وكم في إخراج الزكاة من تزكية الفقراء والمساكين بصيانة وجوههم من ذل السؤال، وإعفافهم وحفظ كرامتهم في جميع الأحوال، وإعانتهم على طاعة الكبير المتعال، مع نشر المودة والمحبة والوئام بين المسلمين، وإغاثة الملهوفين، وإسعاف المنكوبين والمنقطعين، ونشر الإسلام بين العالمين، وكف عدوان أعداء الدين من المشركين والمغضوب عليهم والضالين
الحمد لله الذي جعل الزكاة قرينة الصلاة، وجعلها لأهل الإيمان من أجل الأعمال وأكرم الصفات. أحمده سبحانه على نعمه الجليلة السابغات، وأشكره وقد تأذن للشاكرين بالمزيد في محكم الآيات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب المتقين، ويجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير البرية وأكرم الناس خليقة وأحسنهم طوية، الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويحث على بذل الفضل في العسر واليسر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله في سائر أوقاتكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وتنافسوا في كثرة صدقاتكم؛ فإن الزكاة برهان الإيمان، وهي من الإسلام الثالثة من الأركان، حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يزكِّ فلا صلاة له ".
أيها المسلمون: كم للحكيم العليم من الحكم العظيمة في تشريع الزكاة؛ فقد شرعها -تعالى-؛ لما يترتب على إعطائها وبذلها من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة، والآثار المباركة على المتصدقين والآخذين؛ إذا كانوا لله -تعالى- مخلصين، ولنبيهم -صلى الله عليه وسلم- متبعين، فإن بذل المال لله مع حبه آية الإيمان، وعلامة التصديق بأحكام ووعد الملك الديان، والطمع في ثقل الموازين بالحسنات، وسبب للفوز بالثواب العظيم والأجر الكريم من الغني الرؤوف الرحيم: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274].
والزكاة تنقي باذلها من الآثام، وتطهره من البخل والشح وغيرهما من أخلاق اللئام، وتجعله من الأخيار الكرام، المؤهلين لمجاورة ذي الجلال والإكرام في الجنة دار السلام، فإن الله تعالى قضى أن لا يجاوره فيها بخيل، وكم في بذل الزكاة من وقاية المرء من عقوبات الذنوب، وصرف عظيم المصائب والكروب، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة:103].
وفي إخراج الزكاة تطهّر المال من موجبات تلفه وآفات زواله، وذلك من أسباب حلول البركة فيه، وسرعة كثرته ونمائه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما نقصت صدقة من مال " وفي غيره: "بل تزده " ، وقال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]. يعني يأتي ببدله وخير منه.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: أنفق يا بن آدم ينفق عليك ".
وهو -سبحانه- الغني الذي لا ينفذ ما عنده، الكريم الذي لا يمن بفضله، الشكور الذي يضاعف ثواب النفقة في الدنيا والآخرة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره " وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال: " حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة ".
أيها المسلمون: وكم في إخراج الزكاة من تزكية الفقراء والمساكين بصيانة وجوههم من ذل السؤال، وإعفافهم وحفظ كرامتهم في جميع الأحوال، وإعانتهم على طاعة الكبير المتعال، مع نشر المودة والمحبة والوئام بين المسلمين، وإغاثة الملهوفين، وإسعاف المنكوبين والمنقطعين، ونشر الإسلام بين العالمين، وكف عدوان أعداء الدين من المشركين والمغضوب عليهم والضالين.
فكم في إخراجها من الخير العظيم العائد على المتصدق والمتصدق عليه، والأجر الكبير عند الله تعالى يوم القدوم عليه، وكم لها من الآثار المباركة في عموم مجتمعات المسلمين والتسبب في دفع عدوان المعتدين، وهداية الجم الغفير من الخلق لهذا الدين؛ فما أعظمها من فريضة! وما أجلها من شعيرة! وما أعظم ما يترتب على منعها من عظيم البليات وشديد العقوبات في الحياة وبعد الممات! فقد روى الطبراني عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أفسدته " وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة ".
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- لعن مانع الزكاة؛ ويكفيه ذمًّا أنه متشبه بالمشركين الذين توعدهم الله بقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [فصلت:6-7]. ومتشبه بالمنافقين المذمومين في قول الله المبين: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة:54]. والمتوعدين بقوله -سبحانه-: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة:67-68].
أيها المسلمون: المال الذي لا يزكى شؤم على صاحبه، يشقيه في الدنيا، ويعذب به في الأخرى؛ ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بِلَهْزَمَتَيْهِ -يعني شدقية- ثم يقول: أنا مالك " ثم تلا -صلى الله عليه وسلم- قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:180].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره؛ كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " ، وفي حديث آخر: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه؛ تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها وأظلافها؛ كلما نفدت أخرى عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس ".
فاتقوا الله -عباد الله-، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تفوزوا بخيرها وبركتها وثوابها في الدنيا والآخرة، ويكفيكم قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:4-11]. واحذروا شؤم منع الزكاة؛ فإنه عار وشر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة.
أيها المؤمنون! إن الله تعالى أعطاكم الكثير من المال، وطلب منكم شيئاً يسيراً منه، رحمة بكم، وإحساناً إليكم فلا تبخلوا؛ فإنه (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
فآمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير، أنفقوا على من أمركم الله بالإنفاق عليه من مال الله الذي آتاكم؛ فإنه عارية عندكم، استخلفكم الله فيه لينظر كيف تعملون. فاتقوا الشحّ فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، واتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:17].
أيها المؤمنون: إن الله تعالى يسر لكم أمر هذه الفريضة من عدة وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لم يوجبها إلا في الأموال النامية كبهيمة الأنعام السائمة، وعروض التجارة، والأثمان، والخارج من الأرض.
ثانياً: أن من شروطها الملك؛ فالمال الذي لا مالك له لا زكاة فيه، كأموال الوقوف، وجمعيات البر، ونحو ذلك، والتركات قبل أن تقسم على أصحابها.
ثالثاً: لا بد فيه غالباً من مضي الحول؛ فأي مال لم يمض عليه الحول فلا تجب فيه الزكاة إلا الخارج من الأرض، فحوله وقت نضجه وحصاده، وربح التجارة فحوله حول أصله، وهكذا نتاج السائمة.
رابعاً: أن نسبة الزكاة قليلة لا تجاوز اثنين ونصف في المائة غالباً.
فأنفقوا وثقوا بالخَلَف الجزيل من الله، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، وهو من تزيين الشيطان لكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:267-269].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من أئمة أوليائه وخاصة أحبابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب فاستغفروه. إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على جزيل نعماه، وجليل عطاياه، أحمده سبحانه وأسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خلفائه في أمته في بيان دينه وهداه.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، وتوبوا إليه، وأحسنوا إلى عباده ابتغاء وجهه تكونوا من أحب الخلق إليه، وتفوزوا بالرحمة والفلاح يوم القدوم عليه.
أيها المسلمون: إذا أراد الله بعبده خيراً جعل قضاء حوائج العباد على يديه؛ لما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة " متفق عليه. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن مسلم رحمه الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوة سبعين حسنة، ومحا عنه سبعين سيئة، إلى أن يرجع من حيث فارق، فإن قضيت حاجته على يديه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وإن هلك فيما بين ذلك دخل الجنة بغير حساب. فاسعوا في حوائج عباد الله تُعَانوا وتُقضى حوائجكم بأيسر الأسباب ".
فكم في عباد الله من رجال موفقين مباركين، لا يدخلون في شيء إلا أصلحوه، ولا خير إلا ثمَّروه، ولا عمل إلا أتقنوه وأصلحوه، وإن سعوا في حاجة قضوها، أولئك هم الميسرون لما خلقوا له؛ فتيسر على أيديهم الأمور، ويفوزون من الله بعظيم الأجور.
قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله في كتاب الأربعين: فعلم عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو إشارة أو نصح أو دلالة إلى خير أو إيمانه بنفسه أو سفارته ووساطته أو شفاعته أو دعائه بظهر الغيب، ومما يعلمك بعظيم الفضل في هذا وما بعده أن الخلق عيال الله، وتنفيس الكرب إحسان إليهم؛ ففي الأثر: الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أرفقهم بعياله.
وليس شيء أسهل من كشف الكروب ودفع الخطوب إذا ألمت على المؤمن الذي لا يرى نفسه إلا وقفاً على إخوانه يعينهم فيما استطاع، ويصبرهن على ما كان، ويؤمن خائفهم، ويساعد ضعيفهم، ويحملهم ثقلهم، ويجدون عنده المعدوم، ولا يضجر منهم ولا يسأمهم، ولا يملهم..... إلخ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي