رجل بلغ الأربعين وجازها، صار أبًا، ثم رُزِقَ ابنًا من ابنته، فصار جدًّا، ولا يزال يرتع في ملاهي الصبا يتنقل من مركز تجاري إلى مركز تجاري يحسن هندامه ويزيّن سيارته حتى يتلقف من هنا ومن هناك...أليس مخيبًا للآمال أن يصلي معنا في هذا المسجد من وخطه الشيب في رأسه إلا من بضع شعرات لا يزال يلبس لباسًا غير لباس أبناء جلدته وسنّه، ويطيل شعره وغرته، ثم يعقد شعره إلى مؤخرة قفاه كما يفعل بعض الشباب والمراهقين.
الحمد لله المحمود بكل اللغات على جميع الحالات، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه الخير كله وأستغفره؛ خلق فسوى وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، السماء بناها والأرض طحاها والنفس سواها، فألهمها فجورها وتقواها، فالق الإصباح جعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا.
جل جلاله وعظم سلطانه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره لا نحصي ثناء عليه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد لا معقب في حكمه ولا راد لقضائه جل جلاله وعظم سلطانه.
اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، ولك الثناء كله، وبيدك الخير كله، اللهم صلّ وسلم وزد وأنعم وبارك على عبدك وخليلك محمد، اللهم اجمع له صلاة الأولين وصلاة الآخرين، اللهم اجمعها وضاعفها، واجعلها صلاة منا عليه صلى الله عليه وآله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
معاشر الفضلاء: صناعة الخطبة إما أن تكون تأصيلاً لبيان حكم شرعي، وتعليم الناس إياه، وصناعة الخطبة إما أن تكون مواكبة لحدث من مجريات أحداث الناس وواقع حياتهم، وأحيانًا يستفز الخطيب موقفًا يثيره لصناعة خطبة.
رجل بلغ الأربعين وجازها، صار أبًا، ثم رُزِقَ ابنًا من ابنته، فصار جدًّا، ولا يزال يرتع في ملاهي الصبا يتنقل من مركز تجاري إلى مركز تجاري يحسن هندامه ويزيّن سيارته حتى يتلقف من هنا ومن هناك.
موقف كهذا يستفز خطيب مثلي أن يتحدث عن قيمة معينة لا بد أن نتحدث عنها؛ لأننا بدأنا نفقدها، وعوامل التعرية كما تعمل في الجبال الصمّ الجلاميد فتسويها بالأرض أو تغيّر معالمها فتنحتها هنالك عوامل تعرية تعمل في ثوابتنا.
أيها الأحباب: أليس مخيبًا للآمال أن يصلي معنا في هذا المسجد من وخطه الشيب في رأسه إلا من بضع شعرات لا يزال يلبس لباسًا غير لباس أبناء جلدته وسنّه، ويطيل شعره وغرته، ثم يعقد شعره إلى مؤخرة قفاه كما يفعل بعض الشباب والمراهقين.
ربما نجد عذرًا -ولا عذر- للشباب حين يتشبهون بصور أولئك الذين تعرفون، لكن ما عذر هذا الشيخ أو الكهل الكبير في السن الذي لم يرع حق سنه.
ما أريد أن أحدثكم عنه باختصار ودون إطالة في المقدمات هو عن "قيمة الرجولة".
الأمم، الشعوب، الدول، تحرص على مقدراتها، تحرص على آبار النفط، ومكامن الثروة ومناجم الفحم وتخشى على هذه الثروة التي هي ثروة ناضبة، لكنها إذا كان ثروة ناضبة فثم ثروة بديلة.
الأمم والشعوب والدول والحضارات تحرص على الأبراج الأسمنتية، على المستشفيات، على المراكز، لكن المراكز والمستشفيات والجامعات والشوارع والأبنية الأسمنتية لا قيمة لها إذا لم تحرص هذه الدول على بناء الإنسان؛ لأن الإنسان أعظم قيمة تستثمر فيها الدول.
ما قيمة العشرات والمئات والآلاف والمئات من المليارات إلا أرقامًا في البنوك ما لم يكن هناك إنسان يعمل بساعده، يبني بفكره، يؤسس بكده فينشئ حضارة وجيلاً.
أتحدث عن قيمة الرجولة، ليست الرجولة تلك الصفة التي تنبع عند الذكور من الناس إذا ما بلغوا مبلغ الرجال، يعني ليس الرجل هو الذي نبت شاربه، واعرَضَّ منكبه، تلك صفات يستوي فيها جميع الذكور.
الرجولة مجموع صفات سأجلّي بعضها في هذه الخطبة، لكن إليك هذه الأمنية العُمَرِيّة، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذات يوم يجمع إليه ثلة من أصحابه فيقول: تمنوا، فذهبوا في أودية الأماني كل مذهب، تمنى أصحاب عمر أن يكون لهم ملء الدار ذهبًا وزبرجد وجواهر لا ليستكثروا بها ولا ليفاخروا بالأموال والأولاد، فلم يكن ذلك في قواميس الصحابة، ولا في أعرافهم، تمنوا ذلك حتى يسلطوا المال على هلكته في الحق؛ إنفاقًا في سبيل الله، إطعامًا لجائع وسدًّا لمسغبة وإقامة لعوز.
قال عمر -رضي الله عنه- "لكنني أتمنى رجالاً كأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان فأستعملهم في طاعة الله".
هؤلاء هم الرجال بمجموع صفاتهم القائمة فيهم، لا بمجموع ظواهر أشكالهم، وإلا فمن الرجال مَن هم رجال في الصورة، لكنهم في الحقيقة ليسوا رجالاً، ومن ثَم جاء النهي النبوي بل اللعن النبوي للمتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء؛ لعنهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكما عند البخاري من حديث ابن عباس قال: "أخرجوهم من بيوتكم".
أشباه الرجال لا مكان لهم وسط الرجال، أشباه الرجال لا مكان لهم في الحضارات والأمم، التي تعتبر بالقيم.
ليست الرجولة إذاً في الظواهر والعلامات، وليس الرجولة في أن ترى الرجل ضخمًا ثمينًا مفتول العضلات؛ لأن هذا ما لم يكن له قيمة يصبح هباء منثورًا، يصبح هشيمًا محتضرًا، وفي الخبر "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة"، قال -صلى الله عليه وسلم- اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105].
وحين ضحك الأصحاب من دقة ساقي عبدالله بن مسعود؛ حامل القرآن، الصادع بالرحمن صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتعجبون من دقة ساقيه، فوالذي نفسي بيده إنها يوم القيامة أعظم من جبل أحد".
النبي يصحح المفاهيم يقيم الموازين؛ لأن ثمة مفاهيم غائبة عند الناس أو مفاهيم مغلوطة عندهم، البخل هو حقيقة الشحّ بالمال، لكن حقيقة البخل أن يُذْكَر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يُصلي عليه. وهكذا يعدل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المفاهيم الغائبة في دنيا الناس.
إذاً الرجولة الحقة هي استجماع مجموع صفات تقوم في الرجل، فيشار إليه بالبنان أنه رجل، اسمعوا بالأمثال ثم نعود إلى الصفات.
عمير بن أبي وقاص جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو فتى صغير في بدر يريد أن يجيزه النبي -صلى الله عليه وسلم- فردَّه؛ لأنه لم يبلغ مبالغ الرجال، ولم يبلغ في الصورة مبلغ الرجال؛ لأنه دون الخامسة عشرة، لم يبلغ مبلغ الرجال،لم تعرَضَّ منكبيه، لكن في نفسه همة تزن همة الرجال.
همتي همَّةُ الملوكِ ونفسي *** نَفْسُ حُرّ تَرَى الْمَذَلَّة كُفْرًا
بكي بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فأجازه النبي -عليه الصلاة والسلام- فعقد له السيف فقاتل، وليس في وجهه شعرة.
معاذ بن عمرو ومعوذ بن عفراء كانا صغارًا لكنهما أرادا أن يشاركا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفرقان فجاء بهامة الكفر وبفرعون هذه الأمة يجرانه بحبل إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
رافع بن خديج جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- في أُحد وهو دون خمس عشرة سنة، فلم يجزه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ يجادل وينافح ويكافح قال يا رسول الله "أتردني وإني لرامٍ أرمي كما يرمي الشيوخ"، فأجازه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرآه سمرة بن جندب، وكان قد ردَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا رسول الله أجزت رافع فأجزني"؟ قال: تصارعا فتصارعا فصرع سمُرةُ رافعًا، فأجزهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ليس من الضرورة أن يكون الرجل ذا لحية كثيفة عريض المنكبين، لا، إذا قامت فيه صفات الرجولة أغنى ذلك.
كذلك ليست الرجولة في الكثرة ولا في العدد ولا الضخامة، فإن رجلاً واحدًا قد يصنع ما لا يصنع الرجال.
وَالناسُ أَلفٌ مِنهُـمُ كَـواحِـدٍ *** وَواحِـدٌ كَالأَلـفِ إِن أَمـرٌ عَنـا
أرسل خالد بن الوليد إلى أبي بكر -رضي الله عنه- في حصار الحيرة يطلب مددًا، فظن خالد أن أبا بكر سيرسل له جيشًا عرمرم جيشًا جرارًا أوله في المدينة وآخره عنده، لكن أبا بكر لم يرسل له إلا رجلاً واحدًا، أرسل له القعقاع بن عمرو التميمي، وقال له: "هذا القعقاع لا يُهزم جيش فيه مثله، يُعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد".
وفي حصار كابل وقف القائد قتيبة بن مسلم يبكي ويتضرع ويدعو الله تعالى، ثم قال "ابغوني محمد بن واسع" فذهبوا يبحثون عنه، فإذا محمد بن واسع قد رفع أصبعه يدعو الله –تعالى- وكان باسلاً شجاعًا وعابدًا صاحب ليل، فلما بلغ ذلك قتيبة قال: "إصبع محمد بن واسع أحب إليَّ من ألف سيف شهير يحملها ألف شاب طرير".
أكمل الناس أجمعهم لصفات الرجولة، الصفوة، صفوة الصفوة، خيرة الخيرة الذين اختارهم الله –تعالى- على علم على العالمين الأنبياء المعصومون لذلك وصفهم الله بالرجولة فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم) [يوسف: 109].
السؤال الذي يطرح نفسه أين نجد هؤلاء الرجال؟ ما هي ظروفهم وأماكنهم التي تجمعهم؟ هؤلاء الرجال موطنهم بيوت الله، المساجد، حِلَق العلم، مجالس الذكر، قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36- 37]، تعلقت قلوبهم بالصلاة، لذلك جاء الوصف في المعلقة قلوبهم بالمساجد "ورجل معلق بالمساجد" (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108].
إذاً راحة أرواحهم وهناءة أنفسهم حين يكونون في بيوت الله، لا يتأخرون عن الصفوف الأولى، لا يتقاعسون عن الصلوات يأتون ولو كانوا بجراحاتهم كما قال عبدالله بن مسعود: "وإنه ليأتي الرجل" الرجل العاجز الذي لا يستطيع أن يقوم، الرجل الذي عنده المعاذير "يأتي يُهَادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصف في الصلاة".
أمثال هؤلاء أو بعضهم في مجتمعنا يتحججون يتركون الجمعة والجماعات؛ لأنهم لا يستطيعون، أما أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فكانوا يأتون إلى المسجد ولو حبوًا، يُقام الرجل فيهم بين الرجلين يتكأ على هذا مرة وعلى هذا مرة حتى يقوم في صف الصلاة.
راحة أرواحهم كانت في الصلاة في المساجد؛ لذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين شق الشقي أبو لؤلؤة المجوسي بطنه نصفين بقي في صلاته لم يقطعها، وحين قضى الصلاة يعالج سكرات الموت وطعنة السكين المسموم مع ذلك لم يسأل عن شيء، السؤال الوحيد الذي سأله "أصلى الناس، أصلى الناس"؟!
عباد بن بشر يقف في ثغر من ثغور الإسلام، ثم يقوم ليصلي فيصيبه سهم فلا يقطع صلاته، ويصيبه الثاني فلا يقطع صلاته، كانوا يصلون بجراحاتهم.
سيد الرجال أكرم الناس أرومة وأطهرهم نفسًا ونفَسًا -صلى الله عليه وسلم- يقوم إلى الصلاة فيغشى عليه في صلاته في أخريات حياته، فيهرقون عليه الماء، فيقوم ثم يصيبه التعب، فيغشى عليه المفدى بالنفس والمال والولد -صلى الله عليه وسلم-، ثم يغشى عليه ثم يقوم ليصلي فيغشى عليه ثم يأمر في الثالثة بأبي بكر ليصلي بالناس.
إذا الذين لا يصلون ولا يشهدون الجمعة والجماعات فليحلقوا شواربهم، ليسوا هؤلاء من الرجال في شيء وإن قامت بهم صفات الرجال.
مواطن الرجال هي المساجد، لذلك جاء في الخبر الصحيح " مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ"
بشراكم يا رجال، ما صفاتهم؟ صفات هؤلاء الرجال الصدق في العهد، الوفاء بالعهد، أمانة الكلمة، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23]، الثبات على المنهج .
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب الوصية الجامعة التي ليس بعدها شيء قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" وفاءً بالعهد وصدقًا في الوعد واحترامًا للكلمة.
كان أحدهم يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يخرج عن هذه البيعة في المنشط والمكره حتى أثرة على النفس، كان بعضهم يبايع النبي -عليه الصلاة والسلام- ألا يسأل الناس شيئًا، فلا يسألهم الحقير ولا الكبير ولا النقير ولا القطمير، ولا شيئًا من أمور الدنيا، بل يبالغ في الوفاء بعهده وبيعته للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون أحدهم في دابته فيسقط سوطه فينزل من على دابته حتى لا يسأل الناس شيئًا.
يقول أحدهم: والله ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
من صفات الرجال أنهم يتعالون على رغباتهم، يتعالون على شهواتهم "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله".
الإمعة الذي يتبع شهوته ويسير مع رغبته لا يمكن أن يوصف بأنه رجل (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41]، ولذلك فإن من سادات الرجال يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، دعته امرأة العزيز ذات المنصب والجمال والأمن، وقد غلقت الأبواب (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23].
كما يتعالون على شهوة الفرج يتعالون حتى على الشهوات الأخرى شهوة حب المال والاستكثار (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37].
من صفاتهم النصيحة والحدب على الناس، والحرص على المسلمين، والحنو عليهم، والجرأة والشجاعة والإقدام (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس:20]، (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) لماذا؟ ليقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:20].
من صفات الرجل أنه يقوم على رعيته ويحنو على أسرته ويقوم بواجب الله فيهم: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)[النساء: 34]؛ بالتربية والتأديب والنصح والتوجيه، لذلك الرجال أحق الناس أخذا بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]، وأحقهم امتثالاً لقوله -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، قد أفلح المستغفرون ..
الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه.
أما بعد: هؤلاء الرجال الذين أنشأهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ورباهم وأحسن تربيتهم لا يظنن ظانّ أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وقف في محرابه، وسأل الله –تعالى- أن يبعث له رجالاً من أصحابه فاستحالوا رجالاً بالصفات التي سمعتموها.
إن هذه النتيجة هي نتيجة عمل ودأب وتعليم وحرص وتربية على مر ثلاث وعشرين سنة من الدعوة والبلاغ قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أتم قيام بشهادتكم أنتم .
إذاً أبناؤنا وفلذات أكبادنا الذين سيسألنا الله تعالى عنهم ليس واجبًا إقامتهم رجالاً؛ أن ندعو الله فقط في الصلوات وأدبار الصلوات وفي السجود، لا، وإنما يتطلب الدعاء أيضًا منا عملاً من أعمال التربية التي تنشئ الرجال، أن يُحمل هؤلاء الأبناء إلى مجالس الرجال، إلى حِلق الذكر، إلى المجالس الجادة التي تربي على معالي الأمور لا على سفاسفها.
حين نريد من أبنائنا أن ينشئوا رجالاً؛ فإنه ينبغي لنا أن نكلّفهم ببعض الأعمال التي تحملهم على المسئوليات المبكرة لينشئوا أصحاب همم، وشأن الهمم شأن عجيب يتفاوت الناس بين سدرة المنتهى وبين أسفل السافلين، كما يقول الإمام ابن القيم "لله در الهمم، فهمة معلقة بالعرش، وهمة هائمة حول الأنتان".
حتى ننشئ أبناءنا منشأ الرجال الصادقين ينبغي أن نقصّ عليهم سِيَر الأولين، ينبغي أن يتعرفوا على معاذ بن جبل وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وأن يتعرفوا على القعقاع بن عمرو، وهؤلاء الرجال لا أقول باتوا غائبين عن المعرفة، وإنما باتوا مغيبين في بعض البيوت والمجتمعات.
من واجب الأبناء أن تُعقَد لهم حِلَق تعرفهم بهؤلاء الأصحاب، فإن عجزت عن ذلك فلا أقل أن تعمر مكتباتهم الصغيرة بصور من الصحابة بالسيرة النبوية مع الرعيل الأول هذه الكتب التي تربي فيهم الهمة:
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا *** على ما كان عوَّدَه أبوه
اللهم إنا نسألك أن تصلح أحوالنا، وأن تردنا إليك ردًّا جميلاً.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي