فإنَّ ذكر الموت يزّهد في الدنيا, ويرغب في الآخرة, لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد. .. فلو نجا من الموت أحد, لنجا منه سيد البشر المختار؛ فإنّ الله قد أخبره بوقوع الموت له ولغيره..
ولا يجوز أن يتخذ يوم وفاته مأتماً, ولا يوم ولادته عيداً, بل هو عمل جاهلي, وبدعة وضلالة.
الحمد لله الذي جعل الموت راحة للأبرار، ينقلهم من دار الهموم, والغموم, و البلاء والأكدار، دار النصب والحسد و الآلام، سجن المؤمن, وجنة الكافر، إلى دار الراحة, والسرور والفوز, والحياة الأبدية والقرار، دار المُلك والخلد والبقاء, وجوار المحسن الغفار، أو إلى دار العذاب للمجرمين والكفار، فسبحان من قَسَم فضله بين عباده:
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) [القصص: 68]. أحمده سبحانه, وأشكره على خيره المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, المتفرد بالبقاء والدوام والاقتدار، شهادة أرجو بها الفوز بالجنة, والنجاة من النار، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, المصطفى المجتبى المختار، الذي أسرى به ربه إلى السماوات العلا, ففاز بالقرب والزلفى من الجبار، وحاز شرف الدنيا والآخرة, والعزة والنصر على الكفار.
اللّهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله, وأصحابه, الذين جاهدوا في الله حق جهاده, في اليسر والإعسار، حتى أرغم الله بهم أنوف المنافقين, وأباد بهم خضراء الأشرار, صلاة وسلاماً يبلغانهم من ربهم منازل الأبرار.
أما بعد:
فيا أيها الناس, اتقوا الله تعالى, واذكروا الموت هادم اللذات, ومفرق الجماعات، الذي ما نجا منه بعيد ولا قريب من المخلوقات، وهل من سبيل للبقاء, فيطلبه من أراد هذه الحياة؟ فإنَّ ذكر الموت يزّهد في الدنيا, ويرغب في الآخرة, لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد. والتوفيق بيد الله الواحد القهار، فلو نجا من الموت أحد, لنجا منه سيد البشر المختار؛ فإنّ الله قد أخبره بوقوع الموت له ولغيره, بقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30]، وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185].
فلما أراد الله قدومه عليه- بعد ما انتهى أجله صلى الله عليه وسلم- نزل به ما سبق به القضاء والقدر، فتوفي نبينا محمد, بعد ما قضى العمر المديد المبارك, وكان عمره (63 سنة).
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر, ثمّ قال: "إنّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء, وبين ما عنده, فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر, فقال له: على رسلك، فعلم أنّ ذلك لحضور أجله, وقدومه على ربه".
ولمّا نزل به الموت, جعل صلى الله عليه وسلم يمسح وجهه بالماء, ويقول: "لا إله إلا الله, إنّ للموت لسكرات". فلمّا تغشاه الموت, جاء جبريل عليه السلام فقال: " يا محمد, هذا ملك الموت, يستأذن عليك, ولن يستأذن على أحد بعدك. فقال: (ائذن له يا جبريل)، ثمّ قال جبريل: يا أحمد, إنّ الله قد اشتاق إلى لقائك. فقال صلى الله عليه سلم: (يا ملك الموت, امض لما أمرك الله به)، فقال جبريل عليه السلام:"السلام عليك يا رسول الله, هذا آخر نزولي إلى الأرض بالوحي, إنّما كنت أنت حاجتي من الدنيا" ثمّ رفع رسول الله رأسه إلى السماء فقال:" اللّهم الرفيق الأعلى اللّهم الرفيق الأعلى" ثمّ قضى.
قالت عائشة رضي الله عنها: " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي. وقالت: نظر رسول الله ببصره إلى سواك مع عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق, فعلمت أنّه يحبه, فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم؟ فأخذته, فقضمته, ونقضته, وطيبته, ثمّ دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنّ به، فما رأيته استن استناناً أحسن منه، فما عدا أن فرغ ثمّ قال:" اللّهم الرفيق الأعلى" ثمّ قضى.
فمات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء, من ربيع الأول، فتوفى في اليوم الذي ولد فيه.
ولا يجوز أن يتخذ يوم وفاته مأتماً, ولا يوم ولادته عيداً, بل هو عمل جاهلي, وبدعة وضلالة.
ثمّ كانت التعزية من الملائكة الكرام, من وراء البيت, فقالوا –بصوت يسمع, ولا يراهم أحد-: " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا؛ فإنّ المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
فيا لها مصيبة, لا تشبه المصائب.
قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصابه بي؛ فإنها من أعظم المصائب".
فقد كانت رسالته نعمة عظيمة، لقد كان هادياً للصواب، ونعمة من رب الأرباب. ولكن هذا أمر لا بد منه على كل بشر، والحمد لله الذي أكمل به الدين، وأتم به النعمة على المسلمين.
فهذا سبيل الخلق, ومصير البشر، فلعلك أيها المسلم أن تعتبر، وتعمل صالحاً, وتحذر من الشر, وتصبر على القضاء والقدر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:145].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم, ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه؛ إنّه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي