ها أنت -يا عبد الله-: قد عدت من حجك -بإذن الله- كيوم ولدتك أمك. عدت وقد صفت صفحت أعمالك، فعادت بيضاء نقية، فلا تسودها بالذنوب. وقد يقول الشيطان لإحدهم: أذنب، ثم إذا جاء الحج المقبل غُسلت عنك ذنوبك، فنقول لمثل هذا: أضمنت العيش إلى العام القادم؟. أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت تحت التراب مرتهن بعملك قد بلي جسدك، وذاب عظمك، تتمنى العودة إلى...
اللهم أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، فلك الحمد، وأنت الملك القدوس، فلك الحمد، وأنت السلام المؤمن المهيمن، فلك الحمد، وأنت العزيز الجبار المتكبر، فلك الحمد، وأنت الخالق البارئ المصور، فلك الحمد، أنت الذي تحكم فلا معقب لحكمك، فلك الحمد، وأنت الذي تحي وتميت، فلك الحمد، وأنت الذي تعافي من المرض، فلك الحمد، وأنت الذي تغني من الفقر، فلك الحمد، وأنت الذي تكسو من العري، فلك الحمد، وأنت الذي تطعم من الجوع، فلك الحمد، وأنت الذي تُؤمن من الخوف، فلك الحمد، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فعليكم -أيها الأحبة في الله-: بسب صلاح الأعمال، ومغفرة الذنوب، ألا وهي: تقوى الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
عباد الله: يا من أكرمكم الله بحج بيته، يا من وقفتم موقفاً تمنى ملايين المسلمين أن يقفوه، يا من اصطفاكم ربكم من بين خلقه؛ لتقفوا على صعيد عرفة، يا من باهى بكم الملك الديان ملائكته، يا من قال لكم ربكم حين نفرتم من عرفات: "أفيضوا عبادي مغفورٌ لكم لقد أرضيتموني ورضيت عنكم".
أيها الأحبة في الله: بعد هذه النعمة العظيمة من الله، وهي أن بلغنا الحج، فلا بد من وقفات مع النفس:
الوقفة الأولى: نتذكر فيها عظيم نعمة الله علينا، حيث أنه مع كثرة ذنوبنا، وعظيم خطايانا، وزللنا، يكرمنا الرحيم الرحمان بالوقوف بين يديه.
يكرمنا بأن نستغفره ونستهديه.
يكرمنا بأن ييسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا.
فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم تنزه عن الصاحبة والولد.
ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى *** وأنت إله الخلقِ ما شئت تصنعُ
فيا من هو القدوسُ لا رب غيـرهُ *** تباركت أنت اللهُ للخلقِ مرجعُ
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى *** توسلَ عبدٌ بائسٌ يتضــرعُ
أعني على الموتِ المريرةِ كأسـهُ *** إذا الروحُ من بينِ الجوانحِ تُنزعُ
ويا ربِ خلصني من النارِ إنهـا *** لبئسَ مقرٍ للغواةِ ومرجـــعُ
أجرني أجرني يا ألهي فليس لـي *** سواك مفرٌ أو ملاذٌ ومفــزعُ
الوقفة الثانية: كيف يقابل المؤمن هذه النعمة الإلهية، والمنحة الربانية: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60].
فلا بد أن يكون شكراً لربه، منيباً إليه.
وليس الشكر كما يتصوره البعض بأنه الشكر اللساني فقط، لكنه في حقيقة الأمر، هو الشكر القلبي، حيث يظل قلبك متعلقاً بخالقك، مستشعراً نعمته عليك.
ومعه الشكر العملي، فتكون بعيداً عن كل ما يغضب المنعم عليك، قريباً من كل ما يحبه ويرضاه، قال تعالى مبيناً هذا المعنى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ)[سبأ: 13].
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة، فقد كان يقوم من الليل، حتى تتفطر قدماه الشريفتان -فداه نفسي وأبي وأمي والناس أجمعين- فيقال له: يا رسول الله لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه؛ معلماً للأمة حقيقة الشكر: "أفلا أكون عبداً شكوراً".
ولنتخذ -عباد الله-: من هذه الكلمات شعاراً لنا في تعاملنا مع ربنا -جل جلاله-.
الوقفة الثالثة: أبتدؤها بسؤال: لو أنا رأينا رجلاً شيد عمارة، فنمقها وزينها وجودها، ثم جاء رجل آخر وأخذ يشوه ويهدم في ذلك البناء، فماذا نقول عن هذا الآخر؟
ألا نقول إنه ظالم باغي، ونحاول منعه من ذلك العمل؟
فما بالكم إذا كان الذي بنى العمارة هو نفسه الذي أخذ في تشويهها أو هدمها، ألا يعتبر هذا ضرب من الجنون؟.
وها أنت -يا عبد الله-: قد عدت من حجك -بإذن الله- كيوم ولدتك أمك.
عدت وقد صفت صفحت أعمالك، فعادت بيضاء نقية، فلا تسودها بالذنوب.
وقد يقول الشيطان لإحدهم: أذنب، ثم إذا جاء الحج المقبل غُسلت عنك ذنوبك، فنقول لمثل هذا أضمنت العيش إلى العام القادم.
أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت تحت التراب مرتهن بعملك قد بلي جسدك، وذاب عظمك، تتمنى العودة إلى الدنيا لتسبح الله تسبيحة واحدة، فلا تستطيع.
أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت على فراش المرض لا تستطيع أن تجلب لنفسك شربة ماء.
أما خشيت أن تتكاثر علي قلبك الذنوب والخطايا، فتغطيه طبقة الران -والعياذ بالله- فتصبح لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً.
تصبح طاعة الله أثقل عليك من حمل الجبال، وتكون معصيته أهون عليك من ذب الذباب عن أنفك.
أخي الحبيب: أنت الآن أمام فرصة ذهبية لا تقدر بثمن والذكي الألمعي هو الذي لا يدع الفرص تذهب من بين يديه هدراً، فإنه يخشى ألا تعود.
فها أنت وقد حطت عنك خطاياك التي كانت تعوقك، وتكبلك عن فعل الخيرات، وكانت تصدك عن ذكر الله.
فأنت الآن أكثر قدرة على الإمساك بلجام نفسك، والأخذ بها نحو الرضا الإلهي، والجود الرباني، فلا تتركها وشأنها، فإنك إن تركتها عادت لما كانت ألفت عليه:
والنفس كالطفل إن تتركه شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
ففطمها عن شهواتها وردها عن غيها، وخذ بها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9-10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)[النحل: 92].
الحمد لله ولي الصالحين، وملاذ الخائفين، قابل دعوة من كانوا بين يديه أذلاء منكسرين، المتجاوز عن ذنوب التائبين، أحمده سبحانه وأشكره أن جعل الجنة دار المتقين، وجعل النيران مثوى الكافرين، ومآل الظالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإنه مما ينبغي للمؤمن أن يكثر الفكر فيه هو قبول العمل، وهذه القضية في الحج أو غيره من الأعمال الصالحات، فكم من الناس يؤدي العمل، ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده من ضمان من الله بالقبول، بينما يصف ربنا -تبارك وتعالى- حال العباد الصالحين إذ يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 60-61].
أخرج الإمام أحمد: أن أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المذكورين في الآية أهم الزناة والسراق وشربة الخمر، يفعلون ذلك وهم يخافون الله؟
فأجابها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله -عز وجل-".
وقد كان هذا دأب سلفنا الصالح، فهذا محمد بن واسع يقوم ليله يبكي، حتى أن جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلمه جاره، فقال له: أرفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك، قال: والله إني عندما صففت قدمي بين يدي الله البارحة تصورت أن الجبار -جل جلاله- يناديني، فيقول: يا محمد اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك.
فاحرصوا -رحمني الله وإياكم- على القبول من ربكم، في كل عمل تعملونه صغيرا كان أم كبيرا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي