مشهد الاحتضار

عبدالله بن حسن القعود
عناصر الخطبة
  1. التذكرة بالموت .
  2. المشهد العظيم .
  3. نماذج ومواقف حال الاحتضار .
  4. حسن الظن بالله حال الاحتضار .
اهداف الخطبة
  1. ترغيب المؤمنين بالإقبال على الآخرة
  2. بيان فناء الدنيا وزوال ما فيها
  3. تحذير المؤمنين من التسويف وطول الأمل
  4. بيان حال المحتضر وتمنيه الطاعة

اقتباس

أمام كل باب مفتوح سيلجه، ومشهد عظيم سيشهده؛ لا مفر له منه ولا محيد له عنه، إيمان يقيني قائم بذلك في النفوس, وواقع مشاهد محسوس ملموس, أمامنا مشهد الاحتضار الذي ينتظر كلاًّ منا, وينتظره كل منا بلا موعد ولا خيار (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34], المشهد العظيم الذي صور لسامعه كأنه...

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله مقلب القلوب, علام الغيوب, غفار الذنوب، نبَّه الغافلين ووعظ اللاهين, وأنذر المستهترين, قال سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام:165], وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

 أيها الأخوة المؤمنون: أذكركم عسى أن نكون جميعاً ممن قال الله فيهم: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [الأعلى:10], أذكر بمقتضى ومدلول قول الله سبحانه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100] وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10].

أيها الأخوة: أمام كل باب مفتوح سيلجه، ومشهد عظيم سيشهده؛ لا مفر له منه ولا محيد له عنه، إيمان يقيني قائم بذلك في النفوس, وواقع مشاهد محسوس ملموس, أمامنا مشهد الاحتضار الذي ينتظر كلاًّ منا, وينتظره كل منا بلا موعد ولا خيار (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34], المشهد العظيم الذي صور لسامعه كأنه يشاهده في نفسه رأي العين, صور بقول الله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة:26-29] وقوله: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة:83-84] وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) [الأنعام:93] هذا المشهد العظيم الذي ذكرنا ووعظنا به, وصورت لنا حال من فوجئ به من المفرطين والمسوفين من كفرة وعصاة مسلمين، ماذا كان له من أثر في نفوسنا؟ أهو الاستعداد والتهيؤ الذي يفرح المسلم معه بلقاء ربه، وكأنكم به يقول: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يّـس:26-27] أم هو التسويف والتفريط حتى يؤخذ الإنسان على غرة فيندم حين لا ينفعه الندم، ويبكي حين لا ينفعه البكاء، ويتمنى حين لا ينفعه التمني؛ يتمنى بمثل ما ذكرْنا ووعظنا به من الآيات السابقة (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100] فيجاب بكلا (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [المنافقون:10] فيجاب بـ (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون:11] (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر:37] وكأنكم به يقول: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56] وشتان شتان بين من يقول: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يّـس:26-27] وبين من يقول: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) [الزمر:56].

فيا أخوة الإسلام، وهواة طوبى وحسن الختام: خذوا الاستعداد قبل أن تصلوا حالة الاحتضار، حالة من لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، فلكم أغفلها أقوام فندموا ومرّ بها أقوام فبكوا طويلاً حين لا ينفع البكاء.

روى الإمام مسلم   -رحمه الله - عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار فجعل يقول له ابنه عبد الله: "يا أبتاه أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا، قال: فأقبل بوجهه إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتُني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، فقبضت يدي، قال: "ما لك يا عمرو؟" قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: "تشترط ماذا؟" قلت: أن يُغفر لي. قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله" وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه. ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها". ا.هـ  وأثر عنه أنه قال: "في حالة تلك غاب رشدي حتى حضر أجلي"، وأنه قال: "يا ليتني مت يوم ذات السلاسل، أرجى موقفاً يرجوه".

وقال ابن كثير في البداية والنهاية في خبر عبد الملك بن مروان، قال أبو مسهر: قيل لعبد الملك في مرض موته: "كيف تجدك؟ قال: أجدني" كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94]".

وقال سعيد بن عبد العزيز لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصاراً بالوادي، فقال: "ما هذا؟ قالوا: قصار. فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يومي"، فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله قال: "الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم". وقال: لما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب على رأسه، ويقول: "وددت أني اكتسبت قوتي يوماً بيوم، واشتغلت بعبادة ربي وطاعته".

ومقابل هذه النماذج في بكائها وندمها عند موتها على تفريطها؛ نماذج أخرى تبكي عند موتها على مفارقة طاعاتها ومجالات إصلاحها, على مفارقة ليل الشتاء أتراهم لنومه، لا والله، ولكن لسعته للقيام والتلاوة والمناجاة والذكر والاستغفار ومزاحمة العلماء للأخذ عنهم. روى الإمام أحمد -رحمه الله- في كتاب الزهد ص18: أن معاذ بن جبل ر-ضي الله عنه- في مرض موته غفى، ثم أفاق، فقال: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها؛ لكرى الأنهار –إجرائها- ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات, ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر". وكان رضي الله عنه صادقاً، فقد روي في فضله وعلمه وتقدمه بالعلم آثار كثيرة.

فاتّقوا الله أيها الإخوة: واختاروا لأنفسكم أفضل النموذجين وأرجى الوصفين، اشغلوا النفوس بطاعة الله وتهيئتها؛ لتعامل وتحيى وتبشر في مقام الاحتضار بتحقق وعد الله  - سبحانه - لها في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30] وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30] كتب الله لنا جميعاً ذلك، إنه سميع مجيب.

وأوصي نفسي ومن قدر له من المسلمين أن يعي حالة الاحتضار أن يحسن الظن حالتها, في الله فقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يكثر من قول: لا إله إلا الله، عسى أن يختم له عليها".

قال عليه الصلاة والسلام: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة" رواه أبو داود والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقال عليه الصلاة والسلام: "لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله" رواه مسلم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي