تجرأنا على الدماء المعصومة والأعراض المصونة، وافتعلنا الحروب والصراعات فيما بيننا، واختلفنا على أتفه الأمور، وتسابقنا وتنافسنا على الدنيا، ونسينا الآخرة، فساءت أحوالنا، وفسدت أمورنا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، والعالم حولنا يتجه إلى بناء الأوطان وتعميرها، ونحن نتجه إلى هدم الأوطان وخرابها، والناس من حولنا يبحثون عن السعادة والراحة، ونحن نبحث عن الشقاء والتعاسة ..
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
عبــاد الله: لقد اصطفى الله -سبحانه وتعالى- بني إسرائيل في فترة من فترات الحياة، وفضَّلهم على العالمين، وجعل منهم الملوك والأنبياء وأسبغ عليهم نِعَمه الظاهرة والباطنة قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الجاثية:16]..
وكان هذا الاصطفاء مرتبطًا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح والسلوك القويم، ولم يكن مرتبطًا بالاسم أو الجنس أو النسب أو المال وكثرة الأتباع، ولم يستمروا في طريق الخير، وبدأ الانحراف يدبّ في حياتهم في جميع جوانبها بدءًا بالشرك بالله وقتل الأنبياء وارتكاب الموبقات والكذب والخيانة، وتحريف الكتب السماوية والقول على الله بغير علم ونكران النعم.
ولذلك بعد أن نجَّاهم الله من فرعون وجنوده، وأجرى لهم المعجزات أمرهم –سبحانه- بدخول الأرض المقدسة مع وعد الله لهم بالنصر والتمكين والحفظ والعناية، لكنهم عصوا أمر ربهم وخالفوا نبيهم، وظهرت منهم أخلاق وتصرفات تنبئ عن نفوس لا تملك أبسط مقومات الإيمان بالله الذي حباهم بالكثير من النعم، فكانت النتيجة السقوط من عين الله، والتعرض لغضبه وسخطه وعقابه، ومسخهم في الخِلْقة والخلق، وكتب عليهم التيه والضياع أربعين سنة، قال تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 26]..
لقد جعلهم الله يتيهون في الأرض أربعين سنة، حتى هلك ذلك الجيل، وخرج من أصلابهم جيل تم على يديه فتح بيت المقدس، أقول بأن الذهن قد ينصرف إلى هذا النوع من تيه الأمم والدول، وهو التيه الحسي، لكنّ هناك نوعًا آخر من التيه، وهو الذي تعيشه أمتنا هذه الأيام، ألا وهو التيه المعنوي، تيه في الأفكار، وتيه في التصورات، وتيه في المشاعر، ضعف الحب والتراحم بين الناس، وتيه في السلوك حتى تجرأ المسلم على أخيه المسلم، وسُفكت لأجل ذلك الدماء وهُتكت الأعراض، وتيه في الأخلاق، وتيه في تعلم العلوم النافعة، وتيه في إصلاح أوضاع المجتمعات.
وأنواع أخرى من التيه تعيشه أمتنا، فما تكاد تلتف يمنة ويسرة إلا وتجد التيه والضياع، تيه في مجالات الاقتصاد، وتيه في مجال الاجتماع، وتيه في مجال الإدارة، وتيه في النظم، ومجالات أخرى لا عد لها ولا حصر.
مع جزمنا بأن هناك خيرًا كثيرًا وأعمالاً طيبة وجهودًا رائعة موجودة في مجتمعاتنا وأوطاننا فالخير في هذه الأمة لا ينقطع أبداً لكنه لا يوازي ولا يساوي الكم الهائل من التقصير والتساهل والانحراف الذي يقع فيه الكثير من أفراد هذه الأمة ..
وإذا كان بنو إسرائيل قد كتب الله عليهم التيه والضياع أربعين سنة؛ فإن تيه هذه الأمة قد طال زمانه، وتعددت ألوانه وجنت الأمة بسببه الكثير من المصائب والكوارث..
وإذا ما تساءلنا عن الأسباب التي أدت بخير أمة أُخرجت للناس إلى هذا الحال لوجدنا أن السبب يعود إلى التنكر لأوامر الدين وأحكامه والتعلق بالدنيا وزينتها وترك العمل، وبذل الأسباب، والركون إلى الأعداء والخصوم، وعدم تزكية النفوس واتباع الهوى، وهو نفس طريق السقوط الذي وقعت به بنو إسرائيل، ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من التشبه باليهود والسير على طريقهم ودربهم المشئوم، فقال: "لتتبعن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال:"فمن؟" (البخاري: 7320).
وسنن الله لا تحابي أحداً (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" (البخاري: 4043).
عبـاد اللـه: لقد كان بداية الانحدار للاصطفاء الرباني بترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الفريضة التي يقام بها الدين، ويكثر الخير، ويقلل الشر، ويظهر العدل، ويختفي الظلم، وتحفظ الحقوق، وإن شقاء المجتمعات وتعاسة الأمم قد لا يكون بسبب انحراف المجتمع ككل عن قيم الدين وتنصله عن تطبيق أحكامه في واقع الحياة، بل قد يكون السبب أيضاً فساد الفرد ذاته في المجتمع أو انحراف مجموعة قليلة من أبنائه، وما أهلك الله قوم ثمود إلا بسبب عدد قليل من أفراد ذلك المجتمع، قال تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [النمل:48].
ولأن كل فرد من أفراد ذلك المجتمع لم يقم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان العقاب للجميع قال تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:51]، فالمجتمع يعيش جميع أفراده على ظهر سفينة ينبغي أن يسعى كل فرد منهم في الحفاظ عليها، وحرية الفرد تتوقف عند حدود أحكام الشرع، أو عندما يمتد الأذى إلى الآخرين ويقع الضرر بهم.
روى البخاري وأحمد والترمذي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".
وإن من سنن الله الماضية في خلقه أن يسلط عقوبته على المجتمعات التي تهمل هذه الشعيرة وهذا الواجب الشرعي، قال الله جل وعلا: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78-79]، وإن وجود المصلحين في المجتمعات هو صمَّام الأمان لها, وسبب نجاتها من الهلاك، ولهذا يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]..
وإذا سكت الناس ولم يقوموا بهذه الفريضة التي هي من شروط الاصطفاء في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110]..
كما أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت من مقومات الاصطفاء لبني إسرائيل، لكنهم بدّلوا وتلاعبوا، وتركوا الكثير من أوامر الدين وأحكامه، فضرب الله على قلوبهم كما يحدث لهذه الأمة اليوم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]..
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلا والله! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو لتقصرنه على الحق قصراً"، وجاء في رواية أخرى أيضاً لأبي داود: "أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم ليلعننكم كما لعنهم" (رواه أبو داود: 4336، والترمذي 3047).
عبــاد الله: البر لا يبلي والذنب لا ينسي والديان حي لا يموت، فافعل يا ابن آدم كما تشاء فكما تدين تدان ... عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، -السيلان والإيدز وأنفلونزا الطيور والخنازير وغيرها ..- ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (رواه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة: 106)..
وهذا ما يحدث في بلادنا وبلاد المسلمين؛ تجرأنا على الدماء المعصومة والأعراض المصونة، وافتعلنا الحروب والصراعات فيما بيننا، واختلفنا على أتفه الأمور، وتسابقنا وتنافسنا على الدنيا، ونسينا الآخرة، فساءت أحوالنا، وفسدت أمورنا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، والعالم حولنا يتجه إلى بناء الأوطان وتعميرها، ونحن نتجه إلى هدم الأوطان وخرابها، والناس من حولنا يبحثون عن السعادة والراحة، ونحن نبحث عن الشقاء والتعاسة ..
لنبحث عن السمو الإنساني والاصطفاء الرباني .. لنبحث عن الحياة والأمن، لنبحث عن البناء والتطور والنجاح ..
وإنه ما يزال هناك متسعًا نتدارك أمورنا، ونصلح أوضاعنا، ونحفظ بلادنا بالتفاهم والحوار ولين الجانب، وتحكيم الدين والعقل، وتغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية الضيقة، والعنف والحروب لا تبني وطناً ولا تؤسس حضارة، ولا تصلح حالاً، والأمة إنما تعوّل على العقلاء أصحاب الإيمان والحكمة من جميع طوائف وقبائل وأحزاب وجماعات هذا الشعب وهذا الوطن الذي يحتاج منا كل حب وتقدير وتضحية وعمل؛ ليبادلنا الحب، فهناك أوطان لفظت الطغاة والجبابرة والظلمة والخونة والمجرمين وأصبحت ذرات ترابه لعنة عليهم تلاحقهم في حياتهم وبعد مماتهم، فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان..
.. فيا أهل العقول الراجحة...
ويا أهل الضمائر الحيَّة... ويا أهل الوطنية الحقة...
هل ترضون لأنفسكم ولشعبكم الدمار والخراب؟! وهل ترضون أن ترتسم ملامح الرعب على وجوه أطفالكم ونسائكم؟ وهل تقبلون أن نحيا جميعا في أرض الشتات؟!
أيها اليمانيون .. جميعا وبلا استثناء لأحد.. إنه من المحرم علينا -جميعًا- أن نحرق صنعاء من أجل دبة بترول!!!
عودوا إلى رشدكم وحكموا عقولكم، وأتقنوا العمل، وثقوا بالله، وأحسنوا الظن به، وقوموا بمسئولياتكم كما يحب ربنا ويرضى ..
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين ...
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على معلم البشرية، المبعوث بالحنيفية، خير من قام بالمسئولية، كما أمركم بذلك ربكم رب البرية، فقال تعالى قولاً كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي