إن الافتراء محرم شرعاً، وممجوج عرفاً، وممقوت أدباً، ولا يلجأ إليه إلا دنيء، ولا يمارسه إلا من في قلبه رقة في الدين، وانخرام في المروءة، وعدم مراقبة لله -سبحانه وتعالى-، كيف يفتري الإنسان على الناس الأكاذيب، ويختلق عليهم التهم، ويرميهم بالأقاويل التي لم يقولوها، وينسب إليهم الأفعال التي لم يفعلوها؟ هل يرضى لنفسه هذا؟...
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: من الصفات الذميمة التي راجت وانتشرت في عصرنا هذا صفة الافتراء، واختلاق التهم الباطلة ونسبتها إلى الناس كذباً وزوراً، وتحميلهم إياها، وإلصاقها بهم بدون حق. هذا هو الافتراء: أن تسند قولاً أو فعلاً يسيء لشخص لم يقم به، بقصد تشويهه ومحاولة النيل منه.
لقد حذر الله - سبحانه وتعالى- من هذه الظاهرة السيئة فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) [العنكبوت:68]. أي لا أحد أشد عقوبة ممن يختلق على الله الأكاذيب، ويدعي على الله ما لم يقله، ويفتري على الله الكذب، فهذا مثواه جهنم، وجزاه النار والعياذ بالله؛ لأنه اقترف فعلاً عظيماً، وعمل ذنباً كبيراً، وهو كبيرة الافتراء.
ويقول -سبحانه وتعالى- محذراً من الافتراء: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل:105]، فنفى عنهم الإيمان، ووصمهم بالكذب والبهتان، وقال -جل وعلا-: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [يونس:69]، فنفى عنهم الفلاح، فلا يفلحوا في الدنيا، ولن يفلحوا في الآخرة، ويقول –سبحانه-: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت:13].
إننا نلاحظ من خلال هذه الآيات العظيمة أن الوعيد على أهل الافتراء شديد، والأحكام عليهم قوية، وما ذلك إلا لعظم هذا الذنب وخطورته، فهو ذنب يحوي عدداً من الذنوب، ويشتمل على عدد من الموبقات، حيث يتضمن الكذب، وشهادة الزور، والوقيعة بالفتنة بين الناس، ويحتوي أيضاً على مجانبة الحق ومخالفة الحقيقة، وكل ذنب من هذه الذنوب عظيم بذاته؛ فكيف إذا اجتمعن كلهن في ذنب واحد؟ كيف ستكون حرمته وغلظته؟!.
أيها الناس: إن من صور الافتراء المنتشرة بيننا اليوم: الافتراء على الله -سبحانه وتعالى- والتألي عليه، والتحدث باسمه -جل وعلا- فيما لم يقله، والافتاء في دينه بغير علم ،كل هذا من الافتراء الذي قال عنه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود:18]، فلعنهم، وبيّن استحقاقهم لغضب الله ومقته، والطرد من رحمته، وسماهم ظالمين.
وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93]. يقول ابن كثير -رحمه الله-: "لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله، فقال: إنَّ الله أوحى إليه شيئًا، ولم يوحَ إليه شيء، ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، وهكذا لا أحد أشدُّ عقوبة ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالأول مفترٍ، والثاني مكذِّب؛ ولهذا قال: أليس في جهنم مثوى للكافرين" [تفسير ابن كثير:2/296].
وهناك آيات كثيرة في القرآن ينكر الله فيها على الكفار افتراءاتهم عليه، كفرية نسب الولد إليه، وفرية إقرار الاشراك به وادعاء صحة ذلك، وفرية التحليل فيما حرمه الله، وتحريم ما أحله الله، وفرية الكذب عليه، ونسب العادات القبيحة إليه، وغيرها من الافتراءات والبهتان.
ومن الافتراء الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونسب الأحاديث الموضوعة إليه، وتعمد الكذب عليه، كأن يقول: قال رسول الله كذا، ولم يقله، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" [البخاري: 10 ) مسلم ( 3 )].
إن هذه الظاهرة الخطيرة منتشرة اليوم في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم، فبات بعضنا لا يتكلّم إلا بالافتراء على الآخرين، واتهامهم بأشياء لا شأن لهم بها، ولا علم لهم بشيء منها، وكم من صديق يفتري على صديقه من أجل أن يُظهر نفسه أمام الناس أنه الأفضل منه، أو من أجل مصلحة ما، أو من أجل مكسب أو منصب معيّن؟.
وكم من مجالسنا هنا وهناك لا يخلو من الحديث عن الآخرين بالسوء والكذب؟ وكم من صحيفة أو مجلة تجد أكثر ما فيها هو من جملة الزور والافتراء؟ وكم من أبٍ وأمّ لا يربّون أطفالهم إلا على الافتراء والكذب والبهتان؟!.
وكم من ادعاءات واعتراضات أغلبها هراء وافتراء على عباد الله، وتلفيق واضح عليهم، ونسب التهم الباطلة لهم، وتحميلهم ما لم يحتملوا، واتهامهم بما لم يفعلوا، وتحميل كلامهم أكثر مما يحتمل، وكل هذا من الافتراء.
وصار الانترنت والموبايل في وقتنا الحاضر من أسهل الوسائل وأبسطها للقيام بأمور كهذه، فبضغطة زر واحدة تُرسل ألاف الرسائل التي تلفّق تهماً على الناس وتشوّه سمعتهم.
بل إن الافتراء يدخل حتى في باب المنامات والرؤى، فهناك أناس يحبون أن يفتروا على الناس بسرد رؤى يدّعون أنهم رأوها، وهم لم يروها، ويروون حكايات وأحلام ثم ينسبونها لأنفسهم افتراء وزوراً، يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ" [البخاري:3509] ومعنى "يري عينه ما لم تر"، أي أنه يدعي أنه رأى شيئا في المنام وهو لم يره، وعظّم ذنبه لأنه كذب على الله تعالى، لأنه ادعى الرؤيا الصادقة وهي من الله تعالى وجزء من النبوة، بينما هو في الحقيقة لم ينل شيئا من ذلك.
بل يفتري الإنسان أحياناً على زوجته أمام أهلها أو أمام أهله، ويقول أنها مقصرة في كذا وكذا وهي غير مقصرة، أو هي تفتري عليه وتقول رجل بخيل ورجل كذا وكذا، مع أنه رجل كريم وينفق عليها، ويعطيها ما يكفيها، ويحصل هذا أيضاً بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره، والصديق وصديقه.
ولكن كل هذه الافتراءات تنتهي وتزول، ولا يبقى في النهاية إلا الحق والصدق، كما قال تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:24]، وأمرنا ربنا -تبارك وتعالى- أن لا نهتم بهذه الافتراءات ولا نبالي بها كثيراً، فإنها لن تدوم طويلاً، ولن يصح في النهاية إلا الصحيح، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:112].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن الافتراء محرم شرعاً، وممجوج عرفاً، وممقوت أدباً، ولا يلجأ إليه إلا دنيء، ولا يمارسه إلا من في قلبه رقة في الدين، وانخرام في المروءة، وعدم مراقبة لله -سبحانه وتعالى-، نسأل الله السلامة والعافية.
كيف يفتري الإنسان على الناس الأكاذيب، ويختلق عليهم التهم، ويرميهم بالأقاويل التي لم يقولوها، وينسب إليهم الأفعال التي لم يفعلوها؟ هل يرضى لنفسه هذا؟ وهل يرضى أن يفعل به الناس كما يفعل بهم؟
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "في آخر الزمان قوم بَّهاتون، عيَّابون فاحذروهم؛ فإنهم أشرار الخلق، ليس في قلوبهم نور الإسلام، وهم أشرار، لا يرتفع لهم إلى الله عمل" [كتاب التوبيخ والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني:96].
عباد الله: من أشهر قصص الافتراء: الافتراء العظيم، والبهتان الكبير ،الذي ذكره الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم في حق أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-، عندما أتهمها أهل النفاق والإفك والافتراء بفاحشة الزنا، وأنزل الله في براءتها آيات تتلى إلى يوم القيامة، يقول فيها: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:11-16].
ومن ذلك: قصة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وكان أميراً على الكوفة، فشكوه إلى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، فأرسل عمر لجنة لتقصي الحقائق، فكانت هذه اللجنة تنزل في كل مسجد من المساجد، يسألون أهل المسجد ما رأيكم في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: والله ما نعلم عنه إلا خيراً، فلما جاءوا إلى مسجد بني عبس قام رجل اسمه أسامة بن قتادة وقال: أما إذ سألتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، فقام سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن.
فدعا عليه بدعوة جامعة، فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وافتقر حتى كان يتكفف الناس في الأسواق -نسأل الله السلامة-، وأصيب بالفتن حتى كان يجلس في الشوارع يتعرض للجواري ويغمزهن، وإذا قيل له ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه-.
فالحذر الحذر من هذه الآفة العظيمة، وهذا الذنب الكبير، ذنب الافتراء، واتهام الآخرين بالباطل والزور.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم جل جلاله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم أعذنا من الافتراء والبهتان، ونجنا من الكذب والزور والعصيان، وحبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا يا رحيم يا رحمن.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي