الإسلام دين تعاون وتكافل، فالأضحية أولاً شكر لله –تعالى- على نعمه الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، وشكر على البقاء من عام إلى عام، وأيضا توسعة على الأسرة والعيال والأرحام والجوار والفقراء عامة، ولذلك سن أن يأكل منها هو وأسرته، وأن يهادي منها، وأن يوزع منها على الفقراء.
الحمد لله آناء وأطراف النهار ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه إنسان، وأينما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوب إليه ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: لقد تحدثنا في خطبة سابقة عن فضل أيام العشر من ذي الحجة ويكفي في فضلها أن الله -تبارك وتعالى- أقسم بها فقال -عز من قائل-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) [الفجر: 1- 5].
يكفي في فضلها ما ورد من أحاديث كثيرة تؤكد ذلك الفضل، وإذا كنا -أيها الإخوة- نعيش في هذه الأيام المباركة، ولم يتيسر للبعض منا الحج لبعض العوائق، أو لأنه قد أدى الفريضة من ذي قبل وترك المجال لمن لم يؤدي تخفيفًا من ذلك الزحام الهائل الذي نسأل الله -عز وجل- أن يزيده في العمل كما زاده في العدد.
ولذلك -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- أوصي نفسي وأوصيكم جميعًا بأن من فاته أن يكحل عينيه بتلك البقاع المقدسة وبالتشرف بزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسجده، فإن أمامه الباب مفتوحًا لإدراك الفضل وللوصول لمضاعفة الأجر.
من هذه الأبواب صيام العشر من ذي الحجة، ذلك لأن الصيام من أفضل الأعمال ويكفي أن نتذكر الحديث القدسي: "والصوم لي وأنا أجزي به"، ونذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي أمامة: "دلني على عمل"، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: " عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ" أي: لا نظير له في الأجر.
ومن لم يستطع لسبب ما أن يصوم هذه الأيام فليصم أكثرها، وإن لم يستطع فبعضها، وإن لم يستطع فليصم يوم عرفة الذي ورد عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن من صام ذلك اليوم كفّر الله عنه ذنوبه في سنتين، فقال: "من صام يوم عرفة كفّر الله عنه السنة الماضية والسنة الباقية".
طبعا المراد ليس حقوق العباد فحقوق العباد لا يكفّرها إلا الأداء أو الإبراء منهم.
أيضًا من أبواب الطاعة الواسعة في هذه العشر والتي تعوض لنا بعض ما فاتنا الإكثار من التكبير، والتكبير نوعان: نوع مطلق ونوع مقيد، النوع المطلق التكبير في هذه الأيام العشر في بيوتنا في طريقنا في عملنا رجالاً ونساءً، المرأة لا ترفع صوتها بالتكبير، والرجل يرفعه بما يسمع نفسه.
أما المقيد: فهو التكبير عقب الصلوات المفروضة من فجر يوم عرفة إلى ما بعد عصر اليوم الرابع من أيام العيد، وهذا التكبير عند الحنفية وبعض الأئمة واجب، يكبّر الرجل والمرأة، الإمام والمقتدي، القضاء أو الأداء بعد كل فريضة من الفرائض.
أيضا من الأبواب الواسعة -أيها الإخوة الأحبة والأخوات- الإكثار من الصدقات للفقراء والمعوذين في هذه الأيام المباركة التي يضاعف الله -تبارك وتعالى- فيها الأجر، وخصوصا البلاد التي تجتاحها الكوارث وما أكثرها في هذه الأيام التي نعيشها كفلسطين وغيرها.
أيضا من الأبواب الواسعة الإكثار من التسبيح والتهليل والاستغفار، وما أحوجنا -أيها الإخوة الأحبة- إلى الإكثار من الاستغفار ومن التوبة ونحن نعيش في هذه الأيام شحّ الأمطار التي لها الأثر الكبير في الضرر للإنسان والحيوان والنبات (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 10- 13].
وما أحوجنا أيضا -أيها الإخوة- إلى التوبة النصوح الصادقة، لعل الله -عز وجل- ينظر لنا نظرة الرحمة.
وأيضا -أيها الإخوة الأحبة- من الأبواب الواسعة للأعمال الصالحة ذات الفضل "الأضحية" هي واجبة عن الحنفية لمن كان يملك النصاب ولم لم يحل عليه الحول، وسنة مؤكدة عند الشافعية -رضي الله عن جميع الأئمة المعتبرين-، وقد رُوي عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "لا أرخّص في تركها للقادر عليها".
ووقتها -أيها الإخوة- من بعد صلاة العيد إلى قبيل غروب شمس اليوم الثالث من أيام العيد عند الحنفية، وإلى قبيل غروب شمس اليوم الرابع عند الشافعية.
ويجزئ من الغنم والماعز ما أتم السنة، ومن البقر ما أتم السنتين، ومن الإبل ما أتم أعوامًا خمسة، والماعز والغنم لا يجزئ إلا عن واحد، ويدخل في هذا الواحد من كان عنده أسرة يعولها فيغنيهم ذلك.
وأما البقر والإبل فيجزئ عن سبعة ولا تجزئ العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا مقطوعة الأذن ولا الحامل ولا الهزيلة الشديدة الهزال.
وأما الحكمة منها -أيها الإخوة- كما نعلم جميعًا أن الإسلام دين تعاون وتكافل، فالأضحية أولاً شكر لله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، وشكر على البقاء من عام إلى عام، وأيضا توسعة على الأسرة والعيال والأرحام والجوار والفقراء عامة، ولذلك سن أن يأكل منها هو وأسرته، وأن يهادي منها، وأن يوزع منها على الفقراء.
ولا يجوز أبدا دفع القيمة أي: لا يُغني دفع القيمة عن هذا النسك، وهنا لابد أن نذكر أيضا بأن هذا الذي قلته في غير الوصية وفي غير النذر.
أما الوصية أي الأضحية الموصَى بها أو المنذورة فيجب أن تُوزع كلها على الفقراء ولا يجوز أن يأكل منها الورثة ولا الأغنياء، وليقل الذابح عند الذبح "بسم الله، الله أكبر، اللهم إن هذا منك وإليك، اللهم تقبله مني كما تقبلته من إبراهيم خليلك ومن محمد نبيك ورسولك، اللهم إن هذا عن فلان بن فلان".
ولقد ثبت أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ضحى بكبشين أملحين، والأملح هو من غلب بياضه على سواده أو كان أبيض نقيا، وضع على صفاحهما قدميه قائلاً عند ذبح الأول: "بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا منك وإليك، اللهم تقبله مني كما تقبلته من إبراهيم خليلك، اللهم إن هذا عن محمد وآل محمد".
وقال عند ذبح الثاني "بسم الله، والله أكبر، اللهم إن هذا منك وإليك، اللهم تقبله كما تقبلته من إبراهيم خليلك، اللهم إن هذا عن مَن شهد لي بالبلاغ وشهدت له بالتصديق ولقي الله لا يشرك به شيئًا".
أيها الإخوة الأحبة: أظهروا نعمة الله عليكم، واذكروا ذلك الموقف العظيم حينما ابتلى الله -تبارك وتعالى- وامتحن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن يذبح ولده بعد أن ظل زمانا طويلا يدعو ربه أن يهب له ولدا، فلما تحققت أمنيته وشبَّ ولده وبلغ معه السعي امتحنه الله -تبارك وتعالى- وابتلاه بذبحه.
فأذعن الوالد سيدنا إبراهيم لأمر الله وأقبل على هذه التضحية التي لا نظير لها في تاريخ البشر أن يقبل على ذبح ولده فلذة كبده بيده، كما أذعن الولد الصادق لأمر الله ثم أمر والده فقدم نفسه مستسلما للذبح بيد والده (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].
ورؤيا الأنبياء من الله -عز وجل- وليس كرؤيا غيرهم، رؤيا غيرهم لا يعول عليها في الأحكام.
(فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا) أي استسلما الوالد والولد لأمر الله الذي لا يقدم عليه أمر في هذه الحياة (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 102- 103]، وقبض على جبينه ليمرر السكين على رقبته (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 104- 110].
ولا شك -أيها الإخوة الأحبة- ليس معنى الآيات الكريمات أو هذه الحادثة الواقعية ليس معناها أبداً أن الله -عز وجل- سيوحي للمسلمين فيأمرهم بذبح أولادهم بأيديهم، ولكن هذا مثَل أعلى يتذكره كل مسلم ومسلمة وفي كل عام عند تقديم أضاحيهم أنهم إن وطّنوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل غالٍ ورخيص في سبيل حرماتهم ومقدساتهم والدفاع عن دينهم وأوطانهم فجدير بعدالة الله أن ينصرهم وان يرزقهم النصر (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما عمل ابن آدم في هذا اليوم أفضل من دم يهراق، إلا أن تكون رحما توصل".
وفي حديث آخر "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله -عز وجل- من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا".
وفي حديث آخر عن ابن عمر وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أقام بالمدينة عشر سنوات يضحي". وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله سيد الخلائق والبشر الشفيع المشفع في المحشر صلى الله عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فاتقوا الله العلي حق تقواه وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه، واعلم أنه لا يضر وينفع ويصل ويقطع ويفرق ويجمع ويعطي ويمنع يخفض ويرفع إلا الله.
واعلموا أن الله -سبحانه وله الأمر- أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وسن فيها بملائكة قدسه فقال وعز من قائل مخبرا وأمرا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم فصلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما تعاقبت الأوقات، اللهم أيد الإسلام والمسلمين وانصر يا مولانا كلمة الحق والدين، وبدد اللهم شمل الكفرة والفسقة والملحدين .. اللهم عليك بكل ظالم وباغٍ ومعتدٍ وخائن يخون الإسلام والمسلمين يا رب العالمين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي