النفوس تتشوق إلى الرَحَلاَت، وتتطلع إلى التنقلات، وما فيها من العجائب والحالات والقصص والمحادثات.. ومن هذه الرحلات رحلة المصطفى إلى حج بيت الله الأعلى رحلة مكية وتحفة ثنية، رحلة تشوّق النفوس وتغذّي الإيمان، رحلة نبوية، وحجة إيمانية، كان عدد أصحابها وركابها مائة ألف وأربعًا وعشرين ألفًا، عدد هائل وجمع كبير حافل، فيها النساء والصبيان، والكبار والشبان، والحضر والبدو، وأهل الريف والحوامل، والمسكين والضعيف، رحلة جميلة وصحبة جليلة، كيف لا وقائدها سيد الخليقة وإمام البرية؟!
الحمد لله الذي سهّل طريق السعادة للسالكين، وأنار سبيل الهدى للعالمين، ودعا أحبابه الأبرار لزيارة بيته فلبوا دعوته مسرعين، وفارقوا لأجل رضاه الأهل والبنين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الصادق الأمين، اللهم صلّ عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وخص منهم الأربعة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها المسلمون: إن النفوس تتشوق إلى الرَحَلاَت، وتتطلع إلى التنقلات، وما فيها من العجائب والحالات والقصص والمحادثات.
ومن هذه الرحلات رحلة المصطفى إلى حج بيت الله الأعلى رحلة مكية وتحفة ثنية، رحلة تشوّق النفوس وتغذّي الإيمان، رحلة نبوية، وحجة إيمانية، كان عدد أصحابها وركابها مائة ألف وأربعًا وعشرين ألفًا، عدد هائل وجمع كبير حافل، فيها النساء والصبيان، والكبار والشبان، والحضر والبدو، وأهل الريف والحوامل، والمسكين والضعيف، رحلة جميلة وصحبة جليلة، كيف لا وقائدها سيد الخليقة وإمام البرية؟!
فلعلنا نحط رحالنا، ونضع أقلامنا لنعيش أجواءها ونستنشق نسماتها، ونصحبها حبًّا ومعنًى وشوقًا واقتداءً وتطبيقًا، وإن لم نصحبها واقعًا ملموسًا، صدقًا نعيش معها بوصف دقيق وترتيب نميق، ووصف بالغ في التحقيق، فلنفسح المجال لمن صحبها في الحال وأهل التخصص والمقال ليعطينا دروسها وفوائدها وتنقلات رسولنا فيها، ألا وهو جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
حق له أن يوسم وصفه بمنسك جابر، واشتهر عند الأصاغر والأكابر، وعُنِي به العلماء من الأوائل والأواخر، فأصغى إلى أنفاسه وتفهم خطابه، وأصغى له ليصف لك الحديث وحجة الرسول الكريم بإسراع وحثيث، حجة مكية يودع النبي فيها أصحابه قولاً وفعلاً فيقول: "لتأخذوا عني مناسككم؛ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
ويذبح بيده الشريفة الكريمة من بُدْنه العظيمة ثلاثًا وستين بدنة، إشارة إلى وقوف عمره وانتهاء أجله، فعمره ثلاث وستون سنة، فهي حجة البلاغ والتمام، وحجة الكمال والإسلام، وحجة الوداع للأنام.
الجذع حنّ إليك يا خير الورى *** كيف النفوس إليك لا تشتاقُ؟!
صلى عليك الله ما لاحت لنا *** شمسٌ وما اهتزت هنا أوراقُ
فعن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي، فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ، رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَصَلَّى بِنَا، فَقُلْتُ: "أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فَقَالَ بِيَدِهِ: فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ"، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: "اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي".
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَام-، فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125].
فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ: وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ).
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)؛ أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا.
حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ، فَقَالَ: "لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً".
فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: "أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟" فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ".
وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلْتَ: حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟، قَالَ: قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ: فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ.
قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلَّا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ.
ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ.
وَقَالَ: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟"
قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ.
فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: "أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: "انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ" فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
ومما ينبغي التذكير به في هذه الأيام الأضحية، فخذوا معلومات باختصار وانتباه وادكار، فالأضحية للأحياء والأموات، فهي صدقة من الصدقات، ولا بأس بتعدد الأضحية إذا كان هناك مقدرة، ولا بد للأضحية -إخوة العقيدة- أن تكون سالمة من العيوب، وهي أربعة: العرجاء والبيّن الواضح عرجها، والمرضية البيّن الواضح مرضها كالجرباء، والعوراء البيّن الواضح عورها، أو ناتئة عينها، وأما إن كان عورها يسيرًا فلا بأس، والعجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها.
وكلما كانت الأضحية أكمل وصفًا وذاتًا وسِمَنًا كانت أفضل، فاستحسنوا ضحاياكم واستسمنوها وطيبوا بها نفسًا.
هذا واعلموا أن وقت ذبح الأضحية محدود هو يوم العيد إلى غروب الشمس اليوم الثالث المعدود والليل والنهار في ذلك سواء، إلا أن النهار أفضل، وتجب التسمية على الأضحية والدعاء بالقبول، والتكبير سُنة.
وعلى الذابح أن يكون رفيقًا رحيمًا عطوفًا لينًا بأن يحدّ السكين، ويريح ذبيحته، ويتركها حتى تخرج روحها، وعلى الذابح أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين، ففي الصحيحين "فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ"، فالإبل تُنحر قائمة معقودة يدها اليسرى، وغيرها على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، يضع الذابح رِجْله على صفحة عنقها؛ ليكون أمكن لاستقرارها وعدم اضطرابها، فيؤذيها أو تؤذي غيرها.
ولا يحدّ السكين والأخرى تنظر إلى أختها، ولا يحدها أمامها قبل ذبحها، فليخرجها إذا دنا من ذبحها، ولا تُذبح وأختها تنظر إليها، ولا تلوى يدي البهيمة على عنقها من خلفها ولا تسلخ قبل أن تبرد ولا تكسر رقبتها قبل أن تموت.
فالراحمون يرحمهم الرحمن، "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" .
وإن كان المرء موكلاً أو موصًى فيقول: "بسم الله، اللهم عن فلان أو فلانة"، وإن نسي ذكر الاسم فلا حرج عليه، ولا يشترط في الذبح الطهارة والاغتسال، فيجوز ذبح الجنب والحائض والنفساء، وتُستحب مباشرة الأضحية وذبحها بيده لمن يحسن ذلك من ذكر وأنثى.
ومما يلاحظ على بعض الناس -أيها الناس- أنه يرسل أضحيته ليتولاها غيره، فلا يذبحها ولا يحضرها ولا يشاهدها هو وعائلته، وإنما تأتيه معلبة بأكياس مغلفة؛ خشية التأذي بها بدمها، وتوسيخ المكان، والأولى حضورها وذبحها وتنشئة الأهل والأولاد عليها، فقد كان أبو أيوب يأمر بناته بذبح أضاحيهن، وأقل شيء يحضرها.
هذا ولا يُعطى الجزار أجرته منها مقابلة عمله، ولكن يُعطَى ويُهدى له ويُتصدق منها أو غيرها على وجه الصدقة، والمضحّي مخيّر في أكلها وتوزيعها وإهدائها والصدقة منها، والإطعام من لحمها، فالأمر في هذا واسع، ولا حرج في ذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة وتحصل الفائدة والثمرة (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28]، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ) [الحج: 36]، وهو المستغني بما أعطيته وهو في بيته، (وَالْمُعْتَرَّ) وهو المتعرض لك من غير سؤال.
ولا يجوز بيع لحمها وجلدها وشحمها، لكن مَن أهدي له منها شيء أو تُصدق عليه فله التصرف فيها ببيع أو تصدق أو إهداء.
وبأيٍّ ذبح أجزأ، واليمنى أفضل.
ومما ينبغي أن يعلم ويُذكر فيُفهم أن المسح على ظهرها من رأسها إلى مؤخرتها أو عرض الماء عليها عند ذبحها أو تسميتها أو وضع الحنة على رأسها مما لا دليل عليه.
والأفضل ذبح الأضحية يوم العيد لأمرين؛ الأول من ذلك المسارعة، والثاني لتدخل في فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة، فهو اليوم العاشر منها.
وليتنبه للمزكي عليه أن يكون مسلمًا لا بوذيًا أو يهوديًا أو نصرانيًّا أو قبوريًّا أو وثنيًّا، وعلى باعة الأغنام الصدق في البيع والشراء في السن والصحة، وعدم الغش والكذب والتدليس، خصوصًا ممن لا يعرف سنًّا ولا وصفًا.
هذا وفي يوم عرفة -عباد الله- فهو يوم عظيم شرفه الله -عز وجل- فهو أعظم مشهد يشهده المسلمون، وما بعده إلا مشهد يوم القيامة، فعليكم -عباد الله- بصيامه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن صيامه يكفّر سنتين، هذا فيمن كان ليس بعرفة، ومن كان بعرفة فيُسن إفطاره ليتقوى على العبادة.
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي