والمؤمنون بربهم، المتفكرون في خلقه؛ يدركون عظمتَه، فيُقِرُّون بربوبيته، ويخضعون لألوهيته، ويخلِصون في عبادته، ولا يشركون معه غيرَه، لا في محبةٍ ولا رجاءٍ ولا خوف، يتأملون آياتِه، ويتفكرون في مخلوقاتِه، فتخشع قلوبهم، وتقشعرّ أجسادهم، وتفيض بالدمع أعينهم؛ إجلالا لله -تعالى- وتعظيما وإخلاصا، وتلهج ألسنتهم بذكره -عز وجل- وتسبيحه وتكبيره وحمده، قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].
أما بعد عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوه -تعالى- حق التقوى، واحذروا أسباب سخطه فإن أجسادكم على النار لا تقوى.
معاشر المؤمنين: من أسماء الله الحسنى: العظيم، ومن صفاته العلى: صفة العظمة؛ فهو العظيم الذي خضع كلُّ شيء لأمره، ودان لحكمه، والكلُّ تحت سلطانه وقهره، فلا شيء أعظمَ منه، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255].
وما السماوات السبعُ في الكرسيِّ إلا كَحَلْقَةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاة، وعظَمَةُ العرشِ بالنسبة للكرسي كعظمةِ تلك الفلاةِ على تلك الحَلْقَة، والله -تعالى- مُستوٍ على عرشه.
عَلِمَ ملائكتُه المقربون عظمتَه فخافوه وأذعنوا، وعظموه وسبحوا، ولم يستنكفوا عن عبادته ولم يستكبروا: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20].
ومع أنهم -عليهم السلام- ماضون في تنفيذ أمره، إلا أنهم وجلون مشفقون: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:27-28].
عباد الله: إن عظماءَ الدنيا مهما علو وبلغوا؛ فإنهم لا يعلمون إلا ما يشاهدون أو يُنقل إليهم؛ ولذلك احتاجوا إلى خدمةِ رعاياهم، وما يخفى عليهم من أمورِ ممالكهم أكثرُ مما يظهر لهم، وقد يخدعُهُم بعضُ المقربين إليهم، ولا تخافهم رعيتهم في السر ولو أظهروا الخضوع لهم في العلن.
والله -جل جلاله- كلف الملائكةَ وهو غنيٌّ عنهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أحوالِ خلقه ولو لم يُنقل إليه؛ بل إن الملائكةَ يخبرونه الخبرَ وهو -عز وجل- أعلمُ منهم بما أخبروا به، وهذا من عظمته، جل في علاه.
والخلقُ يفرُّون من عظماءِ الخلق فيطلبونهم وقد لا يجدونهم، وربما يعجَزُون؛ وأما القوي العظيم فلا فِرَارَ للخلقِ منه إلا إليه، ولا معاذَ منه إلا به: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118].
قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني -رحمه الله-: العظمةُ صفةٌ من صفاتِ الله -تعالى-، لا يقوم لها خلق، والله -تعالى- خلَق بين الخلق عظمةً يُعظِّم بها بعضُهم بعضا، فمن الناس من يُعظَّم لمال، ومنهم من يُعظَّم لفضل، ومنهم من يُعظَّم لعلم، ومنهم من يُعظَّم لسلطان، ومنهم من يُعظَّم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يُعظَّم بمعنىً دون معنى، والله -عز وجل- يُعظَّم في الأحوال كلِّها؛ فينبغي لمن عرف حقَّ عظمةِ الله -تعالى- أن لا يتكلمَ بكلمة يكرهها الله -عز وجل-، ولا يرتكبَ معصيةً لا يرضاها الله -عز وجل-؛ إذ هو القائمُ على كل نفسٍ بما كسبت. اهـ.
عباد الله: لقد عَلِمت الرسلُ -عليهم السلام- عظمة العظيم؛ فنصبوا في عبادته ودعوا أقوامهم إلى خشيته، وخوَّفُوهم من نِقْمَتِه، فهاهو نوح -عليهم السلام- يقول لقومه: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [نوح:13-14]، أي : ما لكم لا ترون لله -تعالى- عظمة.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يخاطبه ربه -عز وجل- بقوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، فيقول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ"، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ".
وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من تعظيم ربه -عز وجل- وتسبيحه في ركوعه وسجوده، وفي كل أحيانه، ومن ذلك قوله: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي".
وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- شيئاً من عظمة ربه في خلقه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
فإذا كانت صفحة عنق هذا الملَك الكريم بهذا الحجم؛ فما حجمه كاملا، وهو واحد من خلق الله العظيم؟ وكيف بمخلوقاته الأخرى؟ فسبحان الله العظيم!.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ -عز وجل- مَلَائِكَةً تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ يَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةٌ، إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ، وملائكةً سجوداً منذ خلق الله السماواتِ والأرضَ لم يرفعوا رؤوسَهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وملائكةً ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفا لم ينصرفوا عن مصافهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان يومُ القيامة تجلىَّ لهم ربهم فنظروا إليه وقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك!" كنز العمال.
أيها الأحباب: سئل بعض السلف عن عظمة الله -تعالى- فقال للسائل: "ما تقول في من له عبد واحد يسمى جبريل له ستمائة جناح، لو نَشر منها جناحين لستر الخافقين؟". فسبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه!.
والمؤمنون بربهم، المتفكرون في خلقه؛ يدركون عظمتَه، فيُقِرُّون بربوبيته، ويخضعون لألوهيته، ويخلِصون في عبادته، ولا يشركون معه غيرَه، لا في محبةٍ ولا رجاءٍ ولا خوف، يتأملون آياتِه، ويتفكرون في مخلوقاتِه، فتخشع قلوبهم، وتقشعرّ أجسادهم، وتفيض بالدمع أعينهم؛ إجلالا لله -تعالى- وتعظيما وإخلاصا، وتلهج ألسنتهم بذكره -عز وجل- وتسبيحه وتكبيره وحمده، قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191].
عباد الله: لقد دلت الدلائل والآيات على عظمة الله -جل في علاه-، وخضعت له المخلوقات، وصلحت الأحوال، فَقَنَت الكلُّ له -عز وجل-: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83].
فهو -جل جلاله- عظيم في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، عظيم في ملكه وخلقه، وفي حكمته ورحمته؛ عظيم في افتقار خلقه إليه وغناهُ عنهم، عظيم في تدبير شؤون خلقه؛ وكلُّ عظمةٍ في الوجود فهي دليلٌ على عظمةِ خالقها ومدبِّرها -جل في علاه-.
ومن تأمل آية الكرسي علم أنها قد جمعت أوجُهَ العظمةِ للخالق -سبحانه- فاستحقت أن تكون أعظم آية في كلامه -عز وجل-، كما استحقت الفاتحةُ أن تكون أعظم سورة؛ لأنها دلت المؤمنين على عظمةِ العلي العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
أيها المسلمون: إن عظمة الخالق يُقر بها كلُّ مسلم، ولا يماري فيها إلا زنديقٌ أو ملحد، وأهلُ الشرك في القديم كانوا يُقرون بعظمةِ الله، ولكنهم يشركون معه آلهةً أخرى.
واعلموا -عباد الله- أن للإيمان بعظمة الله -تعالى- ثماراً، وله آثارٌ تدل على تعظيمِ العبدِ لله -جل وعلا-.
فمن أعظم ثمار الإيمان بعظمة الله -عز وجل-: فرحُ القلبِ، وسرورُه، وطمأنينتُه؛ لأنه صرف التعظيم لمن يستحقُّه، وتلك هي جنة الدنيا التي مَن دخلها دخل جنة الآخرة.
ومن عظَّم الله -عز وجل-، وصفه بما يستحقُّ من الأوصاف، وأقرَّ بأفعاله، ونَسَبَ النِّعمَ إليه دون سواه، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].
ومن عظَّم الله -تعالى- خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه حقا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور.
وكلما قويَ تعظيمُ اللهِ في قلبِ العبدِ استصغر العبدُ نفسَه، واستقلَّ عملَه.
ومن عظَّم اللهَ -تعالى- عظَّم شريعتَه، وأجَلَّ أهلَها وحملَتَها والعاملين بها؛ فإجلالهم من إجلال الله -تعالى- وتعظيمه.
ومن عظَّم الله -تعالى- وقف عند حدوده، وامتثَلَ أوامرَه، واجتنب نواهيَه، وعظَّم شعائرَه، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج:30]، وفي آية أخرى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
ومن عظَّم الله -تعالى- قدَّم محبتَه، ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومحبةَ ما يحبه الله ورسولُه على محبةِ نفسِه وشهواتِه وأهلِه وولدِه ومالِه وكلِّ محبوب.
ومن عظَّم الله -تعالى- أكثَرَ من ذِكرِه، ومن عظَّم الله -تعالى- توكل عليه، واعتصم به، ولم يخف أحداً سواه؛ فما في قلبه من تعظِيمِ الله -عز وجل- أقوى وأمكنُ من المخلوقين، مهما بلغت قوتهم وكثرتهم.
ومن عظَّم اللهَ -تعالى- لم يُقدِّم على كلامه أيَّ كلام، بل يديمُ النظرَ فيه، ويتلوه ويتدبرُه ويعملُ به، ويتأملُ فيه صفاتِ العلي العظيم، ولا يهجره.
عباد الله: إننا مهما عملنا من تعظيمٍ لله -تعالى-، فلا نزال عاجزين عن تعظيم قدر الله -تعالى- حق قدره وتعظيمه كما ينبغي له أن يُعظَّم؛ فحقه -عز وجل- أعظم، وقدره أكبر، والمؤمن يسعى في ذلك جُهدَه، ويبذل وُسعَه؛ والله لا يخيِّبُ سعيه وعملَه، ويجزيه على قليلِ سعيه أعظمَ الجزاء، وأجزلَ الثواب، إنه جواد كريم.
ثم صلوا وسلموا -عباد الله- على خير خلق الله، وأفضل أنبيائه ورسله؛ استجابة لأمر الله -عز وجل- حيث قال، جلّ من قائل عليم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي