب مجيب.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي