الإنفاق على الأهل والأولاد، أفضل من الإنفاق في سبيل الله، وأفضل من الإنفاق في الرقاب، وأفضل من الإنفاق على المساكين؛ وذلك لأن الأهل ممن ألزمك الله بهم، وأوجب عليك نفقتهم، فالإنفاق عليهم فرض عين، والإنفاق على من سواهم فرض كفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية.. وقد يكون الإنفاق على من سواهم على وجه التطوع، والفرض أفضل من التطوع.
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الزوجة والأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، وأوجب علينا رعايتهم ورتب عليها الأجر والثوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوه؛ ففي طاعته الخير والبركات، وفي الاطلاع على سُنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- وتطبيقها تطيب الحياة، ومن المواقف النبوية ما حدثت به أمُنا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» (رواه مسلم).
نظرت إلى هذا الحديث متأملاً فتملكني العجب فقد أوجب الله كما قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه الأم الجنة، وأعتقها من النار ببذل هذه التمرة! ليس هذا الجزاء العظيم مقابل لذات التمرة بقيمتها السوقية كما يقال.. ولكن لما تضمه بذلها ممن لا يجد سواها ولا يملك إلا هي مع حاجته الماسّة لها من روح عالية في البذل والعطاء لأقرب الناس وهم الذرية..!!
وهذا أوضح دليل على فضل رعاية الأولاد والنفقة عليهم وإيثارهم خصوصاً عند المسغبة وشدة الحاجة.. فيا الله ما أعظمه من عمل..! ويا الله ما أضخمه من جزاء، عملٌ في ظاهره يسير، ولكن ثوابه عند الله كبير.. فإيجاب الجنة والعتق من النار، هو مقصود العاملين ومرتجى المؤمنين وأمل الساعين! ها هو يتحقق لهذه المرأة بهذا العطاء..
أيها الأحبة: وهذا يقودنا للحديث عن باب النفقات وهو بابٌ كبير من أبواب الفقه جمع فيه أهل العلم كلَ ما يتعلق بالنفقة، وبينوا فيه بياناً شافياً ومفصلاً أحكاماً يطول في هذا المقام طرحها، لكن حسبي منه ما لا يعذر مسلم بجهله فمن هذه الأحكام:
أولاً: أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها، وهي حق من آكد حقوقها عليه، ويلزمه توفير كل ما تحتاج إليه من طعام وكساء ودواء ومأوى وأدوات تنظيف ومتاع بيتٍ، ونحو ذلك مما تحتاجه المرأة وجرت به العادة وتعارف عليه الناس.
والنفقة لازمة على الزوج على كل حال، سواء كان موسراً أو معسراً، وسواء كانت زوجته غنية أو فقيرة؛ لأن إنفاقه عليها من باب المعاوضة، فهي محبوسة عليه لمصلحته ومصلحة بيته وعياله، فتجب عليه نفقتها ولو كانت تملك الملايين..
قال الله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:7] أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي: ضُيِّق عليه (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) من الرزق.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا)، وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية؛ حيث جعل كلا بحسبه، وخفف عن المعسر، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، في باب النفقة وغيرها.
(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)، وهذه بشارة للمعسرين، أن الله –تعالى- سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5- 6].
قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "وممن تجب لهم النفقة كذلك الأقارب، قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى) [النساء:36].. فالقريب له حق في أن ينفق عليه قريبه، يعني أن يبذل له من الطعام والشراب والكسوة والسكنى ما يقوم بكفايته، لكن يشترط لذلك شروط:
الشرط الأول: أن يكون المنفق قادراً على الإنفاق؛ فإن كان عاجزاً فإنه لا يجب عليه الإنفاق، لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق:7]، أي: إلا ما أعطاها.
الشرط الثاني: أن يكون المنفَق عليه عاجزاً عن الإنفاق على نفسه، فإن كان قادراً على الإنفاق على نفسه فنفسه أولى، ولا يجب على أحد أن ينفق عليه؛ لأنه مستغنٍ، وإذا كان مستغنياً، فإنه لا يستحق أن ينفق عليه.
الشرط الثالث: أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه؛ لقوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة:233]، فإن كان قريباً لا يرث؛ فلا يجب عليه الإنفاق.
فإذا تمت الشروط الثلاثة؛ فإنه يجب على القريب أن ينفق على قريبه ما يحتاج إليه من طعام، وشراب، ولباس، ومسكن، ونكاح، وإن كان قادراً على بعض الشيء دون بعض؛ وجب على القريب الوارث أن يكمل ما نقص؛ لعموم قوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة:233].ا.هـ .
أيها الإخوة: ولقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النفقة على الزوجات والعيال من أفضل النفقات فعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ، دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ –أي: من يعوله ويلزمه مؤنته من نحو زوجة وخادم وولد- وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ –أي: التي أعدها للغزو عليها- وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "بَدَأَ بِالْعِيَالِ، وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمْ" رواه مسلم.
وقال الطبري: "البداءة في الإنفاق بالعيال يتناول النفس؛ لأن نفس المرءِ من جملةِ عيالِه بل هي أعظم حقّاً عليه من بقية عياله".. وقال النّوويّ -رحمه اللّه تعالى-: "الإنفاق الممدوح ما كان في الطّاعات"..
اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المرتضى، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابه ومن تبعهم واقتفى.
أما بعد يقول ربنا جل في علاه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها الإخوة: وهنا أمر يجب على المنفق أن يتفطن له، فعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "وَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك" (رواه البخاري)، أَيْ: فِي فَمِهَا. والمعنى: تُثاب على ما تنفقه على زوجتك من طعام وغيره، أو المراد ما تطعمه زوجتك بيدك مؤانسة وحسن معاشرة.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً". (رواه البخاري ومسلم).
أحبتي: يدل الحديثان على الأمر الذي يجب ألا يغيب عنا طرفة عين حين الإنفاق على الأهل وهو استحضار الاحتساب في النفقة قال ابن بطال -رحمه الله-: "ألا ترى أنه جعل الأجر في هذين الحديثين للمنفِق على أهله بشرط احتساب النفقة عليهم، وإرادة وجه الله بذلك. وبهذا المعنى نطق التنزيل قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]".
وقال رحمه الله: "يُنْفِق عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُقَتِّرٍ عَمَّا يَجِبُ لَهُمْ وَلَا مُسْرِفٍ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَمِنْ جَمِيعِ النَّفَقَاتِ".
وأبشر أيها المنفق بالخلف، فربنا يقول: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، ورسولنا يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه).
وبعد: أيها الإخوة: قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "الإنفاق على الأهل والأولاد، أفضل من الإنفاق في سبيل الله، وأفضل من الإنفاق في الرقاب، وأفضل من الإنفاق على المساكين؛ وذلك لأن الأهل ممن ألزمك الله بهم، وأوجب عليك نفقتهم، فالإنفاق عليهم فرض عين، والإنفاق على من سواهم فرض كفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وقد يكون الإنفاق على من سواهم على وجه التطوع، والفرض أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ". (رواه البخاري).
لكن الشيطان يرغّب الإنسان في التطوع، ويقلل رغبته في الواجب، فتجده مثلاً يحرص على الصدقة ويدع الواجب، يتصدق على مسكين أو ما أشبه ذلك ويدع الواجب لأهله، يتصدق على مسكين أو نحوه ويدع الواجب لنفسه؛ كقضاء الدَّيْن مثلاً، تجده مديناً يطالبه صاحب الدين بدَيْنه وهو لا يوفّي، ويذهب يتصدق على المساكين وربما يذهب للعمرة أو لحج التطوع وما أشبه ذلك ويدع الواجب، وهذا خلاف الشرع وخلاف الحكمة، فهو سفه في العقل وضلال في الشرع". ا.هـ.
أيها الإخوة: كم في مجتمعنا من مقصر وخصوصاً إذا طُلقت المرأة ولها عيال، وذهبوا مع أمهم.. ألا فليتق الله من تجب عليهم نفقتهم من الآباء أو غيرهم؛ فحقهم ثابت في ذمتهم.. لا يسقطه سكوت المطلقة أو عجزها عن الطلب.. أو تقصيرها في منح الأب حقه من الزيارة أو الحضانة..
اللهم فقهنا في ديننا، ونجنا من حقوق عبادك، وبارك لنا في ما أنفقنا، وارزقنا الإخلاص فيه.. وصلوا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي