فأنتم اليوم تشاهدون آيات الله التي لو أُنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله، تشاهدونها تتلى فلا تحرِّك قلوباً ولا تسيل دموعاً, ولا تنهى عن غيٍّ إلا من شاء الله، تشاهدون يد المنون تخطف أرواح الملأ في كل آونة من بين ظهرانينا بدون إشعار أو سابق إنذار, إذ يصبح أحدنا في أبهى حلة وأروع منظر، ويمسي بين أطباق الثرى قد حيلَ بينه وبين كل شيء، تشاهدون تداعي أمم الشرِّ على الإسلام من...
الحمد لله مقلب القلوب والأبصار، أحمده سبحانه وأسأله الاستقامة والادّكار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيّدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد: فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة, إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
عباد الله: هذا إخبار الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه سبق لتوجيهنا نحن المسلمين, وحثنا على حفظ قلوبنا وحمايتها ووقايتها من الأخطار، وإنَّ شيئاً هو مصدر سعادة الإنسان أو شقاوته، ومنه تنبعث حياته الروحية أو موته المعنوي؛ لجدير بأن يحث على حمايته وحفظه، ومع الأسف أننا -معشر المسلمين- اليوم، أو معظمنا فرطنا في هذه الناحية وأقولها بكل مرارة, فلم نعط قلوبنا ما تستحقه من حماية، ولم نُحطها بسياج الإيمان المطلوب، فوقعنا في شر ما وقع فيه من قبلنا، في أعظم داهية وأخطر داء وأخسر صفقة ألا وهو: فقدان الإحساس الروحي، وموت الضمائر المعنوي الذي غطّى القلوب وران عليها فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة: لا تتأثر بأية موعظة مهما كانت، ولا تستجيب لنداء الإسلام، ولا تستفزها نذرُه، عياذاً بك –يا رب- ولا حول ولا قوة إلا بك.
ولا غرو -أيُّها المسلمون- فأنتم اليوم تشاهدون آيات الله التي لو أُنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله، تشاهدونها تتلى فلا تحرِّك قلوباً ولا تسيل دموعاً, ولا تنهى عن غيٍّ إلا من شاء الله، تشاهدون يد المنون تخطف أرواح الملأ في كل آونة من بين ظهرانينا بدون إشعار أو سابق إنذار, إذ يصبح أحدنا في أبهى حلة وأروع منظر، ويمسي بين أطباق الثرى قد حيلَ بينه وبين كل شيء، تشاهدون تداعي أمم الشرِّ على الإسلام من كل حدب وصوب وغزوهم للعقائد والأخلاق والأحكام، وغير ذلكم من ألوان الفتن التي كقطع الليل المظلم, ومع ذلكم -ويا للأسف- كأن تلكم المشاهدات أمامنا سراب لا حقيقة له أو أضغاث أحلام, لا يتوقع لها تأويل ولا يفكر فيما ستتمحض عنه وتلده من شر –عياذاً بالله-, وسر ذلكم كله مرض القلوب المزمن، وعدم شعورها وتضلّعها بمسئوليتها، وواجبها أمام الله، بل وأمنها من مكر الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99].
عباد الله: إنَّ أمامكم يوماً عظيماً تبرز الكامنات، وتظهر فيه الحقائق وتنكشف النيّات, يوماً يُنشر فيه لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]. والقلب السليم الذي لا ينجو إلاَّ من أتى الله به, هو الصحيح الممتلئ بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه, المتجلى في امتثاله أوامره واجتناب نواهيه والخالي من كل شبهة تعارض خبر الله أو شهوة تميل إلى ما حرّم الله.
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- وتجنّبوا كل ما يُمرض القلوب أو يميتها, وإنَّ أكبر ممرض وأعظم مميت هو الصدود من ذكر الله، وعن استماع كتابه وتدبره والعمل به يقول سبحانه: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]. ومما يمرض القلوب وقد يميتها ويقضي على إحساسها الصادق أكل الحرام ومقارفة الآثام, يقول سبحانه: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5]، ويقول: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]؛ ومن عوامل إمراض القلوب وافتتانهم وغفلتها الاستماع إلى آلات اللهو المحرمة من غنىً ودفّ وغيرهما، مما يضل عن سبيل الله، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "الغناء ينبت النفاق في القلب, كما ينبت الماء الزرع" ويقول جلَّ وعلا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان:6-7].
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- وأحيوا قلوبكم ونوِّروها وتعاهدوها في كل آونة, بالإقبال على كتاب الله عملاً وتلاوة واستماعاً وتدبراً، وأكثروا من الأعمال الصالحة، فهي من أقوى العوامل في إثارة القلوب وهدايتها واستقامتها، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17].
وجالسوا الأخيار الذين إذا رؤوا ذُكر الله، وقصِّروا الأمل وزوروا القبور وتفكروا فيمن بين طيّاتها, ممن صال وجال وعَمر الأرْض أكثر مما عمرتموها، وتوقعوا أننا إلى ما صاروا إليه صائرون -فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون- يقول سبحانه وقوله الحق: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:57-58].
أقول قولي هذا وأسأل الله أن يثبت قلوبنا وأن ينوّر بصائرنا وأن يرزقنا الاستقامة حتَّى نلقاه تعالى، إنَّه تعالى حسبنا ونعم الوكيل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي