يتبين من هذه القصة أن الهجر له أركان أربعة: المربِّي، والمُرَبَّى، والمجتمع، وسبب الهجر, أما المربي في القصة فهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، أما المربَّى فهو صحابيٌّ جليل من الذين بايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة، ذو درجة إيمانية عالية جعلته يحرق خطاب ملكٍ أراد أن يستغل الموقف فيستدرجه إليه...
الحمد لله الذي منّ على أوليائه بالتأييد والإسعاد، وقضى على أعدائه بالخذلان والإبعاد، ونهى عباده عن التقرب إليهم بالموالاة والوداد، وشدد في ذلك وأبدى فيه وأعاد، أحمده تعالى على نعمه التي لا يحصى لها تعداد، وأشكره وكلما شكر زاد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أَدّخرها ليوم التناد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفوة العباد، أرسله الله رحمة للعالمين, وحجة على أهل الشقاق والعناد، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وبالغ في البيان والإرشاد.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد، الذين جاهدوا في الله حق الجهاد, وصارموا أعداء الله وجالدوهم غاية الجلاد, حتى ملأ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها رباها والوهاد, وعلى من تبعهم بإحسان من حاضر وباد, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: إن الإنسان كائن عاطفي، يُريد أن يألَفَ ويُؤلف، ويُحِبَّ ويُحَبَّ، ويُعِينَ ويُعان، فهو مدني بالطبع واجتماعي بالفطرة ولذلك يحب من يتودد له ويتقرب منه، ويكره من يقسو عليه، أو يهجره، أو يعامله معاملة سيئة.
وهناك نوع من أنواع التربية يسمى التربية بالهجر وهذا هو موضوعنا الذي نريد اليوم أن نتحدث حوله؛ لأن التربية عموما مُرادها الإصلاح، ومقصودها التقويم، والتربية بالهجر لا يصلح لها كل أحد، وإلا كان ضررها أكثر من نفعها، ولا ينبغي أن يتبناها كُلُّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ من الناس.
والقصة التي توضحها هذه التربية، قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، ثم تاب الله عليهم: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة : 118].
هذه القصة رويت عن عبد الله بن كعب -رضي الله عنه-، أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، قال: إنه كان حزينا بالمدينة إذ لم يكن ير بها غير المعذورين، والموسومين بالنفاق، الذين جاءوا للرسول لما رجعوا يعتذرون ويحلفون.
قال كعب: إنه لما جاء للرسول، -صلى الله عليه وسلم-، قال له: "لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".
ثم إن اثنين قالا مثل كلامه، وقيل لهما مثل ما قيل له، فجلسا في بيتيهما يبكيان، أما كعب فكان يطوف الأسواق ويصلي في المسجد ويكلم الناس فلا يرد عليه أحد، وذات يوم، إذا برسالة تصله من ملك غسان يقول له إنه علم أن صاحبه جفاه فأتنا نواسك، فعلم أنه ابتلاء، وأحرق الرسالة، وبعد أربعين يوما أمروا باعتزال نسائهم، ثم بعد صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، إذا بصارخ في أعلى الجبل يصيح بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبْشر، فخر ساجدا، وجاءه رجل بفرس، لكن الصوت كان أسرع، ثم أتاه صاحب الصوت فخلع عليه ثوبه لبشراه، قال: والله ما أملك غيرهما يومئذ.
وانطلق للرسول -صلى الله عليه وسلم-، تتلقاه الأفواج بالتوبة، حتى دخل المسجد، والرسول، -صلى الله عليه وسلم-، جالس وأصحابه حوله، فأقبل إليه يبرق سرورا وقال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.
ثم أراد أن ينخلع عن ماله كله فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قلت، والكلام لكعب: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، .. يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت".
يتبين من هذه القصة أن الهجر له أركان أربعة: المربِّي، والمُرَبَّى، والمجتمع، وسبب الهجر, أما المربي في القصة فهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، أما المربَّى فهو صحابيٌّ جليل من الذين بايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة، ذو درجة إيمانية عالية جعلته يحرق خطاب ملكٍ أراد أن يستغل الموقف فيستدرجه إليه، وما له غير ثوب! وأراد أن ينخلع عن كل ماله الباقي عندما تاب الله عليه.
أما المجتمع فمجتمع يمتثل بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وينفذ تعاليمه حرفاً حرفاً، يقاطع كله، ويتسابق للتهنئة بالبشرى، مجتمع متماسك قوامه الإيمان والحب.
أما السبب فهو سبب بيِّنٌ قويٌّ واضحٌ؛ وهو مخالفة الأمر بالخروج مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، للغزو؛ لأجل ذلك فإن النتيجة كانت درساً للناس أجمعين، آياتٍ تُتلى، وأحاديث تُروى، عزَم أن يتحرى الصدق حياته الباقية إذ كان سبب نجاته، وبالتأكيد، فإن المجتمع كله، وكل من يقرأ ويسمع بهذه القصة سيعزم على ذلك.
قارنوا بين هذه القصة لهذا الصحابي الجليل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هذه القصة لشخص من أصحابنا في زماننا هذا.
رأى أحد الشباب المنتمين لأحد الجماعات والأحزاب أخاً له في مكان ما، فأبلغ الباقين، فاتخذوا قرارا بهجره تأديبا، فصار كلما يأتي المسجد ويتحدث مع أحدهم أشاح عنه بوجهه وأعرض، فما كان منه، بعد أيام، إلا أن حلق لحيته، وأسبل إزاره، وغير هيئته، وأعرض عنهم كليةً.
إن الذين استخدموا هذا الأسلوب أخطأوا خطأ عظيماً، فالمربي شباب قرأ أو سمع بهذا الحديث، وليس لهم سوى معرفة سطحية بأمور الدين أو الدنيا، أما المربَّى فشخص مثلهم لا يزيد ولا ينقص، أما المجتمع فمجتمع كالقطعان متفكك، بداخله مجتمعات، مهما سلكت من سلوك، فلن تعدم قطيعا يؤويك ويحتضنك، أما السبب فلا سبب! إذ مبني على ما هو أعظم من مشاهدة حفل، مبني على شخص أتى بنبأ، ربما كان فاسقاً، مبني على تجسس وعلى غيبة، أما النتيجة فخروج هذا الشخص ليلتحق بقطيع آخر أكثر انحرافاً.
إن الهجر الذي يقوم به المجتمع لا يتم إلا في الأمور التي يكاد يجمع المجتمع على قبحها، وإن الذي يأمر بذلك هو المجتمع ذاته، إذا كان مجتمعناً سليماً، لا يُجاهر فيه بالمعصية، ولا تعلن فيه الفواحش.
أما اليوم فقد أصبح الباطل يحمي نفسه من الهجر بإضفاء هالة حول أهل الخبث والفسوق، وربطوا هذه الخبائث بالتحرر والثراء والثقافة، وإذا لم نتنبه نحن كعقلاء ومربين إلى هذا الأمر، فإن الأمور ستفلت والاستجابة ستحدث نحو الشر والفسق والمجون.
لا تظنن أن اللواط والزنى والسكر كانت عادات مقبولة في أوروبا، قبل ثلاثمائة سنة، كانت باريس، وهي اليوم أكبر مكان للإباحية، تلقب بعروس الكنيسة لحشمة نسائها وعفاف مجتمعها، بل إن الصور القديمة للمرأة الفرنسية هي أقرب للحجاب الإسلامي.
ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : 104].
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والعاقبة للمتقين، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، واجعلنا من المهتدين بهديه يا أرحم الراحمين، أما بعد:
أيها المسلمون: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" [ ابن ماجة (1977)]. وفي الحديث الآخر عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" [ مسلم (2328)].
قد يتساءل المرء عن التوفيق بين هذين النصين، وبين آية النساء التي أشارت إلى هجر وضرب المرأة الناشز فنقول، وبالله التوفيق: إن الأصل إكرام الناس عموماً، والزوجة خصوصاً، ليجتمع شمل الأسرة، وتتحقق الرحمة والمودة، والمرأة الصالحة قانتة حافظة لنفسها وبيتها، بما حفظ الله تعالى لها من حقوق في المهر والنفقة والمعاملة الحسنة.
أما المرأة الناشز فإنها لا تقدر كل هذا، ولا تراعي ربها، وتعصي زوجها، وتُدخل في بيتها مَن لا يحب، فإن علم الزوج بذلك، فقد حدد له ربه وسائل تربوية تبتدئ بالوعظ والنصح والتذكير بغضب الله، وبوجوب الحفاظ على الأسرة، فإن لم تستجب فيهجرها في المضجع، فإن لم تستجب يضربها ضربا غير مبرح، فهي من النوع الذي لا تربيه موعظة ولا هجر، بل تربيه العقوبة والخوف، فإن انتهت، فعليه أن يغفر لها ما كان منها، مثلما يحب أن يغفر له الله الأعلى والأقوى والأكبر منه.
قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء : 34]. تأمل أركان الهجر في هذه الآية الكريمة؛ فالمربِّي رجلٌ قيِّمٌ على أسرته بكمال عقله المستوجب إحسان معاملة امرأته، وهو ينفق عليها فيغذوها ويكسوها ويداويها من ماله.
والمُربَّى: امرأة متمرِّدة، أما المجتمع أو الوسط فهو أسرة يُراد لها الاستقرار، أما السبب فهو نشوز امرأة وتمردها وعصيانها مما سيحطم الأسرة, والنتيجة أنه بعد رفضها الوعظ، قد تستجيب للهجر في المضجع.
من هنا يتضح أن الهجر أسلوب تربوي فعال لمن لك عليه يد, ومن الممكن أن يؤثر فيه هذا الأسلوب التربوي الفعال.
أما إذا تيقن الأب أو المربي أنه لا فائدة في الهجر ولا مصلحة فيه وعلم أن المتربي لن ينفعه هذا الأسلوب -أسلوب الهجر- ولم يرجع به ولا يؤثر عليه، فمعنى هذا أن المصلحة في الهجر قد انتفت، وتبقى المصلحة الأكبر، وهي الأخوة ولم الشمل؛ ولا يجوز أبداً الهجر أو الطرد حيئنذ. يقول الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ" [ البخاري (6077) مسلم (2560)].
فليحذر الآباء والمربين من استخدام هذا الأسلوب على عواهنه، فإن له أركاناً وضوابط لا تصلح لكل أحد، ولا يحق لكل أحد استخدامها بلا علم ولا روية.
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم اجعلنا من المشفقين الناصحين، العقلاء المدركين لأساليب التربية وأنواعها، يا أرحم الراحمين. وارزقنا البر والإحسان، وجنبنا الشقاق والنفاق وسيء الأخلاق.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي